نبيل عبد الفتاح *
تسيطر حالة من الصمت المشوب بالقلق، وبعض من الغليان في دول العسر العربية، ومجالاتها العامة المغلقة إزاء حالة الإبادة الجماعية الوحشية للمدنيين في قطاع غزّة، حيث السياجات الأمنية التي تحول دون التعبير السياسي عن مواقف الجموع الشعبية الغفيرة المناصرة للمقاومة والشعب الفلسطيني في ظل القمع المعلن في الحياة الفعلية في بعض هذه البلدان خشية انفجاره، وتداخله مع المشاكل الحية اليومية المتفاقمة في الحياة الفعلية!.
في الوقت ذاته والسياقات ذاتها تحوّلت الحياة الرقمية إلى فضاءات لبعض من الصراخ السياسي والغضب والنقد الحاد للقادة والحكومات الأقرب إلى الهجاءات السياسية والشخصية الصاخبة، ونظرية المؤامرة وسردياتها التي لا تجد صدى لها في المواقف السياسية للنخب الحاكمة والإعلام التقليدي.
ثمة حالة إعلامية مضادة في الصحف والقنوات الفضائية، تحملُ على نحو مباشر، أو مضمر، سياسات ومصالح كل دولة مموّلة أو تابعة لها، والتي ساهمت منذ فترات سابقة على الحرب وبعدها في حالة التطبيع المرئي للحضور الإسرائيلي وسط جماعات التلقي المرئي العربية التلفازية.
في بعض دول العسر ثمة تركيز على بث صور وفيديوهات طلقة، لسرديات الإشاعات حول الزواج والطلاق والحب والخيانة والرفقة، وأزياء الفنانات وإطلالاتهن في الحفلات العامة أو المصايف، وعزاءات المشاهير.. إلخ!، وبث هذه السلوكيات على منصات الإعلام بهدف كسر أية استقطابات سياسية جماهيرية حول حرب الإبادة الجماعية في غزّة.
هذه الحالة الإعلامية السياسية المنظمة ترمي إلى إشاعة وتوظيف الخوف من الحرب والدمار لإنتاج حالة من الصمت والقلق وصرف الانتباه عن تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفجرة، والحياة عند الحافة للأغلبيات الشعبية المعسورة، وتآكل الطبقات الوسطى والخوف من الانفجار والفوضى والاضطرابات المحمولة على العنف الطليق، حال العودة إلى انتفاضات الربيع العربي المجهض مجددًا.
التوظيف السياسي لرهاب الخوف يرمي إلى السيطرة وتيسيرها أمنيًا، لكن إلى حين!.
ظاهرة الخوف الفردي أو الجماعي، بعضها مرجعه غياب الإحساس بالأمن والأمان لأسباب سياسية وتاريخية منذ عمليات بناء الدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية، وعدم استكمال شرائطها البنائية، وأيضًا إدراكها في الوعي الفردي والجمعيّ، وارتكازها على الأمن وأجهزة القمع “المشروعة”، وشكلية أو غياب ضمانات الحريات العامة والشخصية، والأخطر مسألة التباس الوعي النخبوي والجماهيري بمفهوم ومعنى الدولة، والخلط بينها وبين القمع السلطوي للنظام الحاكم وأجهزته، والدمج في بعض الحالات بين الدولة وبين السلطان المُتغلب!.
مشكلة غياب أو تشوش الحسّ الفردي أو الجمعي بالحقوق والحريات العامة والشخصية، كحقائق مجسدة في الواقع ومقررة في السلوك السلطوي وحياة المحكومين، جعلت الجموع الغفيرة تخشى التعبير عن آرائها عبر التظاهر أو رفض المواقف الرسمية إزاء أزمات ما داخلية أو خارجية، وهو ما يرجع إلى نشأة دولة ما بعد الاستقلال ومشاكلها، وخاصة ضعف الحماية القانونية والقضائية للحقوق والحريات العامة والشخصية في غالب البلدان العربية.
مشكلة الدولة ما بعد الكولونيالية في عالمنا العربي تتمثّل في هيمنة إدراك سياسي لدى غالب آباء الاستقلال وخلفائهم ومن انقلبوا عليهم، يتمثّل في حالة من الدمج بين الدولة كمفهوم رمزي متعالٍ يتجاوز أركانها ومكوناتها وبين النظام ورمزه الحاكم الفرد، وانحيازات بعضهم للمكونات الأساسية التي جاءوا منها، على نحو أدى إلى إقصاءات وتهميش للمكونات الأخرى لا سيما الدينية واللغوية والعرقية، ما عزّز الانقسامات بين هذه المكونات، ومن ثم فشل مبادئ المساواة والحرية الدينية ومبادئ وحقوق المواطنة وسياسات التكامل الوطني حول بوتقة الصهر.
الأخطر أنّ بعضهم أدرك الدولة والنظام حول مركزية السلطة التنفيذية والحاكم الفرد، ومن ثم تهميش النظم الدستورية، والفصل والتمايز والتعاون بين السلطات وتحوّل السلطة التشريعية إلى سلطة تابعة للتنفيذية واقعيًا، والدمج بين السلطات حول الحاكم ومراكز القوة حوله.
من الملاحظ أيضًا أنّ النزعة للتجريم والعقاب باتت سمة الأنظمة التشريعية والتنفيذية العربية، بينما العالم اتجه منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الردة عن التجريم دعمًا للحريات، مرجع ذلك الميل للسيطرة، والانفصال بين القانون والتنمية والحريات والسياسات الاجتماعية عربيًا، وهو ما أدى إلى ضعف فعالية القانون وسيادة قانون القوة والنفوذ والفساد، وشيوع الفوضى واللامبالاة بدولة القانون. ومن ثم ازدياد الحس الجمعي بالخوف من انتفاضات جماهيرية بعد الربيع السياسي المجازي!.
في بعض دول الربيع العربي المجهض تأثّرت الجماعات القضائية ببعض الاضطراب والفوضى التي حدثت في هذه البلدان، وهجوم بعض الجماعات الإسلامية على المحاكم والقضاة، وتعيين بعض الموالين لهم في مناصب قضائية على نحو أثّر سلبيًا على عمل النيابة العامة والقضاء.
ومن هنا يمكن القول إنّ القيود المفروضة على استقلال القضاء والقضاة أدت إلى إضعاف الحداثة القانونية وفعالية القوانين وضماناتها في حماية حقوق وحريات المواطنين في الحياة العامة ومجالاتها المختلفة، على نحو أدى إلى تفشي ظواهر الفوضى النسبية والخوف المحمول عليها.
من ثم نستطيع فهم العلاقة بين غياب ضمانات الحقوق والحريات، والخوف من الاضطرابات والعنف وتأثير ذلك على حالة رهاب الخوف من التظاهر إزاء ما يحدث في حرب الإبادة الوحشية على قطاع غزّة!، واحتمالات الفوضى والعنف وأثرها على الأمن والأمان الفردي والجماعي خاصة في ظل أزمات طاحنة ومجتمعات انقسامية ودول هشة وأنظمة تسلطية غير قادرة على اتخاد مواقف إزاء الإبادة تؤثر على علاقاتها بالولايات المتحدة ودول أوروبا الداعمة لإسرائيل.
* باحث وكاتب صحفي مصري
المصدر: “عروبة 22“