الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

محددات العلاقة بين اليمين الأوروبي المتطرف ودولة الاحتلال

مروان اميل طوباسي *

تلخيص:

استمرار حرب الإبادة ضد شعبنا في غزة

فشل المجتمع الدولي في وقف الحرب

تكثيف مخططات الاحتلال في الضفة الغربية

زيادة حدة إجراءات وزير المالية الإسرائيلي سموترتش

توافق وتماهي بين اليمين الأوروبي والاحتلال

سياسات تهدف لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على فلسطين

مع استمرار حرب الإبادة ضد شعبنا في غزة، وفشل المجتمع الدولي في وقفها، عمداً أو ضعفاً، وتكثيف مخططات الاحتلال في الضفة الغربية، ومؤخرا زيادة حدة الإجراءات التي يتبناها وزير المالية الإسرائيلي سموترتش زعيم حزب الصهيونية الدينية، ومن خلفة نتنياهو، بل وكل أركان الحكومة والمعارضة الصهيونية التي تهدد وتتوعد شعبنا، وتهدد بتوسيع حربهم شرقاً وشمالاً، وذلك في أزماتها وتنافسها على مدى إلحاق الأذى بشعبنا وشعوب المنطقة، في محاولة منهم للهروب إلى الأمام، دون أن يفكر أحد منهم بأن احتلالهم هو مصدر أزماتهم، وأن استقرارهم مرتبط بحرية وكرامة شعبنا الفلسطيني. وأشير إلى ما قاله الصديق نبيل عمرو في مقالته الأخيرة، “هنالك جنون شامل في إسرائيل يبدو أن لا خلاص منه على المدى المنظور”.

أمام ذلك، تبرز تساؤلات حول الدوافع الأيديولوجية والسياسية إضافة إلى جوهر الفكر الصهيوني، التي تقف وراء هذه السياسات التي تجد حضناً دافئا من جانب قوى اليمين المتطرف حول العالم والتي باتت اليوم ذات تأثيرٍ، وفي تزايدٍ ملحوظٍ، خاصة في أوروبا بعد تصاعد قوة اليمين المتطرف والشعبوي في معظم دول القارة العجوز التي أرهقتها تبعيتها للسياسات الأمريكية، وحروب الوكالة التي تنفذها هناك، وتداعياتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعوب الأوروبية.

صراع الحضارات والاستبدال:

ولذلك فإنه يمكن إحالة تلك الدوافع الإضافية إلى التوافق والتماهي الحاصل اليوم بين الطرفين حول فهمهم ورؤيتهم المشتركة في ضوء نظريتي صراع الحضارات والاستبدال، التي باتت تميز سياسات سموترتش والكل الصهيوني، الجاري تنفيذها على الأرض بحق شعبنا الفلسطيني، ومستقبل حل الدولتين المفترض، وحق تقرير المصير من جهة، وإلى ذات النظريات التي تؤثر اليوم على حاضر فكر اليمين المتطرف الأوروبي من جهة أخرى، على الرغم من ماضي اليمين المتطرف والشعبوي المعادي للسامية، (إن كان ذلك مجرد ماضٍ وفق الروايات التاريخية، رغم عدم سامية يهود أوروبا، وتوافق اليمين المتطرف المتمثل بالنازيين مع الحركة الصهيونية على جزء من المحارق لتسهيل الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين، مقابل المال اليهودي في ثلاثينات القرن الماضي)، حيث ينشط اليوم هذا اليمين الأوروبي المتطرف في مكافحة “معاداة السامية”. ففي الوقت الذي كان فيه الاحتلال الإسرائيلي يذبح ويدمر ويحرق ويعذب في غزة، خرج زعماء جميع أحزاب اليمين السياسي المتطرف والمعتدل على السواء في فرنسا التي فازت بانتخابات المرحلة الاولى البرلمانية منها يوم امس بتقدم كبير، وغيرها أيضا من الدول الأوروبية إلى “ساحة المعركة” وبالشوارع للمطالبة ليس بإنهاء المجازر والاحتلال، بل للمطالبة بنهاية “معاداة السامية، ولتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، دون أي انتقاد لجرائم دولة الاحتلال ضد شعبنا.

لقد ساد جو هستيري غريب في تلك الدول الأوروبية ضد أي شخص ينتقد الجرائم الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص بحق جان لوك ميلينشون زعيم اليسار الفرنسي الموحد، وكل أحزاب اليسار الأوروبي التي كانت قد صاعدت مظاهراتها غير المسبوقة بالتضامن مع شعبنا الفلسطيني، وتنديدا بجرائم الاحتلال. لقد تم اتهامهم بمعاداة السامية، كما حصل سابقاً مع زعيم حزب العمال البريطاني. هذا اليسار الذي وقف ضد مجازر ومحارق هتلر النازية من خلال المقاومة الوطنية، وضد معاداة السامية فعلا، أصبحت الآية مقلوبة اليوم بحكم المصالح والرؤية المشتركة التي تجمع اليمين المتطرف الأوروبي بدولة الاحتلال .

