بسام يوسف *
لعل أخطر ما يواجه مجتمعًا ما هو ارتكاز معظم علاقات أفراده فيما بينهم أو مع الآخر على قوالب نمطية، ترسّخت داخل أنساق سلوكية، ثقافية واجتماعية في هذا المجتمع.
يُعرّف علم النفس الاجتماعي “التنميط” بأنه الحكم الصادر بسبب فكرة مسبقة عن شخص ما، أو فئة ما، أو أي تسمية تحدد جماعة ما. التنميط ليس بالضرورة سلبيًا، فقد يكون هناك تنميط إيجابي أيضًا، أو محايد، والأهم أن التنميط لا يتأثر كثيرًا بمستوى التعليم، أو الثقافة أو التطور الذي وصل إليه المجتمع، لأنه على الأغلب يصبح طريقة عمل يعمل بها الدماغ، تنمو ثم تترسّخ بفعل عوامل كثيرة.
رغم كل المعطيات، والمعارف، وتطور وسائل الاتصال وانتشار المعرفة، فإن التنميط المسبق لا يزال حاضرًا في معظم المجتمعات الإنسانية، لكنه بالتأكيد يتفاوت ويختلف بين مجتمع وآخر. أما كيف تُصنع الصورة النمطية وتترسّخ لدى الفرد أو الجماعة، فهذا يحتاج لبحث طويل ومعمّق، لكن يمكن القول إنه في مرحلة الطفولة الأولى تبدأ الصور النمطية بالتشكُّل سواء من داخل العائلة أو البيئة القريبة، ومن ثم تتعزّز وتزداد اتساعًا في تطور مراحل الحياة. باختصار، يمكن القول إن الثقافة المحيطة والأفكار السائدة في كل مرحلة هي مصدر أساسي في تشكيل الصور النمطية.
في وقتنا الراهن، لم تبقَ القوالب النمطية مستمدّة من الثقافة المحيطة فقط، أي لم تعد محصورة بالثقافة المحليّة المنتجة تاريخيًا داخل أي بيئة، بل أصبحت- ومعها الثقافة المحلية- عرضة لاجتياح ثقافي وإعلامي يُنتج في مراكز عالمية، ويُعمم على البشرية. أصبحت مواجهة هذه “الثقافة المعوْلَمة” بمثابة معركة يومية، شرسة وحادة تخوضها الثقافة الخاصّة بالمجتمعات ضد اجتياح “الثقافة المعوْلَمة” لها. هذه المعركة تُدار اليوم من مراكز كبرى لتفعل ليس في الثقافة فقط، بل في السياسة، الاقتصاد وكل الأوجه الأخرى للمجتمعات.
تصبح التنميطات المسبقة قاتلة وشديدة الخطورة على أي مجتمع عند توفر شروط خاصة في هذا المجتمع، وأهم هذه الشروط هو أن تكون التنميطات المسبقة المسيطرة سلبية ومفتتة للمجتمع. الكارثة الأفدح تكمن في ترافق هذا الشرط مع انهيار الدولة وعجزها عن القيام بدورها، وأيضًا مع انكفاء النخب الفكرية، الثقافية والسياسية عن لعب دورها الطبيعي.
تتوفر في مجتمعنا السوري شروط مثالية لأن تكون التنميطات المسبقة قاتلة، فنحن مجتمع متخم بالتنميطات الدينية، الإثنية، الطائفية، الجندرية والمناطقية وغيرها، وهي في معظمها تنميطات لا ترى الآخر إلا على نحو سلبي، وهي في معظمها أيضًا تستند إلى المقدس الذي يصعب التفكر فيه، أو مجادلته. يضاف إلى كل هذا تعزيز حضور هذا التشظي المستند على التنميط بعنف لا تنفتح سرديته بمعظمها إلا على الدم والعنف. ما يزيد الطين بلة هو غياب أي دور لفعل سياسي، أو ثقافي أو فكري في مواجهة أو في تخفيف انعكاس هذه التنميطات على علاقة السوريين ببعضهم.
