الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السوريون الأمريكان وقلق الاختيار بين التصويت لهاريس أو ترامب

ابراهيم الجبين *

لا يحتاج السوريون في العالم، لتكبّد عناء عبور الأطلسي من أجل اكتشاف الحيرة التي يعيشها مواطنوهم “السوريون الأمريكان” في لحظات كهذه، وهم يجدون أنفسهم أمام اختبار الاختيار، ما بين الديموقراطية الصاعدة كامالا هاريس، والجمهوري العائد دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية خلال الشهور القليلة القادمة.

تعالوا ننظر كيف تتمظهر هذه الحيرة؛ الأزمة ذاتها تضرب في الولايات المتحدة، كما ضربت من قبل داخل سورية وفي بلاد اللجوء، أزمة حسم الانتماء وسط حرب المصالح والاتجاهات. فلطالما كان السوريون ممزقي الميول والولاءات حسب الأيديولوجيا التي ينحدرون منها، ولا وقت أفضل من حرب الإبادة التي يشنها بنيامين نتنياهو ضد الفلسطينيين طيلة الأشهر العشرة الماضية، لتجعل من السوريين يعيشون هذا القلق مجدداً، بين رغبتهم بصعود رئيس أمريكي قد يخدم قضية العرب المركزية (قضية فلسطين) ويكبح من جماح إسرائيل، أو رئيس متشدّد حيال قضيتهم السورية، كان الوحيد الذي عرف التشخيص الأفضل لسلوك بشار الأسد حين أطلق عليه تعبير “الأسد الحيوان”.

كان ترامب مكبّلاً حتى العام 2019 بالاستراتيجية التي وضعها باراك أوباما للتعامل مع الملف السوري، والتي بني عليها تفاهم جنيف بين كيري ولافروف، وتم تسليم سورية وفقاً لها إلى الروس والإيرانيين. وهي استراتيجية الديموقراطيين التي استمرت في عهد بايدن.

علاقة الديموقراطيين مع إيران فوق أي اعتبار، فهي تقوم على عقيدة سياسية ترى دوراً ضرورياً لإيران ومن يدورون في فلكها لضمان مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم. وهذا لن يتغيّر.

غير أن أبرز أعضاء فريق ترامب كان قد بدأ بوضع فلسفة جديدة للتعامل مع الملف السوري، لولا أن الانتخابات أبعدتهم عن البيت الأبيض. وهم يعدّون العدّة من جديد اليوم لتفعيل تلك الاستراتيجية في حال فوز مرشحهم بمنصب الرئاسة.

لكن ترامب أيضاً هو الرئيس الأمريكي الذي اعترف بضم الجولان إلى إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وأعلن الاتفاقات الإبراهيمية وشجّع التطبيع العربي مع الإسرائيليين.

في الوقت ذاته، لا يستطيع السوريون الأمريكان نسيان كونهم مواطنين أميركيين، وهذا يعني أن عليهم التفكير في مصالحهم داخل الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، بما يمسّ يومياتهم وحياتهم ومستقبل أسرهم وأطفالهم وأعمالهم وإلى آخر ما في ذلك من نقاط محقّة لا جدال حولها.

ولكن ماذا يفعل السوريون الأمريكان إذا ما فكّروا في قضاياهم الكبرى، خارج حدود الولايات المتحدة؟

تتحكّم بالمزاج الانتخابي في مثل هذه الحالات، أبعادٌ مختلفة؛ ليس أقلها البعد الديني والقومي الذي يجعل من السوريين مناصرين تلقائياً ودون تردّد لقضية فلسطين، غير أن هذه المناصرة تأتي هذه المرّة مع لصاقة كتب عليها “إيران”، بعد أن تقاربت حركة حماس مع الإيرانيين والنظام السوري. فوجد السوريون أنفسهم في موقف إشكالي جداً صنعته تناقضات الشرق الأوسط ذاتها، وعزّزه الموقف الرسمي العربي المضطرب في هذه الحقبة الزمنية الخائبة.

