أمجد أحمد جبريل *
يبدو لافتاً، بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، استمرار ضعف مواقف أغلب النظم الرسمية العربية، وتردّدها الواضح في استخدام أوراق القوّة العربية من أجل فرض وقف هذه الحرب، أو التعامل مع تمادي السياسات الأميركية والإسرائيلية في تصفية قضية فلسطين وإبادة شعبها، بالتوازي مع بروز ثلاثة متغيّرات أسهمت في عودة قضية فلسطين إلى الأجندتَيْن العالمية والإقليمية؛ أولها “عولمة” قضية فلسطين في كثيرٍ من مؤسّسات الأمم المتّحدة (الجمعية العامة، ومحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية… إلخ). وثانيها، زيادة مستويات التضامن العالمي مع معاناة الشعب الفلسطيني، خصوصاً في أوساط الطلّاب الجامعيين في دول الغرب، الذين نجحوا في ربط قضية غزّة بقضايا تعكس المبادئ الإنسانية العالمية (حرّية التعبير، والعدالة، وحقوق الأطفال، وحقوق النساء… إلخ). وثالثها، بروز وزن الفاعلين من غير الدول (Non-State Actors) في حرب غزّة، وفي دعم/نصرة قضية فلسطين عموماً (على نحو ما تجلّى في صعود أدوار فصائل المقاومة الفلسطينية، وحزب الله في لبنان، وجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وفصائل المقاومة العراقية)، بالتوازي مع توظيف إيران هذا المُتغيّر في خدمة مشروعها الإقليمي.
تستعرض هذه المطالعة تداعيات قصور الإطار العربي وانكشافه في مواجهة تحدّيات حرب غزّة، وانعكاسات ذلك فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، بغية استشراف تأثير الصمود الغزّي/ الفلسطيني على إعادة الروح إلى حراك الشارع العربي وتضامنه مع أهالي غزّة (والشعب الفلسطيني عموماً)، وصولاً إلى مناقشة احتمال عودة الثورات العربية.
في تداعيات غياب الاستراتيجية:
ثمّة ثلاثة مُؤشّرات تكشف تداعيات غياب استراتيجية عربية لإدارة الصراع مع إسرائيل ومعسكر داعميها. أولها، تراجع الالتزام الرسمي بالحدّ الأدنى عن دعم قضية فلسطين، والاستنكاف حتّى عن تنفيذ قرارات عربية (مثل قرارات القمّة العربية الإسلامية في الرياض 11/11/2023)، خصوصاً “كسر الحصار على غزّة”، و”فرض إدخال قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ ودوليةٍ”. وثانيها، تغيّر مضمون السياسات العربية تجاه قضية فلسطين، والاكتفاء بالتصعيد الخطابي، وتوجيه رسائل الحدّ الأدنى، والاستنكاف عن بلورة استراتيجية حقيقية لتوجيه الفعل السياسي للدول العربية، ودعم قضية فلسطين من دون مواربة، بما في ذلك بلورة توجّه رسمي عربي نحو إقامة علاقات شاملة، خصوصاً العلاقات السياسية، مع قوى المقاومة الفلسطينية، أقلّه من باب زيادة البدائل والخيارات العربية، بدلاً من استمرار الرهان على التسوية، بوصفها خياراً استراتيجيّاً عربيّاً وحيداً. وثالثها، الرهان العربي المبالغ فيه على فعّالية الأداة الدبلوماسية، كما يتجّلى في القيام بزيارات وجولات خارجية للعواصم العالمية، والتوجّه المُتكرّر نحو المؤسّسات الأممية، لكن من دون اتّخاذ أغلب الدول العربية، خصوصاً مصر والسعودية، خطواتٍ حقيقية صوب توسيع الخيارات العربية، وتكثيف الضغوط على إسرائيل ومعسكر داعميها (مثل تلويح مصر بالخروج من اتفاقيات كامب ديفيد، والتوجّه نحو دعم المقاومة الفلسطينية، أو سحب السعودية المبادرة العربية للسلام، أو تعزيز شراكة استراتيجية عربية مع روسيا والصين، أبعد من أشكال التقارب التكتيكي في الصعيدَين الاقتصادي والتجاري، أو انضمام الدول العربية كلّها لدعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية… إلخ).
