جميل مطر *
ما إن انتهيت من الاستماع إلى خطاب الرئيس بايدن حتى وجدت قلمي يعبث بكلمات مجموعها يشي بسؤال ظل يتردد على امتداد شهور الأزمة في غزة. تردد السؤال على لساني في حضرة زملائي وأصدقائي وردده قلمي في عديد ما كتب. الموضوع يتعلق عموماً بالسياسة الخارجية الأمريكية. أما السؤال فمُحدد المكان والزمان والمسألة، إذ هو يبحث في، أو يسعى لمناقشة حقيقة موقف أمريكا في أزمة غزة. رحت على امتداد الشهور الثمانية، وفي كل موقع ساقتني إليه ظروف الكتابة أو الصداقة أسأل زميلًا بعد زميل وخبيرًا بعد خبير سؤالًا، لا يتغير إلا في الصياغة، عن موقف أمريكا إزاء تطور أو آخر في سيل تطورات أزمة غزة، أسأل إن كان الموقف الأمريكي يعكس حال تواطؤ أم حال عجز؟
- • •
كم مرة وقفنا مشدوهين، وفي مرات غير مصدقين، أمام موقف لأمريكا في علاقتها بإسرائيل سمعناه أو رأيناه أو عانينا ما عانينا بسببه. تراوحت المواقف بين درجة قصوى من الإفساد بالدعم المادي المبالغ فيه، ودرجة دنيا من العتاب أو التأنيب والتهديد غير الصادق بقطع الإمداد بالسلاح، وبينهما درجة وسطى من التحريض وممارسة الوقيعة بين أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي، وبين حكومات الدول العربية. حقيقة وبعيدًا عن المبالغة أؤكد أنني خرجت بانطباع واثق أن الأكثرية بين المنغمسين في السياسة الخارجية الأمريكية ممن قابلت أو اتصلت بهم تعتبر الولايات المتحدة «طرفًا ثانيًا من الخارج» في صراع الشرق الأوسط، طرف ممارس للصراع تارة بأسلحته وأغلب دبلوماسييه وإعلامه ومتطوعين أمريكيين وتارة ببعض دبلوماسييه يشاركون في تحريك أو تسيير أو ضبط مساعي الوساطة التي تمارسها منذ زمن دول في المنطقة. هو الوسيط بين المتحاربين وفي الوقت نفسه هو صاحب الرأي والتوجيه بأن المقاومة الفلسطينية، منذ نشأتها ثم بقيادة (أبو عمار) وحتى التوقيع على أوسلو، حركة إرهابية وكان، وما يزال، يفضل أن يعامل أفرادها كإرهابيين.
- • •
عشنا وأنا شخصيًا من بين من عاشوا، مرحلة في السياسة الدولية كانت أمريكا تأمر فتُطاع، وحين لا تكون الطاعة واجبة أو ممكنة حلت المراعاة الدبلوماسية الذكية أسلوبًا وسياسة محل الطاعة العمياء. لم نكن نسأل في تلك الأيام إن كانت أمريكا عاجزة، فأمريكا التي عرفناها بعد الحرب العالمية كانت، حسب كل المعايير، الأقوى. لم نتصور، رغم اتساع مجال الخيال وتأثير أيديولوجيات المرحلة أن يومًا سيأتي يمكن أن تصبح فيه أمريكا قطبًا عاجزًا.
- • •
كنا نسأل إن كانت متواطئة مع إسرائيل، فالتجارب جميعها باستثناء واحدة في حرب السويس عززت اتهامنا لأمريكا بالتواطؤ. كانت دائمًا طرفًا ثانيًا معززًا لإسرائيل والدليل المُبكر رد فعلها الصامت لقصف إسرائيل لسفينتها للتجسس ‘ليبرتي’، ودليلنا الثابت في مصر في حرب العبور عندما أمر كيسنجر بتجييش جسر جوى لإنقاذ جيش إسرائيل في سيناء فغيّرَ مجرى الحرب والصراع وأعاد صنع مشهد قريب إلى ما فعله في حرب فيتنام ليفرض صلحًا من صنعه.
- • •
بعد سنوات غير قليلة، وبالتقريب عند أواخر القرن الماضي، خرجت الولايات المتحدة من قطبيتها الثنائية لتهيمن على النظام الدولي قطبًا أحاديًا. هنا في إقليمنا استمر التواطؤ مع إسرائيل وفي الوقت نفسه بدأ، ولم يتوقف انحدار القوة النسبية الأمريكية. عندئذ لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالتواطؤ صفة لسياسة أمريكا تجاه الصراع في الشرق الأوسط إذ حل معه وإلى جانبه العجز الواضح في قوة أمريكا النسبية، وفي هيبتها ومكانتها الدولية، صار التساؤل عما إذا كانت أمريكا تتصرف في الشرق الأوسط مدفوعة فقط بتواطؤها مع الصهيونية العالمية وإسرائيل أم أيضًا بضعفها المتزايد ومكانتها المنحسرة وهيبتها المنقوصة أم بكلها مجتمعة.
