سهيل كيوان *
تجري في إسرائيل، مطالبات كثيرة لتقييم ما حدث في يوم السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وكيف نجح تنظيم صغير مقارنة بقوة إسرائيل العسكرية، بتحقيق ضربة صاعقة، ظهرت إسرائيل فيها ضعيفةً ومرتبكةً، ثُمَّ عدم قدرتها على حسم الحرب في أطولِ حروبها. هناك أخطاء كثيرة منها الغرور، والثّقةُ الزائدة بالنّفس وبالتكنولوجيا الحديثة، والشّعور بأنّ حركة حماس غرقت في ملذّات الحكم، ولا تريد سوى استمرار الهدوء. مع هذا الدمار الهائل في قطاع غزة، وحرب الإبادة غير المسبوقة، يُطرح السؤال من الطرف الآخر، هل أخذت حماس بعين الاعتبار ردّ فعلٍ بهذا الحجم وبهذه الوحشية، وكيف بنت حساباتها؟
في اعتقادي أنّ حماس أخطأت في تقييمها أو توقّعها بالنّسبة لتعامل حكومة الاحتلال مع الأسرى الإسرائيليين، فقد كانت حماس تحتجز قبل الحرب أسيرين، أو ثلاثة أحياء وجثتين، وكانت تعتبرهما ورقة مهمة جداً، وتساوم على إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين مقابلهم، وكان يبدو كأنَّ أسيراً إسرائيلياً واحداً يشكّلُ ورقة ضغط كبيرة، كما كان الحال مع الأسير شاليط. كان تخطيط قيادة حماس العسكرية أن أسر عددٍ كبير من الجنود الإسرائيليين، سيكون ضمانة لصفقة تبادل أسرى، الكلُّ مقابل الكلُّ، وتشملُ وقف إطلاقِ نارٍ طويل الأمد، وفكِّ الحصار الطويل عن قطاع غزة، مهما كانت الضربة الأولى التي ستوجهها حماس موجعة، وهو ما حصل في الواقع، إذ أنها أسرَت أكثر مما توقّعته هي نفسها، ولكنها لم تتوقع أن تتعامل حكومة نتنياهو بمصير أكثر من مئتي أسير بهذه الصورة غير العابئة بحياتهم، بينما كانت في الماضي، تظهر اهتماماً كبيراً بأسيرٍ واحد، أو برُفات جندي، هذا المعيار حطّمته حكومة نتنياهو، واتّخذت من الرّهائن المدنيين بشكل خاص غطاءً لتبرير مجازرها بحق المدنيين الفلسطينيين، بل أصبحت معنيّة في بقاء المدنيين أسرى لدى حماس، لأنّها ورقة في التغطية على جرائمها وتطويل أمد الحرب.
تراجعت أهمية عدد الأسرى كثيراً، عندما صارت حكومة نتنياهو تبادر إلى قصف الأمكنة التي تتوقع وجودهم فيها، وقد أعلنت القسّام مراراً عن مقتل أسرى نتيجة القصف، إلا أنّ هذا لم يؤثّر على نهج حكومة الاحتلال، الذي لاقى تجاوباً شعبوياً، فالمجتمع الإسرائيلي نفسه، لم يُظهر تعاطفاً كافياً مع الأسرى وذويهم، لإرغام نتنياهو على عقد صفقة، بل إنَّ أهالي الأسرى تعرّضوا إلى عنف من قبل الشرطة وجمهور المتطرّفين واتُّهموا بإضعاف الجبهة الداخلية، وحتى الآن، فإن أعداد المتظاهرين الذين يغلقون الشوارع لإرغام الحكومة على صفقة غير كافٍ، ومن جانبها تضعُ حكومة الاحتلال كل العراقيل الممكنة لإفشالها، من خلال وضع شروط تعني انتحار حماس، مثل شرط منع عودة حماس إلى شمال وادي غزّة، أو نزع سلاحها، إضافة إلى ارتكاب مجازر رهيبة ضد المدنيين كوسيلة ضغط لتثوير الناس ضد المقاومة.