ورغم تميّز أداء الدبلوماسيتَين القطرية والجزائرية، وتطوّر خطابيهما الداعمين بوضوح للحقّ الفلسطيني، ومحاولاتهما التأثير في المواقف العربية والدولية من هذه الحرب الضروس، فإنّ ثمّة تساؤلاتٍ عن حدود إنجاز الأداة الدبلوماسية في ظلّ حقيقة غياب استراتيجية عربية متكاملة الأركان لإدارة الصراع العربي مع إسرائيل، والتصدّي لمخاطر تحوّلات السياسة الإسرائيلية بسبب صعود تيّار الصهيونية الجديدة وتأثيرها في سياسة إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني والعالم العربي إجمالاً، ما يعني بالتالي، احتمال نهاية حلّ الدولتَين، ونكوص إسرائيل عن فكرة التسوية عموماً، وتصاعد احتمالات توسيع العدوان الإسرائيلي على لبنان وسورية، وربما دول أخرى أبعد، وتصاعد نزعات الانتقام/ القَبَلية/ اللاعقلانية في السياسة الإسرائيلية إجمالاً، التي تُوظِّف تداعيات المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظامان الإقليمي والدولي بتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا (منذ 24/2/2022)، وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة.
الشارع العربي: تضامن رغم القيود الصارمة
على عكس عجز الموقف الرسمي العربي وتردّده، تكشف المواقف الشعبية/ الطلّابية العربية عن إمكانات هائلة، وطاقات كامنة، لا يمكن تجاهل تأثيرها المستقبلي المُحتمَل في الموقف الرسمي العربي، إذ يبرز في هذا السياق عنصران مُهمّان، أولهما انتشار الحملات الشعبية لمقاطعة منتجات الشركات والعلامات التجارية التابعة للدول الداعمة لإسرائيل في عدوانها على غزّة، إذ تقود الحملات مجموعات غير مُنظَّمةٍ في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وإكس، وغيرهما)، أو قوى سياسية أو أحزاب أو نقابات، بغية الضغط على داعمي إسرائيل. ورغم استمرار تحفّظ بعض الاقتصاديين العرب على هذه الحملات (بذرائع عدم جدواها، أو إضرارها بالسوق المحلّية العربية، أو تأثيرها في العمالة الوطنية، واحتمالات خسارة استثمارات أجنبية كبرى)، فإنّ تقويم آثار الحملات يجب أن يراعي ثلاثة أمور، أولها التداعيات السياسية التي تتضمّن مستوىً من إعادة الوعي بأهمّية قضية فلسطين، ما يمثّل إسهاماً في إحياء الهُويّة العربية، وتجديد مشاعر العروبة، على نحو مشابه لما حدث من مقاطعة عفوية وعزل للصحافيين الإسرائيليين في فعّاليات كأس العالم في قطر 2022. وثانيها، حرص مواطنين عربٍ كثيرين قبل شراء أيّ سلعة على التأكّد من أنّها ليست ضمن قوائم السلع المُقاطَعة؛ إذ صار جيل من الشباب والأطفال ينبّه الآباء إلى التأكّد قبل الشراء، بل ثمّة من يرصد ما يشبه التوجّه الشعبي العام نحو مقاطعة داعمي إسرائيل، تضامناً مع مأساة أهالي قطاع غزّة. وثالثها، عدم إهمال الأرقام والإحصاءات والبيانات، التي تصدرها جهات وشركات تعرّضت للمقاطعة وتراجعت نسبة مبيعاتها، أو انخفضت قيمة أسهمها في البورصة (مثل مقاهي ستاربكس، ومطاعم أمريكانا إنترناشونال، وماكدونالدز، ودومينوز بيتزا، وشركة يام، الشركة الأم لسلسلة كنتاكي وبيتزا هت وتاكو بيل… إلخ)، على نحو ما كشفه تصريح مُتحدّث باسم شركة بوما (Puma) الألمانية (مجلة فوربس عدد 12/12/2023) بإنهاء رعايتها للمنتخب الإسرائيلي لكرة القدم في العام 2024، على الرغم من تأكيده أنّ القرار خطّط له منذ عام 2022، ولا علاقة له بالمواجهات الحالية بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
العنصر الثاني في سياق التأثير المستقبلي في المواقف الشعبية/الطلّابية العربية المُحتمَل في الموقف الرسمي العربي، هو تقييد الحراك الطلابي في الجامعات العربية، مُقارنةً بالتظاهرات الحاشدة في العواصم والجامعات الغربية. فبخلاف ما يبدو ظاهرياً، لم يكن الشارع العربي غير مُكترِث بمحنة غزّة؛ إذ كشف استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن متابعة 59% من المستجيبين أخبار حرب غزّة بصورة يومية، وشعور 97% منهم بضغط نفسي نتيجة هذه الحرب. كما كشف تضامن 92% من المستجيبين مع الشعب الفلسطيني في غزّة، في مقابل 1% لا يتضامنون معه (“اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزة”: برنامج قياس الرأي العام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 10/1/2024)، ما يكشف إجمالاً ثلاث نتائج؛ تأكيد مركزية القضية الفلسطينية عربياً، وتنامي رفض السلام والتطبيع مع إسرائيل، وتصاعد الموقف السلبي من الولايات المتّحدة (حارث حسن، “قراءة في نتائج استطلاع الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزة”، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 29/1/2024).
