د. عبد الناصر سكرية
كل قضية حيوية متفجرة تتمتع باهتمام شعبي ورسمي محلي وعالمي، مرشحة لأن تتعرض لشتى انواع التدخلات والمتاجرات ومحاولات توظيفها في أهداف سياسية خاصة أو فئوية بعيدة عن أية أهداف حقيقية تتعلق بها. مثال شعار حقوق الإنسان فإن أكثر من يرفعه عالياً ويتحدث به بصوت مرتفع ليلاً نهاراً هو الغرب الاستعماري وزعيمته الراهنة الولايات المتحدة، وأكثر من ينتهك حقوق الإنسان في كل مكان وبكل أسلوب هو الغرب ذاته والولايات المتحدة ذاتها، وأكثر من يتاجر بشعار حقوق الإنسان ويستخدمه ستاراً تبريرياً لتدخلات سياسية خبيثة واعتداءات على شعوب ودول أخرى هو ذات القوى والدول الاستعمارية، وهكذا يجري مع شعارات الديمقراطية وما يتعلق بها ويتفرع عنها.
كمثل هذا الاستخدام السياسي المغرض تشهد قضية فلسطين متاجرات مشابهة كثير منها لا يُدرك كنها وجوهرها كقضية وجود تمس الوطن العربي جميعاً، وبعضها يدرك ولا يأبه بما تتطلبه من ضرورات عملية وتحضيرات على كل مستوى لإيفائها حقها في المواجهات اللازمة والمطلوبة، بمعنى آخر فإن بعض من يلهجون بصوت مرتفع بقضية فلسطين ليسوا بالضرورة سيئ النية أو يبيتون لها خبثاً أو ضغينة، وبعضهم الآخر قد يكونون كذلك، فليس كل من يتحدث نيابة عن فلسطين مخلصا لها، وكثير ممن يتحدثون عنها يستخدمونها شعاراً لتحقيق مصالح سياسية او فئوية خاصة بهم وإن كانت في بعض الاحيان تقدم بعض الفائدة أو تحرك بعض المعطيات المفيدة لها.
1- فلسطين تعيش في ضمير ووجدان كل عربي حر، وحتى أولئك الذين تناسوها أو تخلوا عنها فإنها تلاحقهم لكونها قضية وجودية تتداخل فيها كل أسباب القوة والسلطان والنفوذ وتتصل بكل مفاصل الحياة العربية سلباً وإيجاباً، فلا تستطيع اية جهة كانت تتولى مسؤوليات عامة أو حتى حزبية خاصة، تجاهل فلسطين أو المرور عليها كأنها لم تكن، وكل من يتعاطى بالشأن السياسي العام يجد نفسه مرغماً على التعاطي مع فلسطين حتى ولو كان يقف إلى جانب أعدائها.
2- لا يحتاج الإنسان إلى جهد بحثي كبير لمعرفة الخلفيات التاريخية لقضية فلسطين، الوقائع الميدانية منذ 1948 ولغاية اليوم تكفي وتزيد لتبين طبيعة المشروع الصهيوني الذي يهيمن على فلسطين ويحتلها ويمارس عدوانه المستمر عليها أرضاً وشعباً ووجوداً حضارياً تاريخياً، عدوان يُفصح عن ذاته بكل أريحية بأنه يبغي استئصال شعب فلسطين ومحيطها العربي لإقامة مملكة صهيون، هذا في الغطاء الديني الهادف لإخفاء الدوافع الاستعمارية الموجهة ضد الوطن العربي والأمة العربية تحديداً.
3- تبين كل المعطيات التاريخية بالوثائق والأحداث والمواقف العلنية والعملية أن احتلال فلسطين وإقامة دولة الكيان الصهيوني فيها، يهدف إلى تأسيس قاعدة استعمارية متقدمة لتحقيق أهداف كثيرة تتعلق جميعها بالوطن العربي، أبرزها:
أ- إقامة حاجز بشري غريب عن هوية المنطقة وإرثها وثقافتها وقيمها يمنع اتصال أجزائها وتفاعلها ويمنع أية وحدة بين أبنائها.
