الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قرية صُميل: ما بين تراب الخليل وهوى غزّة

علي حبيب الله *

بئر الخليل:

على بئر الخليل وفيها، ظلّت ذاكرة صُميل إلى ما بعد الوجع والرحيل. هي البئر الّتي يقال إنّ عمقها كان يزيد عن الأربعين مترًا في باطن أرض صُميل من جنوبها على طريق قرية الفالوجة حيث كان موقعها، والّتي كانت مسقى كلّ أهالي القرية على مدار مئات السنين. وبئر الخليل، نسبة لإبراهيم الخليل النبيّ، الّذي يروى بأنّه كان يعرّج عليها للشرب منها أثناء مروره عندها في طريقه قادمًا من الخليل إلى مصر. وفي رواية أخرى يقال إنّ من حفر البئر هو النبيّ إبراهيم نفسه(1). وكان من عادة أهل صُميل عند نزحهم (نشل) الماء منها إلى خوابي وجوابي الشرب، أن يجعلوا أوّل دلو منقول منها وآخر دلو كذلك عن روح النبيّ إبراهيم(2).

لم تكن البئر وحدها من نسبت في تسميتها إلى “الخليل” إبراهيم النبيّ، إنّما صُميل القرية نفسها أيضًا كان يطلق عليها بعد تحريرها من أيدي الصليبيّين في زمن المماليك اسم “بركة الخليل”(3). وذلك قبل أن تستردّ في العهد العثمانيّ على البلاد اسمها القديم “صُميل”. فالقرية قديمة في اسمها منذ ما قبل الفتح العربيّ للبلاد. عمومًا، ظلّت صُميل في التاريخ الحديث قبل نكبتها تسمّى بـ “صُميل الخليل” نسبة لمدينة الخليل الّتي ظلّت القرية تتبع لها إداريًّا طوال التاريخ العثمانيّ إلى أن حلّ الاستعمار البريطانيّ على البلاد وجعل صُميل تتبع للواء غزّة من الناحية الإداريّة. ومع ذلك، فتسمية القرية بـ “صُميل الخليل” كانت لتمييزها عن “صُميل يافا” الّتي صارت لاحقًا قرية المسعوديّة(4).

أصل التسمية:

هناك أكثر من رواية، عن أصل تسمية “صُميل” منها، الرواية الّتي أشار إليها مصطفى الدبّاغ في موسوعته، والّذي ردّ اسم القرية إلى “صموئيل” أحد قادة الصليبيّين من فرسان الإسبتارية الّذي بنا في موقع القرية قلعة صليبيّة عام 1168م كحماية لحامية عسقلان الصليبيّة(5). بعد تخليصها من أيدي الصليبيّين، قام لاحقًا السلطان المملوكي برقوق (المتوفّى سنة 1399م) وأوقفها لحرم إبراهيم الخليل، وسمّيت في حينه “بركة الخليل”(6). إلّا أنّ اسم “بركة الخليل” لم يغلب عليها، فعاد إليها اسمها الأوّل “صُميل الخليل”.

أمّا الروايات المحلّيّة المتوارثة لدى أهالي صُميل عن أصل تسمية قريتهم، فمنهم من يقول إنّها أنشئت في عهد النبيّ صموئيل(7). بينما الرواية الأكثر شعبيّة هي تلك الّتي تقول إنّ إنشاء القرية يعود إلى العصر البيزنطيّ ما قبل الفتح العربيّ – الإسلاميّ للبلاد حيث كان في بيت جبرين في حينه حاكم اسمه “الفنش” وله ابن يدعى “صموئيل” والّذي ملك أراضي القرية، كما كان له فيها قصر ظلّت بقاياه في صُميل باقية، وتحديدًا في دار عبد الرحمن عوض(8) وقد حملت القرية اسمه، ثمّ حرف اسم القرية إلى صُميل. وممّا يدعم الرواية الأخيرة، “طور الفنش” في بيت جبرين، وهو عبارة عن تلّ مرتفع يمتدّ فيه كهف كبير ظلّ يتذكّره أهالي بيت جبرين في قريتهم إلى ما بعد النكبة.