وبسبب القيود الصارمة التي فُرضت على تظاهرات الطلاب داخل الجامعات العربية، وحملات الاعتقال والتوقيف والتهديدات بالفصل والحرمان من الدراسة وأداء الامتحانات، اختار كثيرون منهم الانضمام إلى التظاهرات الشعبية خارجها، والاستمرار في التفاعل عبر أنماط التضامن الرمزي، والكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحركة المقاطعة الاقتصادية.
ورغم وطأة قيود المناخ اللاديمقراطي العربي (تقييد حرّية التظاهر وحقوق التعبير عن الرأي، وتردّي الأحوال المعيشية، وتفاقم الأزمات الداخلية، وانحدار المستوى العلمي لمؤسّسات التعليم والجامعات العربية… إلخ)، يجب عدم إغفال استمرار التظاهرات الشعبية الحاشدة منذ 39 أسبوعاً في الحالات التي سمحت فيها السلطات العربية بذلك (خصوصاً، الأردن والمغرب واليمن).
استقرار هشّ أم فوضى إقليمية أم ثورات جديدة؟
في ضوء ارتقاء العامل التحرّري الفلسطيني في حرب غزّة، وصمود المقاومة الفلسطينية في غزّة، واستنكاف المواقف الرسمية العربية، عن دعم المقاومة الفلسطينية (أو حتّى مُجرّد وقف مسارات التطبيع مع إسرائيل)، تجاوباً مع تطلعات الشارع العربي في دعم المقاومة، والالتفاف حولها، تتوسّع الفجوة بين المواقف الشعبية والرسمية العربية من قضية فلسطين، وتتصاعد احتمالات انعدام الاستقرار السياسي. وإزاء حدّة أزمات العالم العربي المزمنة، وإدمان أغلب الحكومات العربية نهج “العلاج بالمسكّنات وترحيل مواجهة المشكلات إلى المستقبل، وتهرّب النُخَب من مسؤولياتها، تتصاعد احتمالات ذهاب العالم العربي إلى السيناريو الكارثي/الفوضوي، ما يعني تفكّك دول رئيسة في المنطقة، واستمرار تمدّد التنظيمات المُسلّحة من غير الدول، والتدهور الحادّ في أوضاع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعاظم التدخّلات الخارجية (الإقليمية والدولية) في شؤون المنطقة، وتصاعد العنف السياسي، سواء من حيث انتشاره الجغرافي أم درجة حدّته، وترسيخ ثقافة العنف السياسي عربياً” (حسنين توفيق إبراهيم، “ثقافة العنف السياسي في الوطن العربي: البنية، والمصادر، وسبل التفكيك”، كراسات استراتيجية، العدد 258، نوفمبر/تشرين الثاني 2015).