ب- إدارة شؤون الأمة والمنطقة بما يخرب أية توجهات فكرية توحيدية وتنموية تقدمية تنطلق من اعتبارها أمة واحدة يجب أن تبني لها دولة واحدة تمكنها من تحرير إرادتها ومواردها وتحمي أمنها وتحقق المستقبل الأفضل لأبنائها وتمارس دورها على الصعيد الإنساني العام والمساهمة في أنتاج وتقدم الحضارة الإنسانية والعمران البشري بما تملك من إمكانيات بشرية عظيمة وموارد طبيعية وجغرافية إستراتيجية عظيمة أيضا إضافة إلى إرث حضاري يخولها إن تحررت وتوحدت أن تؤسس لنموذج سياسي- أخلاقي يصلح لإنقاذ المجتمعات الإنسانية من فساد النظام العالمي الراهن والقائم على أسس مادية ليس فيها مكان لأية قيم أخلاقية.
ج- تأسيس تشكيلات محلية أي عربية الهوية والانتماء، تصلح لتكون أدوات لها في التبشير بتطلعاتها الاستعمارية مواربة، تنشر ثقافة التجزئة والتبعية والارتهان للأجنبي والاستعانة به، تحارب وتشوه كل توجه توحيدي وكل رمز توحيدي وتؤسس لتجزئة حقيقية إنطلاقاً من الوقائع الإجتماعية ذاتها وليس من وقائع التقسيم الجغرافي النظري الذي اعتمدته القوى الاستعمارية، بمعنى مطلوب من هذه التشكيلات ترجمة التجزئة النظرية إلى تجزئة حقيقية واقعية، ونقل الخطوط- الحدود من على الورق (الخرائط) إلى الواقع، وهذا ما تولاه النظام الرسمي الإقليمي الذي صنعته سايكس- بيكو الفرنسية- البريطانية.
د- ولما أن تجاوزت الوقائع الشعبية المجتمعية أطروحات الإقليميين عبر تمسكها العملي بحقيقة هويتها الواحدة ومصيرها الواحد تعبيراً عن حقيقة الوحدة بين أبنائها، استعانت القوى الاستعمارية بتشكيلات وقوى أكثر قدرة على اختراق المجتمعات الشعبية العربية والقيام بدور تخريبي يمهد الطريق لأهدافها الاستعمارية في إحكام وتأبيد سيطرتها التامة على الأمة، فكانت الاستعانة بتشكيلات محلية أو إقليمية، شعبية أو رسمية، تعمل تحت عباءة الدين تتبنى سلوكاً تقسيمياً بغطاءات طائفية ومذهبية وعرقية، وهكذا نشأت وترعرعت في كنف الحمايات الأجنبية قوى ذات إمكانيات وجيوش تتولى مصادرة قدرات الشعب العربي على البقاء والتصدي للهيمنة والاحتلال والتبعية، ومحاربة أية مناعة أو ثقة لديه، بما تمارسه وتطرحه وتبشر به من دعوات وأفكار ذات طبيعة تقسيمية تفتيتية تبث سمومها التخريبية بعناوين دينية مذهبية.
4- كل هذه الجهود كانت ولا تزال تتمحور حول فلسطين، فهي المنطلق والقاعدة لتعميم المشروع الصهيوني على كل الأمة، فلا تصلح أية مشاريع للسيطرة على الأمة ومنع وحدتها إلا من خلال فلسطين، فكان لا بديل من أن تتبنى كل التشكيلات والقوى التي تدور في فلك النفوذ الأجنبي ومشروعه; شعارات تتصل بفلسطين.
كذلك كل القوى والتشكيلات التي لا تقع ضمن إطار النفوذ الأجنبي المباشر ولكنها تلتقي مع أهدافه في السيطرة على الوطن العربي ومنع وحدته وتقدمه.
فكان أن صارت فلسطين قضية يحملها هؤلاء جميعاً وكل له غاية منها في نفسه ليست لوجه الله ولا لوجه فلسطين ولكنها لغايات في نفوسها هي بعيدة عن فلسطين وهويتها ومصالح شعبها العربي.
حتى أولئك الذين يتوهمون السلام مع الكيان الغاصب لفلسطين لا يستطيعون تجاهلها فيتحدثون عن حقوق شعبها في دولة مستقلة.