في الموقع والأثر:

إلى الشمال الشرقيّ من غزّة المدينة كانت تقع صُميل على بعد 40 كم، وكانت تتاخم من جهتها الشرقيّة لواء الخليل حيث يفصلها عن الخليل المدينة قرية ذكرين المهجّرة. ومن قرى قضاء غزّة، كانت تحيط بها كلّ من تلّ الترمس والجلديّة وبعلين والجسير، وهذه الأخيرة كانت الأقرب إلى صُميل، فقيل: “ولع السيجارة بصُميل بتطفيها بالجسير”(9). أمّا من قرى قضاء الخليل فكانت تحيط بها قرى برقوسيا وذكرين وزيتا وكلّها مهجّرة. وقد امتدّت أراضي صُميل على مساحة قاربت الـ 20 ألف دونم، تملك الصهاينة منها 2620 دونما قبل النكبة، بعد أن سرّبها بعض ملّاك مدينة غزّة لهم(10).

في صُميل واديان أحاطا فيها، الأوّل: “وادي الصحرى” الّذي كان يمرّ من شمال القرية، والملفت في تسميته أنّه نسبة لمقبرة القرية، فأهل صُميل كانوا يطلقون على مقبرتهم تسمية الصحرى(11). أمّا الواد الآخر الّذي كان يمرّ من جنوب القرية هو “وادي قشطة”، ويلتقي الواديان غربيّ صُميل، ليكونا “وادي القاعة”. وإلى الجنوب أبعد عن صُميل على طريق قريتي الفالوجة وعراق المنشيّة، كان واديان آخران، هما: “وادي البرّ”، و”وادي الغار” الشهير الّذي كان يأتي هذا الأخير حاملًا مياه الشتاء من جبال الخليل مارًّا وقاطعًا الطريق على امتداد صُميل الجنوبيّ، للحدّ الّذي كان يعيق الواد فيه حركة أهل القرية إلى قرى عراق المنشيّة والفالوجة. ففي حملات ماء وادي الغار شتاء، يذكر أهالي صُميل بأنّهم كانوا يضطرّون الخروج بأنفسهم لملاقاة أولادهم العائدين من المدارس من أجل شدّهم بواسطة حبل مربوط طرفه بحجر، يرمونه للضفّة الأخرى من الواد، ليلتقطه الأولاد ثمّ يعبروا الماء بسلام(12).

لقد قامت صُميل، على إرث كفري (أثريّ) يعود إلى مراحل موغلة في القدم منذ “غات”، واحدة من مدن الفلسطينيّين الخمس القديمة. كما في القرية بقايا أثريّة من القلعة الصليبيّة، فضلًا عن بركة ماء أثريّة أطلق عليها أهالي القرية اسم “بركة الدبش” لأنّها مبنيّة من حجار الدبش الضخمة. إضافة إلى خربة “أبو عرام” العتيقة الّتي كانت تحوي مغارة أرضيّتها من الفسيفساء.

قبيل النكبة، وصل تعداد سكّان القرية إلى ما يقارب الألف نسمة أو أقلّ قليلًا، وكانت صُميل تقسم إلى حارتين تاريخيّتين: الشرقيّة والغربيّة، يسكنهما ستّ حمائل أساسيّة، ثلاث في الشرقيّة، هي: رمضان وعوض وصبح، وكذلك في الغربيّة ثلاث: الدرباشي وسلمي وسالم. ولكلّ حارّة كان ثمّة مختار خاصّ بها. وكانت هذه الحمائل الستّ تمثل في عضويّة- عضو عن كلّ حمولة- مجلس إداريّ للبلد لمساعدة المخاتير. أمّا عن جامع القرية الوحيد فيها، وهو جامع الشيخ خضر، فيقال إنّه أقيم على أنقاض كنيسة صليبيّة كانت في صُميل(13).

ذاكرة الدرمة:

بيضاء بلون اللبن، من الطوب واللبن، كانت بيوت صُميل، وقد ساكنتها عصافير الدوري بأعشاشها المخبّأة في طفاطيف البيوت على ما ظلّ يتذكّرها أهلها المهجّرون منها. لكلّ قطعة أرض في صُميل اسمها، ولكلّ شبر فيها حكاية، فأرض “ظهر البطة” بقيت تعزّ على أهلها أكثر من سواها، بعد أن سرّبت قبل النكبة للصهاينة الّذين بنوا فيها مستعمرتهم “نحله أو نحلا” جنوبيّ صُميل بعد نكبتها سنة 1953. أمّا أرض “العطن” الكفريّة، تلك الأرض الّتي عرفها أهالي القرية مبركًا للإبل والجمال، وأعراس الصيف القصير ما بعد الحصاد، وقبل أوان الخريف. بينما “أبو حليوز والقاعة الغربيّة، والشاميّات وأمّ عبيد والسبترية” فكلّها أراض امتدّت مفلوحة تغل على أهلها القمح والشعير، والكرسنة والجلبانة والعدس. كان قمح الصليبة المذرى على ريح صبا صُميل الشرقيّة، مضرب مثل أهلها، ومفخرة غنائهم(14).