يعتبر إفساح المجال لنشاط وتقدم اليمين المتطرف الشعبوي في انتخابات أمس، بعد قرار الرئيس ماكرون وحزبه اليميني المعتدل إجراء انتخابات مبكرة، مع معرفتهم المسبقة بتقدم اليمين المتطرف، هو أول اعتراف فعلي باليمين المتطرف من جانب التيار الحاكم، كشريك شرعي في تاريخ فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية التي أخذت أوروبا إلى الهاوية بفعل الرؤية اليمينية المتطرفة للنازيين آنذاك، والتي تعتبر لوبان وشريكها بارديلا من يحمل إرث تلك المرحلة التاريخية الماضية التي شاركوا فيها بارتكاب الجرائم بحق الشعوب الأوروبية.

اليمين الاوروبي المتطرف يبيّض جرائم إسرائيل:

واليوم فان دعم اليمين الاوروبي المتطرف هذا لإسرائيل قد سمح بتبيض جرائمها وسياساتها، في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والنمسا، وهنغاريا، وغيرها كما في بريطانيا أيضاً، وبالمقابل يتم تبييض دور اليمين الأوروبي المتطرف بفعل دعمه “لإسرائيل الضحية “.

إن رؤية وإجراءات سموترتش التي أعلنها قبل أيام تمثل الوجه الحقيقي للصهيونية بكافة مكوناتها في الضفة الغربية، وهو المعروف بتوجهاته اليمينية الدينية المتطرفة التي تحظى بدعم وإشراف أبو اليمين المتطرف نتنياهو.

وهو يتبنى سياسات تهدف إلى تعزيز السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية من خلال فرض السيطرة الكاملة على مناطق (ب)، أسوة بمناطق (ج) التي حددها وفصّلها اتفاق أوسلو، وتقويض الوجود الفلسطيني فيها من خلال إجراءات متعددة تم الإعلان عنها والتي أقرتها حكومة الاحتلال، وبما يخدم فكرة “دولة يهودا”، والتي تعتمد أيضاً على الإيمان بنفس المصادر الفكرية لليمين الأوروبي المتطرف والمتمثلة في:

أولاً؛ نظرية صراع الحضارات، التي طورها صموئيل هنتنغتون، والتي تفترض أن الصراعات المستقبلية ستدور بين الثقافات والحضارات المختلفة، بدلاً من الدول القومية. وفي السياق الفلسطيني، تتبنى معظم الأوساط الصهيونية وأحزابها الإسرائيلية هذه النظرية لتبرير سياساتهم الاستعمارية، حيث يصورون الصراع مع شعبنا الفلسطيني كجزء من صراع أوسع بين الحضارة الغربية (التي يعتبرون إسرائيل جزءاً منها) والحضارة الإسلامية الذي يُعتبر المسيحيون العرب جزءاً منها بالمشرق العربي، إلى جانب تفسيراتهم الدينية التوراتية التلمودية حول “دولة يهودا والسامرة”، وكذلك الدوافع السياسية والاقتصادية للفكر الصهيوني في خدمة مشاريع الخطط الأمريكية لمنطقتنا والمنطقة الأوسع والمتضمنة في مشروعهم حول الشرق الأوسط الجديد، وربط آسيا بأوروبا من خلال الخطوط التجارية والبحرية الجديدة وقضايا الطاقة والغاز، في محاولات لإعاقة المتغيرات في النظام الدولي لمواجهة الصين وروسيا، ودول منظمة البريكس بشكل عام. وهي ذاتها تعبر عن توجهات اليمين الأوروبي الذي يرى في إسرائيل خط الدفاع عن أوروبا من زحف حضارة الشرق إليهم.

ومن الجانب الآخر، فإن تلك النظريات هي ما توجه رؤية اليمين المتطرف الأوروبي في شأن معاداة الاثنيات الأخرى في المجتمعات الأوروبية، بما في ذلك النظرة المعادية للإسلام “الإسلاموفوبيا”، ومعادة قضايا الهجرة إلى أوروبا.

ثانياً؛ نظرية الاستبدال التي تروج لفكرة أن هناك محاولة منظمة لاستبدال “السكان الأصليين” بمجتمعات أخرى، وغالباً ما تكون مهاجرة، وهو ما يعتقد به اليمين الأوروبي المتطرف لمواجهة ظاهرة الهجرة إلى أوروبا للبحث عن حياة أفضل من مناطق النزاع بالعالم. في السياق الإسرائيلي، تُستخدم هذه النظرية لتصوير الفلسطينيين كتهديد ديموغرافي يجب التصدي له من خلال أشكال عنصرية قمعية ومن ضمنها مشاريع التهجير القسري، وزيادات منسوب الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين للوصول إلى واقع ديموغرافي ينهي الأغلبية الفلسطينية في أرض فلسطين الانتدابية، ويحقق لهم التفوق أو حتى الوجود اليهودي الخالص حتى لا يبقوا تحت تهمة الأبرتهايد. فسموترتش وأنصاره وكل مكونات الفكر الصهيوني يرون أن زيادة السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية تهدد الهوية اليهودية لإسرائيل، وبالتالي يجب اتخاذ إجراءات صارمة لتقليل هذا التهديد من خلال ما يجري من إبادة وتهجير في غزة، ورؤيتهم حول الضفة الغربية، بما فيها القدس التي أتموا الحزام الاستيطاني حولها، وتهويدها حتى من داخل أسوار البلدة القديمة حيث أصبح المستوطنون اليهود اليوم يشكلون ٦٠٪ من تعدادها السكاني، وفي الضفة حوالي ٢٥٪ تقريبا من التعداد السكاني، وهو رقم يزداد باطّراد قد يؤدي إلى تغيير الخريطة الديموغرافية حتى في أراضي دولة فلسطين المفترضة.