بالعودة إلى علم النفس الاجتماعي أو علم الاجتماع، ثمة فكرة أساسية تسمى “الدور الاجتماعي”. تتلخص هذه الفكرة بأن الأفراد يستجيبون لأحداث حياتهم بطرقٍ يمكن التنبؤ بها، وأنّ سلوكياتهم تخضع للسياق الاجتماعي الذي نشؤوا فيه، أي أنّ الاستجابات اليومية للأفراد تخضع لمنظومة من التنبؤات، التوقعات، المعايير والسلوكيات على كلّ فردٍ أنْ يحققها، طبعًا إضافةً إلى بعض العوامل الأخرى. عندما يخرج هذا الفرد عن سياق هذه المنظومة، فإن هذا يسبب خرقًا للدور الاجتماعي المتوقّع، وبالتالي فإن هناك ما يستوجب المواجهة مع هذا الخروج. ربما يفسر هذا إلى حد كبير عدم قدرة السوريين حتى اللحظة على تلاقٍ هم بأشد الحاجة إليه، لأنه تلاقٍ يتطلب أولًا كسر منظومة التنميطات المسبقة.
يمكننا أن نلحظ تأثير التنميطات المسبقة في حياة السوريين في معظم تفاصيل حياتهم اليومية، السياسية، الاقتصادية أو الاجتماعية. ببساطة شديدة فإن اكتمال متطلبات التنميط المسبق هي فاتحة أي علاقة بين فردين سوريين لا يعرفان بعضهما من قبل. معرفة الطائفة، المنطقة، العمل والقومية و… تشكِّل الإطار الأساسي للعلاقة وحدودها. لا يغير في الأمر هذا الادعاء الذي يعقب هذه المحددات بأن الأمر غير مهم، ونحن أبناء وطن واحد، وما إلى ذلك من عبارات. أيضًا على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن ملاحظة مدى تأثير التنميطات المسبقة على معظم حوارات السوريين. الأخطر من كل هذا هو حضورها في التجمعات السياسية أو المدنية التي يؤسّسها السوريون.
لا يمكن للسياسة أن تؤطّرها التنميطات المسبقة، فالسياسة في غايتها الأهم تسعى لإدارة مصالح أفراد المجتمع وحمايتها وتطويرها، وبالتالي فإن مقتل السياسة المتعلقة بمجتمع ما، إنما يكمن في نفي مصالح الآخرين، وفي التعارض معها. هذا يقود إلى الاستبداد، وبالتالي انهيار الدولة عاجلًا أو آجلًا. لعلّ تعزيز حضور التنميطات المسبقة، وتعميق فرزها، وجعلها معيارًا أساسيًا لعلاقة أفراد أو مكونات مجتمع ما، هو أهم ما يعتمد عليه الجيل الرابع من الحروب، حيث تُشكّل فكرة انهيار مجتمع العدو ليس بفعل عسكري واضح، أي ب”القوة الخشنة”، إنما بانهياره من داخله ب”القوة الناعمة” بفعل تصارع قواه الذاتية.
أخطر ما في التنميطات المسبقة هو أنها قد يصعب السيطرة عليها، فالاستجابات المتحيّزة أو المرتكزة على تنميط مسبق، هي على الأغلب غير مدركة من قبل حاملها، لأنها تصبح ركيزة أساسية من ركائز محاكماته وآلية تفكيره. لأن الوعي والذاكرة بصفتهما منطلقًا لعقولنا في التوصل للأحكام، هما نتاج ملاحظات الحياة اليومية المثقلة بالتنميطات التي تجمعها عقولنا، ثم ترتبها وتصنّفها على صيغة معلومات تحفظها الذاكرة، وبالتالي فإن اعتقادنا بأننا منطقيين في معالجة الحدث الذي نعيشه هو اعتقاد مخادع، فنحن أساسًا نجري معالجة سريعة وتلقائية بعقل متحكم به من ذاكرة ووعي تُشكّل التنميطات المسبقة جوهرهما.
ربما نحتاج إلى وقت طويل لنكتشف أن استبعاد القوالب النمطية ضرورة لنا مثلما هي ضرورة للآخر، والتخلي عنها خطوة لا بدّ منها لقيام مجتمع قابل للحياة والتطور. لعلّ تجربة السنوات الثلاث عشرة من عمر الثورة السورية، هي أهم تجربة يمكن أن يتعرض لها أي مجتمع لوعي هذه الضرورة.
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا