الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ابن بطوطة: من تونس إلى الإسكندرية(2/2)

د. عاطف معتمد *

قبل سنواتٍ خلت زرتُ تونس، لهذه البلاد شخصية مدهشة لا تشبه فيها أحدًا، وعلاوة على تفقدي نماذج من جغرافية البحر والجبل والغابة والواحة، زرتُ أيضًا في تلك البلاد الجميلة جامع الزيتونة.

لكم من سوء حظ أن وقع في نفسي شيء كالذي يقع عادة حين يصل المُسافر تلك الأماكن الشهيرة التي سرح فيها الخيال طيلة سنوات طوال قبل رؤيتها رؤيا العين، فإذ هي في الحقيقة أقل بنحو 10 مرات من صورتها الأسطورية في العقل والروح.

الحقيقة أن الطريق إلى جامع الزيتونة كان سببًا في تواضع الانبهار. فالمحال التجارية التي تنتشر في دكاكين وأزقة وبازارات تخطف الأبصار، كما لو كنت في طريقك إلى جامع الحسين أو السيدة أو الأزهر مرورًا بألوان وأواعي ونحاسيات وفضيات وسلع من كل صنف وبهارات من كل لون.

لم أكن سعيد الحظ في الزيتونة، فغادرته دون شغف كبير، والحق أن زيارتي لمسجد القيروان كانت أفضل وأكبر أثر في النفس، ففي القيروان متسع في المكان، وفسحة من الأفق، وتخفف من الفوضى السياحية.

ولكي أكون منصفًا، يجب ألا أفوِّت موقفًا طريفًا أعجبني في سوق الزيتونة أكبرتُ فيه اعتزاز أحد تجار تونس من أصحاب البازار، حين وبخَ سائحًا أشقر الهيئة، لأنه التقط صورًا له، وهو جالس غافل في دكانه من دون إذنه، فقال صاحب الدكان بلغة عربية جميلة ولهجة تونسية مشهورة ما معناه «أين الذوق والثقافة التي تتحدثون عنها.. لسنا تُحفًا ولا حيوانات في الغابة لكي تأخذوا لنا صورًا من دون استئذان!».

كان المشهد حيًا نابضًا، ولم تمضِ دقائق حتى عاد الهدوء وقَبلَ التاجر اعتذار السائح الأجنبي بعد توسط عدد من المارة من أهل السوق المحيط بجامع الزيتونة العريق.

تذكرتُ ابن بطوطة الذي جاء هنا قبل 700 سنة، فشهدَ عيد الفطر وانضمَ بعدها إلى موكب الحج المنطلق إلى الحجاز فمرَ بمدن الساحل الشهيرة: سوسة، صفاقس، وقابس.

من «قابس» خرج الركب الحجازي إلى طرابلس (ليبيا) طالباً مكة والمدينة فانضم إليهم ابن بطوطة سريعًا، ولم تحظَ تونس باهتمام كبير من رَحالَتِنا الكبير حتى إن كاتبَ رحلته (ابن جزي) اضطر إلى إضافة أبيات من الشعر المحفوظ يحشو بها محطة تونس التي تكاد تخلو من وصف أو إبداع.

لم يعطِ ابن بطوطة تونس أهمية كبيرة، فقد كان قد خرج للتو من مرض الحمى الذي أصابه في محطة الجزائر، فكان في قليل من الصحة وعوز من المال. كما أن تونس ليست غريبة عن اللاندسكيب (مشهد الأرض ومعالمه) المعروف في بلاد المغرب.

لقد اتبع بن بطوطة الطريقة التي يعرفها كل من يبدأ رحلة طويلة، أعني الاحتفاظ بأكبر قدر من طاقة السفر لبقية المشوار الطويل، ولذلك سنجده بمجرد عبوره طرابلس ووصوله إلى مصر يكشف لأول مرة عن شخصية الرحالة المُغامر المستكشف الشغوف، وذلك بوصوله إلى الإسكندرية. من أهم ما يصفه لنا بن بطوطة المكان الذي تشغله اليوم «قلعة قايتباي» في غرب الإسكندرية.

