د. عاطف معتمد *
قبل 10 سنوات التقيت في مؤتمر بدولة أوروبية أستاذًا يوغسلافيًا اسمه «أندريه كرانيا»، وحين تبادلنا الحوار أخبرني بأنه زار مصر في سنوات التكوين.
فبعد تخرجه في كلية العلوم في عام 1965 منحهُ والداه نفقات رحلة لمدة عام كامل حول دول البحر المتوسط، وقالا له: «لقد تعلمتَ على السبورة وفي المعمل (المَخبر) المُغلق الكثير، وأنت الآن في حاجة لأن ترى العالم على حقيقته».
سافر صاحبنا خلال عام كامل في عكس اتجاه عقارب الساعة، فانطلق من “ليوبلانا” في يوغسلافيا إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا وإسبانيا ومن ثم إلى المغرب والجزائر ثم بلغ مصر فطاف بالوادي والصحراء ومن هناك إلى تركيا قبل أن يقفل راجعًا إلى موطنه.
ليست كل تجارب السفر متاحة في سن 22 سنة لأبناء أسر ميسورة الحال كصاحبنا اليوغسلافي. أذكر أنني في سنوات الدراسة الأولى في روسيا كنت قد شاركت غرفة السكن مع شباب تخرجوا للتو في الجامعة، جاؤوا من الولايات المتحدة وبريطانيا أو أيرلندا. وكانوا يقومون بالتعرف على روسيا دون نفقات تقريبًا.
ففي تسعينيات القرن العشرين، كان الجيل الصاعد في روسيا يقبل بشغف على تعلم اللغات الأوروبية لتلحق بالنموذج الغربي إبان عهد بوريس يلتسين وجوقة من السياسيين رفعوا شعارات الإصلاح الاقتصادي والديمقراطي، وكان الاهتمام باللغة الإنجليزية في ذروته. وكان هؤلاء الشباب الغربيين يأتون لتدريس اللغة الإنجليزية في المدن والبلدات الروسية دون أن يكونوا خبراء في اللغة بل مجرد حديثي التخرج في تخصصات شتى، يعلمون الشباب الروس لغتهم الأم مقابل أجر زهيد يوفر لهم نفقات السفر والإقامة ووجبات متواضعة.
هذا النوع من السفر والعمل كان منتشرًا في التسعينيات بشكل كثيف، ليس فقط لأهداف تعليم اللغة بل لأهداف دينية في إفريقيا أيضًا.
في تلك السنوات أيضًا، تعرفتُ على فتاة سلوفاكية، وقد تفتَحَ وعيها خلال مرحلة تفكك الشيوعية والاشتراكية وبزوغ الرأسمالية وبعض أنشطة الجماعات الإنجيلية الوافدة من الولايات المتحدة.
سافرت الفتاة إلى بعض دول شرق إفريقيا لحساب منظمة إنجيلية تعمل بين الجماعات الأكثر فقراً في شرق القارة. ورغم أن هذه الفتاة السلوفاكية لم تكن مهتمة بالدين والتبشير إلى حد كبير فإن وظيفتها كانت حمل الأطفال من المرضى والأيتام في دار رعاية تشرف عليها هذه المنظمة. عملت الفتاة لنحو عامين وحصلت على مُرتب يعادل 5 أمثال راتب العمل في سلوفاكيا، وهو ما سمح لها بالإنفاق على رسالتها للدكتوراه في روسيا، وقتما تزاملنا في الجامعة.
يتكشف لك من خلال حديث أصحاب هذه التجارب أن رؤية العالم الواقعي في السنوات الأولى من العمر- سنوات التكوين- مفيدة للغاية في بناء وعي الإنسان وضبط برنامج التفكير وميزان الحكم على الأشياء.
قبل 700 سنة حين قرر ابن بطوطة أن يرتحل من طنجة، وهو ابن 22 سنة كان مبرره المُعلن هو أداء فريضة الحج والاعتمار إلى بيت الله الحرام.
