محمود الوهب
لا شك في أنّ مرحلة نظام الأسد، أو الحقبة الأسدية/البعثية قد انتهت بأفكارها، واستبدادها، وأحزابها السياسية وبمفاهيمها وشعاراتها كافة! ولعلَّ الأهم من ذلك كله هو عُقْمُها التنموي، إذ إن دور الدولة، أية دولة في التاريخ، هو رعاية شعبها، وتأمين سلامه، ووحدة أراضيه، واستقلاها، والانتقال بالدولة والشعب على الدوام من حال إلى حال أفضل وأرقى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتجلياتها كافة عدالة وثقافة وعلماً وتعليماً وصحة! ومعلوم أن ألف باء الارتقاء هو الحرية الواسعة التي تفتح الأفق أمام إبداع المواطن الفرد في مجال نشاطه، وتطلعاته، ولا أتحدث حديثاً إنشائياً محلّقاً.. فالكل بات يعرف أن بقاء تلك المرحلة المشوَّهة، إنما يعود إلى عدم نضوج البديل المناسب في الدرجة الأولى، ولا شك في أن الوضع الدولي له دور بارز بيد أن الأمرين مرتبطان بعضهما ببعض..
نعم إننا على أعتاب مرحلة جديدة بأحزابها وقيادتها الشابة، وشموس حرياتها، وكأنني أسمع دبيب زحفها، من خلال ما يجري في الشمال السوري، وبعد أن استمر حراك السويداء عاماً كاملاً وكانت التوقعات ألا يطول أكثر من أسابيع قليلة.. الآن الوضع في سورية كلها على سطح من الصفيح الساخن بعضه ظاهر وبعضه مخفيّ.. وكأنما هو ثورة ثانية على أسس جديدة تتقدم على وعي يتجاوز أخطاء الماضي الذي صار خلفنا..
لا أقف هنا في مجال الناصح، لكن التجارب التاريخية تفرض أحياناً نفسها، وعلى ذلك أقول إن هبّة الشمال لعبت دوراً كبيراً ومهمّاً، وفرضت على الكبير والصغير أن يقف أمام مسؤولياته، فمن كان يتنمّر على السوريين من الداخل والخارج، صار يحسب حساباً لأي تصرف كان، فهو أمام شعب انتفض ضد أعتى استبداد في تاريخ سورية الحديث.. والكثير من الحوادث، تظهر هنا وهناك، تبرز هذا الأمر ولا أريد أن آتي بعيّنات فسياق الأحداث معروف للكل..
إن الدولة السورية القادمة لن تأخذ بالأكثرية أو بالأقلية، ولا بمسألة الأديان أو الطوائف أو القوميات! فلا تحاصص في وطن واحد.. فالمواطن السوري ذو تركيبة عجيبة، إذ عمره على هذه الأرض آلافٌ من السنين، هي كافية لتمزج أبناءه في عجينة واحدة.. ومن هنا نشير إلى حقوق المواطن المتساوية مع أخيه المواطن الآخر، وفق قانون يتفق عليه الجميع! إن حرية الفرد المحمية بالقانون تمنع أي شكل من أشكال الاستبداد كما تمنع المتاجرة بهذه الإيديولوجيا أو تلك مع حرية الاعتقاد التي يكفلها الدستور.. لقد تعايش أبناء سورية في العصر الذهبي الذي مرَّ على سورية في خمسينيات القرن الماضي، إذ سادت خلاله الديمقراطية رغم أن مستوى التعليم من الناحية الكمية كان أقل مما كان عليه قبل العام 2011.. لكن الديمقراطية نجحت، فنما الاقتصاد، ونمت السياسة ونما التعليم والثقافة والصحافة والأدب والفن، وغدت سورية منارة للبلاد العربية، ولم يفرق أبناءها دين أو طائفة فقد توافقوا على أن “الدين لله والوطن للجميع” ولا يزال أبناء البلاد العربية الذين كانوا يزورون سورية في تلك المرحلة يتغنون بها.. وقد ألهمت دمشق الكثير من شعراء مصر ولبنان وغيرها الكثير من الشعر الجميل! لقد كُلِّف توفيق الحكيم بزيارة سورية لتغطية أحد احتفالات سورية بيوم الجلاء حبذا لو يقرأ محبي جريدة “سورية الأمل” ما كتب آنذاك. (سأرسله للمجلة في عدد قادم)
لا يمكن لأي شعب أن يتقدم في عصرنا الحاضر ما لم تُتح له ممارسة السياسة بحرية تامة، وذلك عبر أحزاب، وصحافة حرة، ومنتديات اجتماعية وثقافية. إنَّ شعار الثورة السورية كان من كلمتين هما: حرية وكرامة، وأعتقد أن هاتين الكلمتين تختزلان الكثير مما سوف يكون عليه أسس بناء سورية المستقبل التي تستوعب كل مواطنيها..
الماضي عندنا لاستشفاف التجارب والخبرات لا للسكن فيه، إن الراغبين في البناء عيونهم دوماً على المستقبل مع قراءة دقيقة للواقع، ومعطياته، وأدوات تطويره وتقانتها! لم يتقدم الإنسان إلا من خلال حسن استخدامه للأداة، والإفادة منها، واختراعه أدوات جديدة.. إن جوهر العدالة الاجتماعية يكمن في التنمية، وزيادة الإنتاج إذ لا يمكن للدول المتخلفة أن تحقق العدالة بين الناس.. فالعدالة تحتاج إلى إنسان متقدم في إنتاجه كما هو متقدم في المعرفة ومحبة الآخر..
أخيراً أقول للشباب الذين جددوا روح الثورة في الشمال السوري: بوركت همتكم، وبورك مسعاكم الوطني النبيل.. ولتكن شعاراتكم مدروسة سياسيًا. تصرفوا وكأنكم تقودون وطناً وشعباً.. ابتعدوا عن الاستفزاز، ووضحوا مطالبكم.. في علم السياسة لا يوجد قطع إلا في حالات خاصة من المجابهة العسكرية. قانون السياسة الأخذ والرد، وقراءة الواقع جيداً، والتقاط ما هو ضروري مفيد، ونبذ غير ذلك.. إن النجاح يتوقف على معرفة قواك جيداً والبناء عليها ووفقها..
وأختم برؤية لأحد السياسيين الكبار في القرن العشرين إنه: “ونستون تشرشل”: الذي قال: إنَّ “إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل..” نحن لا نريد بناء امبراطورية، فقد سقطت الامبراطوريات كافة لكن نريد بناء وطن ربما هو صغير بمساحته، لكنه كبير بجماله، وبأطيافه كافة، وفق عقل منفتح على روح العصر..
المصدر: سوريا الأمل