هي إشكالية فلسطينية وجدت حماس نفسها بحاجة إلى خلقها، في مرحلة ما بعد استهداف الإخوان المسلمين والإسلام السياسي عموماً، على يد الأنظمة العربية، وحماس ابنة شرعية مباشرة لجماعة الإخوان المسلمين فكراً وقيادة وتنظيماً. زاد من ذلك مسارعة حماس إلى نقل الولاء بعد تعثّر الربيع العربي، وهي التي كانت منحازة للشعوب المنتفضة، من ميدان التحرير، إلى دمشق، فتحوّل موقف حماس من وضع يدها بيد مرسي إلى معانقة السيسي، ومن رفع علم الثورة السورية إلى تمجيد بشار الأسد ووصف قاسم سليماني قاتل السوريين بأنه “شهيد القدس” على حد تعبير إسماعيل هنية الذي لقي مصرعه وهو آمنٌ في ضيافة الولي الفقيه في طهران.

ستكون تلك خيبة إضافية إن فقد السوريون قرارهم المستقل في الحكم على المشهد السياسي وتحولاته، واستقالوا من دورهم القيادي في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن كانوا هم من يحتضنون المقاومة بل يصنعونها بجدارة بدءاً من القائد السوري الشهيد عز الدين القسام، ووصولاً إلى آخر طفل سوري يدرك مع حليب أمه أن قضية فلسطين هي قضية السوريين أنفسهم.

لا يجب أن يتحمّل السوريون، ومن بينهم السوريون الأمريكان، مسؤولية القرارات المتخبّطة التي اتخذتها حماس، ولا يجب عليهم أن يتبعوا المسار الذي اختطته المقاومة الفلسطينية المسلحة من أجل نيل الدعم العسكري والمالي من إيران وحزب الله وغيره. كان هذا خيار حماس التي تتصرّف وفقاً لقاعدة شرعية تقول إن “المحاصر مضطّر والمضطر مباح له أكل لحم الخنزير والميتة”، كما ردّد قادة حماس في المجالس الخاصة والعامة.

لكن السوريين إن فكروا بالمنطق ذاته، كان سيسهل عليهم التعامل مع الإسرائيليين، ما دام الأسد يحاصرهم ويقتلهم ويدمّر بيوتهم ويعتقل أبناءهم وبناتهم ويغتصب نساءهم ويشرّد الملايين منهم.

لم يفعلوا ذلك، وبقوا محافظين على مبدئية أخلاقية وعربية ودينية، تمنعهم من الانزلاق في حضن عدوهم وعدو إخوتهم الفلسطينيين. فما الحل اليوم؟ هل يتبعون خطوات حماس ويعانقون خامنئي بدورهم، وهذا ما سيحصل إن صوتوا لصالح كامالا هاريس التي تمنع إدارتها الديموقراطية كل ما يمكن أن يزعج حليف إيران (بشار الأسد)، حتى بات بعض فلول الإخوان في أمريكا يبشّر الأسد بخبر سار يقول إن هذه الإدارة لن تمرّر قانون مناهضة التطبيع مع نظامه، مدعياً أن هناك مفاوضات انهارت، فيا لسخف مثل هذه الأساليب! بعد شهور قليلة من طرح مشروع القانون، رفع هؤلاء الراية البيضاء وأعلنوا استسلامهم وبثوا خبراً مفرحاً للأسد لطمأنته. بينما لم يفعل ذلك من أصروا على استصدار قانون قيصر وقانوني الكبتاغون، وصبروا لسنوات عديدة وعملوا بجد كي يظفروا بالقوانين.

لا شكّ أن ترامب كان داعماً لإسرائيل، لكنه كان رئيساً قوياً في البيت الأبيض، طرح مشروع سلام، مبنياً على حل الدولتين، من يتذكر كلامه قبل افتتاحه جلسة مجلس الأمن الدولي التي ناقشت قضية عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، في العام 2018، حينها قال إنه يعتقد أن أفضل خيار للفلسطينيين وإسرائيل هو حل الدولتين. كشف ترامب عن أن لديه “حلماً” في التوصل إلى حل سلمي للصراع. وأضاف: “هذا أفضل حل في ما أعتقد، هذا هو شعوري. أعتقد حقيقة أن شيئًا سيحدث. وإنه حلم لي أن أستطيع فعل ذلك قبل انتهاء ولايتي الأولى”.