الحقيقة التي لم تُؤخذ بالحسبان، هي الصّدمة الكبيرة التي بيّنت إمكانية اختراق الدّفاعات الإسرائيلية والوصول إلى المستوطنات حتى البعيدة منها، بالسهولة التي حدثت فيها، واحتلال مركز للشُّرطة داخل إسرائيل لعدّة أيام، ومشاهد مستوطنات غلاف غزّة مهدمة ومحترقة، أحدثت انقلاباً في المعايير والمسلّمات، وطرحت تساؤلات حول وضع ومستقبل إسرائيل في المنطقة، فقد ظهر ضعفها واضطرار أمريكا إلى تحرّك فوري لإنقاذها، هذا جَبَّ ما سبقه من معايير معلنة وضمنية، وأشعَرَ المجتمع الإسرائيلي بأنّ ما يجري هو معركة وجود بالفعل، وليست جولة عابرة مثل الجولات العديدة السّابقة. هذا الشّعور بأنّها حرب وجود، عزّزه وجود عشرات آلاف النازحين من قرى غلاف غزّة ومن بلدات الشّمال القريبة من الحدود اللبنانية، الذين لا يستطيعون العودة حتى الآن إلى بيوتهم، وهذا لم يحدث من قبل، حيث كان أطول نزوح لجزءٍ من سكان الشّمال في حرب يوليو عام 2006 لمدة خمسة وثلاثين يوماً فقط. صحيح أن النزوح في إسرائيل ليس كالنُّزوح في قطاع غزة، فلا هو تحت القصف المباشر بأطنان المتفجرات، ولا هي حواجز إعدامات، ولا هو تجويع وهجوم داخل البيوت بالكلاب المتوحّشة، ورغم ذلك، فهنالك خسائر في الأملاك وفي الأرواح، وإغلاق عشرات آلاف الشركات الصّغيرة، وشعور بفقدان السّيطرة على الحدود، واختفاء الرّدع، إضافة إلى آلاف الأسر التي سافرت إلى خارج البلاد منذ بدء الحرب ولم تعد، هذا عزّز الشُّعور بأنّها حرب «نكون أو لا نكون»، وهو ما يروّج له نتنياهو لتبرير استمرار الحرب، وعدم القبول بصفقة، تُبقي على حكم حماس، وتعترف لحزب الله بإنجازٍ كبير، إضافة إلى الواقع الجديد الذي فرضه اليمنيون على الملاحة المتوجّهة إلى إسرائيل، وهو غير مسبوق في تاريخ الصراع الصهيوني العربي.
لا شكّ في أنّ قيادة حماس كانت تدرك العداء الذي يكنّه نظام عبد الفتاح السّيسي للحركة، التي يعتبرها أحد امتدادات تنظيم الإخوان المسلمين، وقد أخذت هذا بعين الاعتبار، ولكنها بَنتْ كما يبدو أملاً بأنَّ صمودها لفترة طويلة نسبياً وهو فعلته، سوف يحرّك الشّعوب العربية للضَّغط على أنظمتها، خصوصاً مصر والأردن اللتين تقيمان علاقات سلام مع إسرائيل، بأن تسهما بجدّية في الضّغط لوقف إطلاقٍ للنار، إلا أنّ صمود المقاومة وظهور قدراتها على المواجهة، أدى إلى ردّة فعل عكسية لدى الأنظمة، فانتصار حماس أو مجرّد بقائها بعد هذه المواجهة الطاحنة في السُّلطة ستكون له إسقاطاته، على الشّعب الفلسطيني والشعوب المجاورة، وهذا لا يعجب الأنظمة، حيث أن مصلحتها تتقاطع مع مصلحة حكومة الاحتلال، بالقضاء على المقاومة، خصوصاً أنها ذات طابع ديني، وذلك خشية أن تتحوّل إلى نموذج.
لهذا وظّفت الأنظمة قدراتها الكبيرة على القمع المباشر وغير المباشر، وحجب ما يجري على أرض الواقع من مجازر إبادة، من خلال أبواق إعلامية رخيصة تُحمّل مسؤولية جرائم الاحتلال للمقاومة، أو على الأقل تحمّلها مسؤولية متساوية مع حكومة الاحتلال. نظرة على الصحافة المصرية، تُخبرك، أنَّ ما يجري في قطاع غزة يأتي في مرتبة متأخِّرة جداً من الاهتمام، ما يعني تغييب المذابح عن الشّعب المصري، وتصريحات رسمية باهتة، تبدو كموقف جمعية خيرية إسرائيلية، عند الحديث عن ضرورة إطلاق سراح المختطفين، دون ذكر الأسرى الفلسطينيين، الذين يتعرّضون لتعذيب مُعلن حتى الموت في مراكز الاعتقال.
في بداية الحرب تحرّك الشّعب الأردني بصورة ضاغطة، وكان يمكن له أن يؤثر على الموقف الرّسمي لو استمرّ، ولكن سرعان ما جرى استيعاب الغضب واحتواؤه، واقتصاره على وقفات هنا وهناك بعد صلاة الجمعة، ثمّ يخرج مسؤول أردني ليعلن (كالعادة) بأنْ لا يزاودن أحدٌ على الأردن، وذلك بعد انتقادات لإقامة مهرجان جرش في هذه الظروف المأساوية، بمعنى أنّ ما يجري في قطاع غزّة هو شأن غزاوي-إسرائيلي داخلي. كذلك يبدو أنّ حماس بنت على أن نصراً عسكرياً في بداية الحرب سيحفّز الضفة الغربية، ويمنحها الأمل في القدرة على مواجهة الاحتلال، ولا بدّ أنّها أخذت بعين الاعتبار دوراً لعرب 48، وهو ما قاله أبو عبيدة في أولى إطلالاته، وهذا لم يتحقق، لأسباب كتبتُ عنها في مقالة سابقة. لا أعرف ما إذا كان السّنوار قد تنّبأ بأنّ الدّعاء لفلسطين في موسم الحج يُفسد الحِجّة، وأنّ رفع علم فلسطين في أكثر دول أمريكا اللاتينية وأوروبا، أسهل من رفعه في بعض المدن والعواصم العربية.
* كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي