عبد الغني سلامة *
لأننا تعودنا على ربط النقد بالتجريح والتخوين.. ولأن التشكيك لا يعني عندنا إعادة التفكير بقدر ما يعني توجيه الاتهامات. وبالمناسبة، هنالك من ينتقد المقاومة بهدف إدانتها وتجريمها، بدافع الخلاف السياسي ولتصفية حسابات ثأرية، وهؤلاء يمكن تمييزهم بسهولة، ومع ذلك، تظل مشكلة رفض النقد قائمة لأسباب أُخرى عديدة:
لأننا تشربنا منذ الصغر مفاهيم غيبية وقدرية، وتعلمنا أن كل شيء إما بيد العلي القدير ولا حول لنا ولا قوة، أو بيد قوة معادية غامضة تتآمر علينا ومؤامراتها نافذة بلا ريب.
لأن من يرفضون النقد تمكنوا ببراعتهم اللغوية من تأويل النصوص الدينية بما يتماشى مع أهوائهم، وأنتجوا خطاباً دينياً موازياً مفاده أن الله معنا، وناصرنا، بصرف النظر عن الحسابات “الدنيوية” والأخذ بالأسباب، وأن العدو مهزوم في كل الأحوال، مهما امتلك من أدوات القوة ومقومات النصر.
ولأن من يرفضون النقد بارعون في الخطابة، والكتابة، وفي تصدير الشعارات، وإجراء المقارنات مع أي تجربة كفاحية نجحت في السابق.. لسانهم فصيح، ونبرة صوتهم عالية، ومفرداتهم رهيبة، ولديهم كل أدوات التأثير على عواطف وقلوب الناس: جزالة الألفاظ، وسحر البيان، والنص الديني، والقوالب الجاهزة.. والجمهور جاهز.
ولأننا تعودنا منذ الصغر على تقديس الرموز، وتأليه الزعيم، وتمجيد القائد، وأي انتقاد له يعني العداء للثورة والمقاومة والشعب.
ولأننا ما زلنا نعتقد أن كل شعار ثوري أو ديني وكل مقولة لقائد تاريخي هي بالضرورة صحيحة في كل مكان وزمان، المهم أن يكون الشعار بنغمة وقافية، ومصاغاً بلغة قوية، ويتضمن المحسنات اللغوية، ويفضَّل أن تكون المقولة سهلة الترديد والحفظ لاستخدامات الـ”فيسبوك”.
ولأننا تعلمنا أن كل من يحمل السلاح هو مقاوم شريف بالضرورة، وهدفه نبيل وأسلوبه صحيح مهما كان.. وتعلمنا أيضاً أن الكفاح المسلح هو الشكل الوحيد لممارسة المقاومة، وما سوى ذلك مجرد ألاعيب وترهات لا طائل منها.
من يرفضون النقد بعضهم من أولئك الذين يتابعون الحرب من مسافة آمنة، كما لو أنها مباراة كرة قدم، يشعرون بالنشوة كلما شاهدوا منظر تفجير دبابة، أو مقتل الجنود الغزاة، ولا يلتفتون لمعاناة أهل غزة، من جوع وحرمان وخوف وتشريد وخسارة عشرات الآلاف من الأرواح.. كل هذا الدمار والتقتيل والمجازر تُنسى أمام مشهد تفجير دبابة.. ومن ينتقد سيفسد عليهم “روعة المشهد للصمود الأسطوري”.
لأن من يرفضون النقد بنوا في خيالهم قصة وتصوراً معيّناً عمّا يجري في غزة، ولسان حالهم يقول: لا تفسد جمال قصتنا ببشاعة الواقع.