يبدو الأمر مثيرًا لأصحاب نمطين من التفسير:
– المُهتمون بالعقيدة والدين وشعائر الحج يقولون إن القيام بهذه الرحلة في السن المُبكر أفضل من تأجيلها إلى سن الشيخوخة، إذ لا يليق بالمسلم أن يكون الحج تبييضًا لصحائف الحياة قبيل الموت، كما أن الحج عمل شاق ويحتاج إلى قوة وبنيان، والشباب أجدر به من الشيوخ.
– المُهتمون بالحياة وفهمها العملي يقولون لك إن الحج ليس شقًا دينيًا فحسب، بل هو أيضًا «نفعي دنيوي». وما قام به ابن بطوطة كان يصب في جزء كبير منه في اكتساب مهارات الحياة والاغتراف من فوائد السفر لرؤية العالم الواقعي.
خرج ابن بطوطة من طنجة في شهر رجب عام 725 هجري (حزيران/ يونيو 1325م) فوصل مكة في شهر الحج من عام 726 هجري (تشرين الأول/ أكتوبر 1326 م) أي بعد أكثر من 16 شهرًا من السَير على الأقدام وركوب الدواب، ستستمر الرحلة لتتجاوز ربع قرن وترى عوالم مختلفة تتجاوز فكرة الحج وأداء الفريضة رغبة في التعلم ومشاهدة منافع الحياة.
أول ما تَعلمَ ابن بطوطة، وهو في سن 22 سنة درس في الظلم وأكلْ حقوق الناس. ففي الجزائر يموت شيخ تونسي في قافلة الرحلة القادمة من المغرب ويوصي بماله (ثلاثة آلاف دينار من الذهب) إلى أبنائه الذين ينتظرون في تونس، وبينما الركب يتجه من الجزائر إلى تونس ومعهم المال ومعهم ابن بطوطة يستولي أحد الولاة في الجزائر على مال التاجر المتوفي ويأكلهُ عياناً نهارًا، ويحرم منه الأبناء والورثة، ويطرد الحجاج والمسافرين.
يضرب ابن بطوطة الشاب الأغر كفا بكف ويكاد يظن أن الحياة ليست إلا المكر والظلم وأكل حقوق الناس، ثم يحدث أن يصاب بالحمى ويكاد يتوقف عن الرحلة وهو بعد في أوُلى شهورها ويوصيه البعض بأن ينتظر إما للشفاء أو الموت في أرض مستقرة بدلًا من الموت مرتحلًا لكنه يقرر الموت في سبيل السعي والمسعى.
يتبرع أحد الصالحين بحَملهِ على دوابه وإعارته ما يريد من حوائج السفر. وبعد أن أعياه المطر والسفر فهلكت ثيابه ورقَ منظره تبرع له أحد الصالحين بثياب إحرام جديدة من أقمشة بعلبك الشهيرة. وإكراماً له، ومن دون أن يشعره بحرج، ربط له في ثوب الإحرام دينارين من ذهب يعينوه على أول الطريق.
يُكمل ابن بطوطة البداية الصعبة ما بين مشهدين للظلم والإحسان، ويعرف وهو في سن 22 سنة أولى مشاهد العالم الذي يخفي له الكثير.
بوصوله إلى تونس تغير الحال بابن بطوطة، يدخل إلى جامع الزيتونة. كانت الروحانيات في ذروتها، فالزيتونة جامع ومدرسة وجامعة وشيوخ وطلاب. يسميه ابن بطوطة «الجامع الأعظم». في هذا الجامع يصف لنا ابن بطوطة الأساطين التي يستند إليها الأئمة الكبار فيستفتيهم الناس في أمور دينهم، وكان العالم منهم لا ينصرف قبل أن يفتي في 40 مسألة.
شهد ابن بطوطة عيد الفطر في الزيتونة وانضم بعدها لموكب الحج المنطلق إلى الحجاز فمر بمدن الساحل الشهيرة: سوسة، صفاقس، وقابس.
من «قابس» خرج الركب الحجازي إلى طرابلس (ليبيا) طالباً مكة والمدينة فانضم إليهم ابن بطوطة، وهو يؤسس وعيًا جديدًا في سنوات التكوين.
في المقال المُقبل نتابع مع ابن بطوطة رحلته من تونس إلى الإسكندرية.
* كاتب أكاديمي وأستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة
المصدر: الشروق