لذلك فإن المخاطر على شعبنا الفلسطيني اليوم تزداد بفعل ذلك التوافق والتماهي الحاصل بين الجهتين، بعد تكرار فوز قوى اليمين المتطرف في أوروبا ويبدو “الحبل على الجرار”، ما سيؤدي ربما في وقت قصير إلى معاداة أي توجه يتم خلاله انتقاد سياسات دولة الاحتلال حتى يصلوا بشعوبهم مرة أخرى إلى القناعة بأن يهود إسرائيل هم الضحية وأن شعبنا الفلسطيني هو مُرتكب الجرائم البشع، طالما لا يعمل اليسار الأوروبي على توحيد نفسه ومختلف مكوناته كما حدث في فرنسا مؤخرا بشكل أوسع اوروبيا لمواجهة تلك المخاطر، ويعمل على الإطاحة بهذا الفكر للمرة الثانية بعد القضاء على النازية سابقاً بالمرة الأولى.

التأثير على مبدأ حل الدولتين:

وهذا قد يؤثر في حال استمرار نجاح اليمين المتطرف في باقي الدول الأوروبية على مبدأ حل الدولتين رغم أن اليمين المعتدل الأوروبي هو من جعله شعاراً دون اقترانه بآلية تنفيذية، وبالتالي غير قابل للتحقيق بفعل المتغيرات الحاصلة على الأرض دون إجراءات عقابية تقاعس عنها الاتحاد الأوروبي بالتوافق مع الولايات المتحدة لامكانية الزام دولة الاحتلال على الأقل بالقانون الدولي والقرارات الأممية وتحديداً منها في شأن القدس والاستيطان، وما يجري الآن من تقاعس إضافي في شأن وقف عدوان الإبادة في غزة الذي يستهدف كل شعبنا، بل وفي تورط البعض به، الأمر الذي في حال استمراره سيؤدي إلى زيادة التوترات السياسية والعسكرية بالمنطقة، وتراجع الثقة بالعمل الدولي والذي لا تحترمه إسرائيل بضربها قرارته بل وقرارات المحكمة الدولية بعرض الحائط. وهذا سيشكل حتى وقت قريب طالما استمر هذا الحال مخاطر على حق تقرير المصير لشعبنا وتآكل الدعم الدولي في غياب أي فرص لعملية تفاوضية بإصرار الاحتلال على استهداف كل مكونات شعبنا وإضعاف القيادة الفلسطينية من خلال محاصرتها، وحرص الاحتلال على إعاقة الوحدة الوطنية الواسعة في إطار منظمة التحرير .

وفي حال فوز الأكثر يمينية وشعبوية ترامب فإن سياسات سموترتش وكل حكومة نتنياهو المعلنة في الضفة الغربية التي تتقاطع مع نظريتي صراع الحضارات والاستبدال لتشكيل واقع معقد يهدد مستقبل الشعب الفلسطيني، ويؤخر حقوقه التاريخية حيث ستعتمد هذه السياسات على تعزيز السيطرة الإسرائيلية وتقويض الوجود الفلسطيني من خلال إجراءات قمعية تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية والجغرافية للمنطقة، والتي ستحظى بدعم أكبر من اليمين المتطرف العالمي، حتى يصل الإسرائيليون بحكم أزماتهم للفهم أن استمرار احتلالهم هو مصدرها.

وفي النهاية، تحتاج هذه التطورات والسياسات إلى مراجعة فلسطينية شاملة كنت قد تحدثت عنها في مقالات سابقة، وتدخل دولي لضمان حقوق الفلسطينيين، وتحقيق سلام عادل ومستدام في المنطقة. إن تَبني مقاربات أكثر إنسانية وعدالة من قبل المجتمع الدولي يمكن أن يسهم في تخفيف حدة الصراع وتعزيز فرص السلام والاستقرار في الشرق الأوسط على أساس من الحرية والعدالة.

  • • •

إن دعم اليمين الأوروبي المتطرف لإسرائيل قد سمح بتبيض جرائمها وسياساتها، في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والنمسا، وهنغاريا، وغيرها كما في بريطانيا أيضاً، وبالمقابل يتم تبييض دور اليمين الأوروبي المتطرف بفعل دعمه “لإسرائيل الضحية”.

* سياسي، ودبلوماسي واقتصادي فلسطيني، محافظ سابق لمحافظة طوباس

المصدر: جريدة القدس الفلسطينية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.