عاش أبناء صُميل فيما بينهم على التآخي، يلبّي بعضهم آخ بعضهم الآخر، فمن أشهر عاداتهم كانت “الخروج” في رمضان، حيث لم يكن بتناول أهل القرية طعام إفطارهم إلّا جماعيًّا على مدار الشهر الفضيل. وفي الموت والمآتم، تراحم أهل صُميل على ما كان يعرف بينهم بطعام “الدرمة”، فكلّ بيت في القرية دائمًا ما كان مدروما لبيت آخر، فيقال بعامّيّتهم: “إحنا مدرومين لبيت الميّت”(15)، أي مدينين لأهل المتوفّى بوجبة طعام تقدّم كواجب وسداد دين.

نهاية:

“كانت مشاركتنا في الثورة وجدانيّة أكثر منها فعليّة” يقول الحاجّ عبد المعطي الدرباشي عن مشاركة أهالي صُميل في أحداث الثورة الكبرى (1936-1939) على الاستعمار البريطانيّ في البلاد. ولكنّ هذا لم يعن عدم التحاق بعض أبناء صُميل بالثوّار والثورة في المناطق الجبليّة والشماليّة، فقد ظلّ يتذكّر أهالي القرية كلّ من إسماعيل إبراهيم الدرباشي الّذي عرفوه قائد فصيل في الثورة، وأحمد الراعي الّذي كان يجاهد تحت قيادة القائد الشهيد الشيخ حسن سلامة في القطاع الأوسط يافا- اللدّ- الرملة(16).

كما شارك أهالي صُميل بالهجوم على مستعمرة “غات” عند قرية عراق المنشيّة في أواخر سنوات الثورة الكبرى، حيث كان بناؤها ما يزال من أكشاك الخشب، وطردوا يهودها منها وقتها. إلّا أنّ مستعمرة “كريات غات” أعيد بناؤها بعد النكبة.

سقطت قرية صُميل في أحداث النكبة سنة 1948، خلال إحدى الهجمات الّتي كان لواء غفعاتي الصهيونيّ يشنّها جنوبًا. وذلك في أثناء ما يعرف بفترة “الأيّام العشرة” أي ما بين هدنتي 8 و18 تمّوز/ يوليو 1948 (17). ولم بالتحديد اليوم الّذي احتلّت فيه القرية. وقد أقيمت على أراضي صُميل أربع مستعمرات هي: “كدما” في سنة 1946، و”منوحا” ثمّ “نحلا” في سنة 1953، وفي سنة 1968 أنشأ الصهاينة مستعمرة “فردون” على أراضي كانت تابعة لصُميل.

………………

إحالات:

(1) صبح، جادّ اللّه، صُميل، مقابلة شفويّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الرواية الشفويّة للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 15-9-2005.

 (2) الدرباشي، عبد المعطي، عبد الرحمن، صُميل الخليل قريتي: دراسة تاريخيّة اجتماعيّة اقتصاديّة وتعليميّة، دار الينابيع للنشر والتوزيع، 2000، ص17.

 (3) المرجع السابق، ص 15.

 (4) المرجع السابق، ص15.

 (5) الدباغ، مصطفى، موسوعة بلادنا فلسطين، ج1، ق2، ص220 – 221.

 (6) الخالدي، وليد، كي لا ننسى، نقلًا عن موقع فلسطين في الذاكرة.

 (7) الدرباشي، عبد المعطي، المرجع السابق، ص 19.

 (8) المرجع السابق، ص 19.

 (9) الدرباشي، عبد المعطي، صُميل، مقابلة شفويّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الرواية الشفويّة للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 27-12-2004.

 (10) سكيك، إبراهيم خليل، غزّة عبر التاريخ، ج6، ص 28.

 (11) الدرباشي، عبد المعطي، المقابلة السابقة.

 (12) صبح، جاد اللّه، المقابلة السابقة.

 (13) الدرباشي، المقابلة السابقة.

 (14) الدرباشي، صُميل الخليل قريتي، 59.

 (15) الدرباشي، المقابلة السابقة.

 (16) الدرباشي، صُميل الخليل قريتي، ص 66.

 (17) الخالدي، المرجع السابق.

ـــــــــــــــــــــــ

* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.