كان لدى ترامب خطة للسلام في الشرق الأوسط، أعلنها في 28 كانون الثاني/ يناير 2020، وهي التي عرفت إعلاميًا باسم “صفقة القرن”. فيها الكثير مما لا يمكن قبوله من جانب العرب والفلسطينيين، وقد تعامل معها الفلسطينيون بالفعل بحذر وربما بسلبية، بينما أبرز الإسرائيليون الجوانب المفيدة لهم فيها، دون التوقف عند ما يجب عليهم تقديمه لإنجاحها، ونجاح هذه الخطة يتطلب من جديد رئيساً قوياً في البيت الأبيض، وقد شملت الخطة تصوراً لوضع القدس التي تضم مواقع مقدسة لدى اليهود والمسلمين والمسيحيين. بالإضافة إلى حدود متفق عليها بين الجانبين، والعديد من الترتيبات الأمنية لتهدئة مخاوف إسرائيل مما يوصف بـ “هجمات الفلسطينيين والجيران المعادين”. وتلبية المطالب الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية تضع حداً لاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. مع إيجاد حل لمحنة ملايين اللاجئين الفلسطينيين.

في خطة ترامب كانت هناك ترتيبات لتقاسم الموارد الطبيعية الشحيحة، مثل المياه، ومراعاة المطالب الفلسطينية بإزالة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتي يعيش فيها الآن أكثر من أربعمئة ألف إسرائيلي بين نحو ثلاثة ملايين فلسطيني بالضفة الغربية، إلى جانب مئتي ألف مستوطن آخرين في القدس الشرقية.

الجميع انتقد خطة ترامب، حتى الأوربيون اعتبروا أن خطة كهذه لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة، كما رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس التعاطي مع إدارة ترامب فضلاً عن رفضه لخطته.

صحيح أن مواقف ترامب لم تكن تراعي القوانين الدولية، وتعترف بضم أراضي الدول ذات السيادة بالقوة، لكنها بقيت خطة قابلة للرفض وللتفاوض والمساومة، بينما كان نهج أوباما ومن بعده بايدن تسليماً ناعماً ليس فقط للأراضي المحتلة فقط، بل للشرق الأوسط كله إلى الإيرانيين والروس.

 “صفقة القرن” لم تمض قدماً، وها قد ابتعد عنها المبّشر الأول بها، صهر ترامب، جاريد كوشنر، نحو اهتمامات أخرى، وعبّر صراحة عن كونه غير مهتم بالعودة إلى البيت الأبيض إذا فاز والد زوجته إيفانكا، حين قال إنه يركز حالياً على أعماله الاستثمارية والعيش مع عائلته في فلوريدا.

ولن يكون صعباً على أحد تفسير سبب إخفاق “صفقة القرن”، فلا شيء يمكن أن يوقفها سوى تعنّت الإسرائيليين أنفسهم، ورفضهم لحل الدولتين الذي تضمنته، حتى بالصيغة الجائرة التي ظهر فيها.

وهذا يعني، حتماً، أنه سيكون لدى ترامب مقاربة مختلفة إذا ما وصل إلى الرئاسة، مبنية على المعطيات الجديدة، والتي لم تعد تعمل معها آليات “صفقة القرن”. ففهم عقلية ترامب عامل حاسم في هذا الملف، ولا يمكن نسيان تصريحاته الغاضبة بعد أكتوبر 2023، حين قال في مقابلة مع مجلة “تايم”، إن “أحداث السابع من أكتوبر حصلت في عهد نتنياهو”، مضيفاً قوله “يمتلكون (في إسرائيل) المعدات الأكثر تطوراً، لقد كان لديهم كل شيء لوقف الهجوم، والكثير من الناس كانوا على علم بالأمر (الهجوم)، لكن إسرائيل لم تكن على علم به، وأعتقد أن نتنياهو يلام بشدة على ذلك”.

حديث ترامب في هذه المقابلة يحمل دلالات هامة للغاية، لا سيما حين قال إن لديه “تجربة سيئة” مع نتنياهو، متهما إياه بالانسحاب من العملية الأميركية لقتل القائد في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020. قال ترامب “فجأة، قيل لنا أن إسرائيل لا تفعل ذلك. لم أكن سعيدًا بذلك. كان ذلك شيئًا لا أنساه أبداً”.

كل شيء يتغيّر من حول السوريين، ومن بينهم بالطبع السوريون الأمريكان، والثابت الأكيد فقط حتى اللحظة، هو عناد الديموقراطيين في ضرورة وجود إيران قوية، وبالتالي سيكون من البديهي عدم التعويل مجدداً على عقيدة سياسية ترى أن مصلحتها تكمن في المزيد من إضعاف الشعوب العربية وخلخلة قيمها والنظر إليها بعين استشراقية متعالية لا تراها سوى حفنة من الطوائف والأقوام.

* روائي وإعلامي سوري ورئيس تحرير موقع غلوبال جستس سيريا نيوز

المصدر: غلوبال جستس Global Justice

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.