- • •
بعد غضبٍ طويل ومكبوت تحرك فصيل من فصائل المقاومة العربية ليعلن رفضه تدهور حقوق الفلسطينيين ضمن سياسات الخضوع للأمر الواقع. مع هذا التحرك، أو بسببه وفي أعقابه مباشرة، نشبت حرب جديدة ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة. منذ يومها الأول تأكد التساؤل عن التواطؤ الإسرائيلي الأمريكي المصحوب بالعجز الأمريكي. ذهب نتنياهو إلى نيويورك قبل أسبوعين من معركة غلاف غزة. وقف هناك على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة حاملًا خريطة تحمل إجابة مبكرة جدًا جدًا على سؤال حير وما زال يحير الدبلوماسية في كل مكان، إنه السؤال ذائع الصيت عن اليوم التالي لحرب وحشية ورهيبة لم تكن بدأت. كانت الإجابة الصهيونية المُعدة سلفًا صريحة وزاعقة. لا مكان في الشرق الأوسط لدولة فلسطينية.
- • •
أثار انتباهنا، وقد يقال لاعوجاج في تفكيرنا نحن العرب، حدثان. أثار انتباهنا إعلان رئيس الديبلوماسية الأمريكية في أول زيارة له للمنطقة بعد معركة غلاف غزة أنه يأتي كيهودي. لم نُقدر الظرف أو نقرأ المستقبل، أو أنه هو الذي لم يُقدر الظرف بدبلوماسية لائقة. إذ حدث بعد زيارته بأيام، والمنطقة تتوقع حربًا من إسرائيل ضد المقاومة أو ضد شعب فلسطين فإذا بنا عرباً وفلسطينيين وأغراباً نتفاجأ بـ”جو بايدن” بصفته رئيس أمريكا والقائد الأعلى لقواتها المسلحة ينزل ضيفًا على إسرائيل ليشترك في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، ويخرج منها وهو يبارك خططه وأعماله، وبعضها أذهل العالم بوحشيته وكشف عن همجية من خطط ومن قرر ثم من نفذ.
- • •
تأكد لنا، ونحن على بعد أيام معدودة من موعد نشر هذه السطور، امتزاج التواطؤ بالخديعة وانكشف دور للتنظيم الصهيوني العالمي في عمليات كبت الحريات وتكميم أفواه المثقفين والكُتاب الذين خرجوا من صمت طويل لدعم مواقف المتعاطفين مع المقاومة الشعبية الفلسطينية. آفاقَ العالم «الحر» على حقائق جديدة. أفاقَ على بوادر انقسامات جديدة داخل أوروبا، القارة التي لا تهدأ ولا تتوقف عن ابتداع الخصومات وتجديد الانقسامات. رأينا الحلفاء غير واثقين من سلامة وصحة وكفاءة بعض قادة الحلف الغربي، الحالي منهم والقادم. صارت التهديدات بالنووي خبرًا عاديًا بعد عقود من التحريم. عادت إفريقيا الغنية بالثروات المعدنية ساحة تصادمات وسباقات ومرتزقة من كل نوع ولون. روسيا لم تنهزم بعد من خارجها ولا من داخلها بل وتعلن خططًا جديدة لتوسيع حيز الحرب الأوكرانية. الصين انتقلت إلى مرحلة تثبيت صعود متعدد الجبهات والقوى الناعمة كالصلبة على حد سواء. الهند، القوة السكانية الثانية في العالم، اكتشفَ فيها مثقفوها أن الغرب أقدم بنوايا مُبيتة على التضحية بديمقراطيتها على طريق تعزيز إمكانات نظام مغامر وعنصري ومهووس بمبدأ عبادة الفرد وبأوهام الأساطير.
- • •
هنا، في الشرق الأوسط، لم يعد خافيًا أن ما تعارفنا عليه كنظام إقليمي عربي، دخل حالة «إعادة نظر». تعددت الأطراف الإقليمية الأخرى المتدافعة لحجز موقع لها قبل أن يصعد ويملؤه طرف عربي أو آخر. الاقتناع سائد بين النخب السياسية في بعض عواصم تلك الأطراف بأن العرب لم يحسنوا التصرف عندما آلت إليهم قيادة شؤون منطقتهم واحتكار النفوذ فيها بعد الحرب العالمية، وأنه ربما آن، في نظرهم، أوان إقدام طرف إقليمي أو آخر من خارج المنطقة العربية على استعادة زمام القيادة من العرب. ما فعله نتنياهو وجماعته وما يزمعون الاستطراد فيه ليس بعيدًا عن هذا التصور. في الوقت نفسه راحت أمريكا بمساعدة إنجلترا تعزز مواقع لها احتلتها منذ كانت قطبًا مهيمنًا، تسببت من خلال هذا التعزيز في «تفسيخ» أقطار عربية وأقامت قواعد عسكرية وتنظيمات ميليشياوية تحمي بها بقايا إمبراطوريتها ومصالح حلفائها وبخاصة إسرائيل وسط محيط هادر بأمواج التغيير.
- • •
كثيرة هي عناصر التغيير الفاعلة حاليًا في الشرق الأوسط ولن يفلت من فداحة آثارها ومن عواقب اصطدامها بثوابت ومتغيرات الواقع إلا من أحسن تعريفها وحدد بدقة متناهية زمن وقوعها واستعد لها داخليًا وخارجيًا.
* كاتب ومحلل سياسي مصي
المصدر: الشروق