ولعلّ مآلات أغلب الدول العربية تدفع إلى القول إنّ اجتهاد قوى الثورات المضادّة لإجهاض موجتَي الثورات العربية (عامي 2011 و2019)، لم يؤدِّ إلى الاستقرار أو الازدهار الاقتصادي رغم التضحية بفرصة الاقتراب من عملية إصلاح سياسي، ونمط ديمقراطي، وعملية تنمية اقتصادية، عبر توظيف الطاقات الشبابية والمجتمعية الهائلة. واستطراداً في التحليل، كانت تلك الثورات الشعبية تمثّل السيناريو المُستقبلي الإيجابي للدول العربية، في حين أدّت سياسات الثورات المضادّة (المدعومة من أميركا وإسرائيل وروسيا وإيران والإمارات ومصر) إلى مشهد سلبي ينطوي على مخاطر وتهديدات مرتفعة (مثل الفوضى والتفكّك وتجزئة المُجزَّأ، وتقسيم المُقسَّم، وزيادة التدخّلات الخارجية في المنطقة… إلخ).
خاتمة:
ليس مبالغةً القولُ إنّ ضعف أغلب المواقف الرسمية العربية من حرب غزّة، وتصاعد الفجوة بينها وبين المواقف الشعبية، يُؤكّد انتهاء صلاحية مفاهيم “النظام الإقليمي العربي”، و”دول الطوق العربية”، و”المصالح العربية العليا”، و”العمل العربي المشترك”… إلخ، في ضوء عجز جامعة الدول العربية المقيم، واشتداد الانقسامات والصراعات العربية البينيّة، وعودة سياسات المحاور العربية، وغياب أيّ مصداقية لمفهوم “الأمن القومي العربي”، في ظلّ تحالف أطراف عربية مع العدو التاريخي للعرب (إسرائيل) ضدّ طهران وأنقرة، اللتَين تمكّنتا بأدوات مختلفة من اختراق المنطقة المركزية للمجال الجيوسياسي العربي، الذي بات يشهد صعوداً مطّرداً للدورَين الإيراني والتركي، في مُقابل تآكل/تراجع الأدوار العربية.
وعلى الرغم من وجود مُؤشّرات عديدة تُؤكّد انهيار النظام العربي بعد حرب غزّة (2023-2024)، وذوبان الإطار العربي في نظام إقليمي أوسع، فإنّ تداعيات الحرب لم تؤدِّ إلى تجاوز حالة الاستقطاب الإقليمي، في الشرق الأوسط، بل رسَّخت الفواصل بين محور المقاومة، الذي تدعمه إيران، في مواجهة المحور الأميركي الإسرائيلي العربي الرسمي، الذي يبدو في طريقه نحو مزيد من التراجع لمصلحة قوى دولية وإقليمية أخرى (الصين وروسيا والهند وإيران وتركيا).
يبقى القول إنّ تداعيات ملحمة غزّة وَلَّدت أربعة متغيّرات استراتيجية جديدة، ستُؤثّر في بنية النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وهُويّته، وترتيب أدوار الفاعلين وأوزانهم وسياساتهم وأدوات تنفيذها:
أولها تآكل الدور الإقليمي الإسرائيلي، وتدهور قدرات إسرائيل الردعية في مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
وثانيها، صعود أدوار الفاعلين من غير الدول، وتوظيف طهران هذا المُتغيّر في خدمة مشروعها الإقليمي.
وثالثها، تأرجح الدور التركي هبوطاً وصعوداً، بسبب ارتفاع وتيرة خطابه في انتقاد جرائم الحرب الإسرائيلية، ومحدودية أدوات أنقرة وخياراتها في مواجهة ما تخلّفه السياسات الإسرائيلية/الأميركية من وقائع شديدة الخطورة، بما يتجاوز قطاع غزّة نحو إقليم الشرق الأوسط برمته.
ورابعها، تآكل الأدوار العربية ومحدودية القدرة على التأثير في التوجّهات الانتقامية الإسرائيلية، خصوصاً ما يتعلّق بانكفاء الدور المصري، واكتفائه بالتكيّف مع تداعيات السلوك الإسرائيلي، بدلاً من فرض احترام مصالح مصر وثقلها الإقليمي، التي يبدو أنّها ستواجه في المدى المنظور سيناريوهات أحلاها مرّ، إلا في حال انتفضت جموع الشعب المصري وشبابه، وتجنّدت لمُهمّة هزيمة الثورات المضادّة مصرياً وعربياً، وكسبت معركة الوعي وأدركت خطورة اللحظة التاريخية الراهنة، وضرورة التلاقي مع فعل المقاومة الفلسطينية ومشروعها المُلهِم، عربياً وعالمياً.
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: العربي الجديد