سنقع في خطأ «المفارقة التاريخية» إذا استخدمنا اسم «قايتباي» في زمن بن بطوطة، لأن هذه القلعة الحصينة شيدها السلطان المملوكي الشهير «أبو النصر سيف الدين الأشرف قايتباي» في 1479م أي بعد زيارة ابن بطوطة للإسكندرية بنحو 150 سنة.

حين وقف ابن بطوطة هنا كان البطل مَعّلماً سابقاً على القلعة وهو «منار الإسكندرية».

في الإسكندرية يولد ابن بطوطة رحالة بالمعنى الكامل، ففي رحلته من المغرب مروراً بالجزائر وتونس وطرابلس (ليبيا) لا نكتشف مهارات الرصد والترقب والتصوير اللفظي.

في عام 1325 ميلادية يقف ابن بطوطة عند الباب الغربي للإسكندرية فينشد قائلاً:

“وصلنا إلى مدينة الإسكندرية حَرَسَها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشان، الأصيلة البنيان، بها ما شِئْتَ من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودِين، كَرُمَتْ مغانيها، ولَطُفَتْ معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة تجلى سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغْرِب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرِب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها، وقد وَصَفَها الناس فأطنبوا، وصَنَّفُوا فى عجائبها فأغربوا”.

يصف ابن بطوطة الإسكندرية بأنها “الخريدة” وهى كلمة فريدة لا يعرفها قاموسنا العربي الحديث وتعني “اللؤلؤة الفريدة” التي عادة ما تُتخذْ درةً للتاج.

أول ما يستوقف ابن بطوطة في مدينتنا مرساها العظيم، وعنه يقول:

«ولم أرَ في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى قاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك، ومرسى الزيتون ببلاد الصين».

لو كان ابن بطوطة كتب وصفه للإسكندرية بمجرد الوصول لجاء مجحفًا أو مبالغًا، لكنه دوَّنَ مشاهداته عن الإسكندرية بعد أن أتم الرحلة التي فاقت ربع قرن في مدتها، ومن ثم فهو هنا يقدم لنا الرأي الخبير القائم على المقارنة مع موانئ العالم المعروف آنذاك.

منارة الإسكندرية كما لا يخفى علينا لا علاقة له بمنارة المساجد وإن تشابه الاسم، فمنار الإسكندرية مشتق من وضع «النار» على أعلاه، وهي وظيفة ربما اتخذتها بعض منارات المساجد للإنارة وهداية المصلين في عتمة الليل إلى طريق المسجد.

لا يستخدم ابن بطوطة مسمى «فنار» الذي نعرفه اليوم والمرتبط بالكلمة اليونانية «فار» التي كانت توصف للأضواء الكاشفة التي كانت توضع لهداية السفن في البحر، ولعل كلمة فار هي نفسها التي جاءت منها كلمة «فاروس» الاسم الذي تحمله جزيرة «فاروس» ذات الصلة الوثيقة بتأسيس كل من المنار وقلعة قايتباي.

حين وصل ابن بطوطة إلى المنار لم يكن المبنى يحمل شعلة من النار أو مصباحًا مضيئًا هاديًا، فقد توالت القرون وبلغه ابن بطوطة في الربع الأول من القرن 14 ولم يبقَ منه إلا أطلال حتى إنه يقول إنه رأى منه أحد جوانبه متهدِّمًا. وقد وصفه قائلًا:

«بناء مُرَبَّع ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع على الأرض، وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وُضِعَتْ بينهما ألواحُ خشب يُعْبَر عليها إلى بابه، فإذا أزُيلَتْ لم يكن له سبيل، وداخِلُ الباب موضع لجلوس حارس المنار، وداخل المنار بيوت كثيرة. وهو على تل مرتفع، وبينه وبين المدينة مسافةٌ ويحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة».

وبعد ما يزيد على ربع قرن من الرحلة عاد ابن بطوطة إلى وطنه مارًا بالإسكندرية أيضًا فذهب لزيارة المنار فوجده:

«قد استولى عليه الخراب؛ بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه، وكان الملك الناصر رحمه الله قد شَرَعَ في بناء منار مثله بإزائه، فعاقهُ الموت عن إتمامه».

محطات أخرى عديدة مر بها بن بطوطة في الأراضي المصرية، ولعلنا نعود إليها فى مقالات مقبلة.

* كاتب أكاديمي وأستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.