هؤلاء (وأغلبهم من خارج غزة) لا يريدون رؤية الجانب الإنساني من المشهد، ولا حتى رؤية آدمية أهل غزة، فهم مجرد وقود لحرب مقدسة، وأُضحيات واجبة التقديم على مذبح الشهادة.. وغزة ليست مأساة ولا فاجعة ولا كارثة، بل مكان ضروري يمنحهم الشعور بالعزة والكرامة، لأن البلدان التي يعيشون فيها لا تمنحهم هذا الشعور، بل تضطهدهم وتنكّل بهم، وتهينهم في لقمة عيشهم.. فجاءت غزة لتعطيهم هذا الشعور الرائع.. وهذا المشهد لا يجب أن يتوقف، يجب أن يستمر للأبد، حتى لو قُتل كل أهل غزة.. المهم أن يعيشوا إحساس الكرامة، ولأطول فترة ممكنة.. حتى لو على حساب دماء الغزيين، والنصر الموعود سيجيئ بأرواح أطفال غزة.
الخطاب الإعلامي الدارج والشائع مريح للنفس، وهو مسكّن لآلام الضمائر المثقلة بالشعور بالذنب والعجز، وهو البديل السحري الخفي لأي فعل حقيقي ومؤثر، لذلك لا يريدون سماع أي تحليل مغاير، لأنه سيكون “مثبطاً للعزيمة”، و”هادماً للمعنويات”، المعنويات التي يستمدونها من أخبار “المعارك الكبرى”، والإنجازات العظيمة، ومن حتمية النصر القريب والعاجل، لذلك فهم لا يرون من مشهد غزة إلا أبطال المقاومة فقط.. وهم حقاً أبطال ولا أشك في ذلك.
يرفضون النقد؛ لأن أي نقد سيخلخل قناعاتهم، وسيهز أرضياتهم التي يقفون فوقها، وسيخرجهم من دوائرهم المريحة.. النقد يحثهم على التفكير والتمحيص وإعادة النظر بالمسلّمات والبديهيات.. وهذه مسألة شاقة وعذاب نفسي، وقد تنتهي بخيبة أمل كبيرة.. والأسهل تصديق الشعارات الرائجة، والمشي مع الرَّكب والانسجام مع القطيع.. ولا بأس من تأجيل خيبة الأمل أطول فترة ممكنة، وحينها فإن اللعنات على المتخاذلين والمتآمرين جاهزة، فهم السبب!
النقد قد يوضح الصورة ويزيل الغشاوة وهذا آخر ما يريده “من يرفضون النقد”، أو بعبارة أدق من يخشونه؛ لأنه قد يعني انهيار شعاراتهم التي بنوا من خلالها شعبيتهم.. فإذا اهتزت قواعدهم الشعبية سينهار بنيانهم، وسيتكشف مدى خطأ حساباتهم وخطأ رهاناتهم ووهن خطابهم الإعلامي.
حين نمارس النقد، لا نمارسه نكاية بفصيل، ولا تصيّداً لأخطاء حزب، فهذه قمة الانتهازية.. نمارسه لأننا جميعاً في مأزق خطير، ولأن ما يحدث الآن إنما هو حرب إبادة وتهجير تطال الشعب الفلسطيني كله (وليست مواجهات ضارية كما تقول “الجزيرة”)، وما سيترتب عليها سيؤثر على مجمل القضية الفلسطينية وعلى مستقبلنا كلنا، وما يعانيه أهل غزة شيء فظيع وفوق الوصف، وهؤلاء يستحقون منا أن نشعر بآلامهم على الأقل، لا أن نتغنى بمعاناتهم ونجمّل واقعهم البائس بحجة أنهم أساطير وأبطال خارقون.. والأمانة الوطنية والأخلاقية تقتضي منا قول كلمة الحق، ولو كره الناس ذلك.. ومن يرد إرضاء الجمهور كل ما عليه أن يطرح نفسه كخبير استراتيجي ومحلل سياسي وسيجد عشرات المحطات تستضيفه على شاشاتها، وسيجد هناك المال والشهرة وحب الجماهير المتعطشة لأي نصر.
ولا حاجة للتذكير بأن النقد لا يُوجّه للمقاومة نفسها، فالمقاومة حق مقدس وواجب مستحق في كل زمان ومكان.. النقد موجه للأساليب والأدوات والحسابات والرهانات والتحالفات وكيفية الممارسة.. إلخ، وهذا واجب الجميع.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: الأيام الفلسطينية