فبات لزاما على كل عربي مخلص لفلسطين أن يعرف أبعاد وخلفيات كل من يحمل شعار فلسطين او يتحدث عنها، حتى نستطيع تحديد مسارات تتجه إليها مصائرنا فلا نقع ضحايا انتكاسات جديدة تزيد فيما شهدناه من إحباط وضعف الثقة بالمستقبل المتحرر.
5- إنطلاقا من هذه الوقائع التاريخية وعلى ضوء الاهداف الاستعمارية من اغتصاب فلسطين، يصبح كل حديث عن فلسطين وكل جهد يعلن عن ذاته حولها، لا ينطلق من تلك الوقائع ولا يفي بمتطلبات المواجهة الشعبية الشاملة ضد المشروع الصهيوني- الاستعماري كعدوان مباشر متواصل على الوجود العربي، إنما يأخذ من تلك المتطلبات ولا يعطيها، يعرقل سعيها وسيرها في اتجاه مُطرد سليم، حتى لو كان قتالاً وتضحيات بشرية ومادية تقدم على أهميتها وما فيها من مردود إيجابي في بعض جوانب القضية.
قد تكون أية قوة مع فلسطين جزئياً، بمعنى انها تفيدها تكتيكياً فيما تستفيد منها إستراتيجياً،
فمن تعاون مع القوى التي تحمي دولة الكيان وتمده بكل أسباب القوة والسيطرة، هنا أو هناك، لا يمكن ان يكون مع فلسطين حقيقة.
ومن يقمع شعباً عربياً بما يملكه من قوة وسلطان لا يمكن أن يكون مع فلسطين.
ومن يُخرب في البنيان المجتمعي للبلدان العربية، كلها أو بعضها أو حتى واحد منها، لا يمكن أن يكون مع فلسطين.
وكل طرح انقسامي تحت أي شعار كان لا يخدم فلسطين ولا يمكن أن يكون معها، لا حاضراً ولا مستقبلاً.
فكل عصبية مذهبية هي بالضرورة تقسيمية، فهي ليس فقط لا تخدم فلسطين إنما هي أخطر من ذلك بكثير، فهي تخدم أعداءها وتسهل لهم طريقهم في ابقائها تحت الإحتلال بما تمثله من تفتيت وإضعاف لجبهة المقاومة الشعبية الحقيقية المتماسكة التي لا بد أن تستجمع كل طاقة شعبية وتوحد كل الجهود والإمكانيات والتوجهات المخلصة لفلسطين.
وإذا كان من حق أية قوة أن تعمل لمصلحتها أولاً، فليس من المقبول أن يكون ذلك على حساب الحق العربي في فلسطين ولا إخفاء لمصالح متعارضة مع فلسطين.
وإذا كان نظام التجزئة الإقليمية سبباً رئيسياً في استمرار اغتصاب فلسطين بما يشكله من تقييد لأي تفاعل شعبي حر معها وتكبيل لأية إرادة أو فعل شعبي نحوها، فإن نظام التقسيم القائم على العصبيات المذهبية أشد خطراً على فلسطين ومستقبلها لأنه يفتت كل موقع شعبي عربي يقف مع فلسطين، بما يشله من قوته بالمذهبية التحريضية التقسيمية، ويستنزفه في غير مجاله الصحيح.
ما لم يكن أي كلام عن فلسطين توحيدياً جامعاً، فلن يكون في مصلحتها مهما قدم من أثمان بشرية أو مادية.
لم يعد هناك مُتسع في العقل العربي لتقبل الخديعة والتلاعب بالشعارات.
فلسطين أغلى وأثمن من أية أهداف فئوية أو حزبية أو مذهبية أو شعوبية خاصة.
العصبيات المذهبية تقسيمية بطبيعتها وهي أخطر أنواع الإنقسام على الوجود العربي برمته، ومعه الوجود الإسلامي أينما كان.
فلسطين وجدان العرب وضميرهم وفيها وعندها يتقرر مصيرهم:
إما التحرر والاتجاه نحو التوحيد والمصير الواحد وإما الوقوع تحت هيمنة المشروع الصهيوني وإدارته للمنطقة، منفرداً أو بمشاركة من قوى محلية وإقليمية وتوظيف قواها الطامعة والساعية لتكبير حصتها ودورها على حساب الوجود العربي وفاعليته ومستقبله، كبرت تلك الحصة أم صغرت.
المصدر: كل العرب