الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سوريا.. تساؤلات وخيارات

سمير العيطة *

هدأ القتال في سوريا منذ سنوات عديدة. إلا أن البلاد لم تعرِفْ كيف تأخذ طريقها إلى إنهاء الصراع والتعافي وخروج القوات الأجنبية. وما زالت مُقسمة على الأرض وفي الذهنيات الاجتماعية وأهلها، بأغلبيتهم الساحقة، يزدادون فقراً وجوعاً. وليس غريباً أن يؤدي استمرار الاستعصاء القائم إلى تقسيم فعلي يصعب الرجوع عنه، هذا فضلاً عن استمرار المعاناة التي يعيشها السوريون والسوريات إلى ما لا نهاية.

الخطاب الرائج يؤكد أن الخروج من حالة الاستعصاء السائدة لن يتم إلا من خلال توافقات دولية جديدة. ربما! إلا أن توافق وثيقة جنيف 1 الدولي في نهاية حزيران/ يونيو 2012 لم يمنعَ تفجّر الصراع عسكريّا وبشكله الأسوأ. والتوافق الدولي في قرار مجلس 2254 سنة 2015 لم يأخذ إلى آلية مفاوضات سورية- سورية لها نهاية مرتقبة. ولا يُمكِن حقاً وضع آمال في توافق دولي جديد في ظل تصاعد الحرب في أوكرانيا وعليها وفي ظل اتساع حرب إسرائيل على فلسطين واحتمالات اتساعها.

ما هو واضح فقط أن هناك بوادر توجهات إقليمية جديدة تجاه السلطة القائمة في سوريا، سواء من جانب السعودية والإمارات، أو من تركيا. وقد تأخذ هذه التوجهات إلى أوضاع جديدة تَفرُض مسارات جديدة. كما أن هناك ملف اللاجئين السوريين الضاغط على لبنان والذي يُثار مع تداعيات خطيرة محتملة، إلى جانب انخفاض الدعم المالي الأوروبي والعالمي لإغاثة الشعب السوري ومساعدته.

  • •  •

إنهاء الصراع وإعادة توحيد البلاد وبداية التعافـي، حتى المبكر منه، وكذلك إعادة الأشخاص النازحين واللاجئين إلى ديارهم، هي كلها أوّلاً وأخيراً مسؤولية سوريا السوريين… وليس أيا كان من الخارج. وقد يبدو التنطُّح بهذه المسؤولية صعباً لما كلفه الصراع من مآسٍ ودمار وانتهاكات تركت أثراً عميقاً فى الأذهان والوجدان والواقع، ولِما زُرِع في العقول من إمكانية انتصار حاسم لطرف من الأطراف مما يمكّنه من فرض رغبته على الآخرين. هذا مع عدم وضوح ما سيأخذ إليه هكذا انتصار.

وفي الوقت الذي يتم التحدث فيه عن الانتقال من الإغاثة نحو التعافي المبكر دون إعادة الإعمار، أو عن وجود مناطق آمنة في سوريا أم لا، يغيب الحديث عن عناصر بناء السلام في سوريا انطلاقاً من الواقع القائم كما هو. والوصول إلى بناء السلام بعد ثلاث عشرة سنة من الصراع ليس أمراً سهلاً.. وواضح أنه لا يُمكن أن يأتي على شاكلة خروج لبنان من الحرب الأهلية مع فرض توافق بين أمراء الحرب في ظل دولة ضعيفة وبروز مستثمر يأتي بالرخاء. مع كل ما أدى إليه هذا «الحل» من كارثة يعيشها لبنان اليوم.

الفارق الأساسي مع حالة لبنان أن الدولة السورية ما زالت قائمة اليوم بمؤسساتها، رغم كل ما اعتراها من خلخلة وتسلط خلال الصراع، وبالرغم من محاولات خلق مؤسسات «دولة» موازية في الشمال الشرقي وفي محيط إدلب. وبالرغم أيضاً من الرأي في النهج الذي اتخذته السلطة التي تقودها. وهذا يعني أن هذه الدولة السورية طرف أساسي في بناء السلام رغم كل المآخذ وإجراءات التفكيك التي تأخذ إليه العقوبات الخارجية. وهذا يعني عدمية رفض التعامل معها وما يعني أيضاً مسؤوليات تقع على عاتقها أساساً في وضع آليات بناء السلام وليس فرضه بالقوة. إذ إنها في نهاية المطاف الوصية على صون العقد الاجتماعي لكل المجتمع السوري.

إعادة بناء الثقة هي أولى خطوات بناء السلام. وهذا يتطلب بداية التواصل، مع أطياف المجتمع وبين الذهنيات المتضاربة، للخروج من واقع أن كل طرف من أطراف التقسيم السوري له سرديته ووسائل إعلامه التي لا هم لها سوى تقويض الأخرى.

لقد انقطع مثل هذا التواصل لسنوات. إلا أن المسلسلات التلفازيّة التي تم إنتاجها مؤخراً في ظل الرقابة الحكومية قد فتحت مجالاً لطرح قضايا شائكة ووجهات النظر المغايرة للوجهة الرسمية، وكان لها وقعها. كما أن هناك بوادر لتواصل الجهات الرسمية مع سوريين هاجروا بلادهم «لتسوية أوضاعهم» والخروج عن منطق الانتقام ممن لم يتبع التوجهات التي تبنتها السلطة القائمة.

إلا أن هذه «المبادرات» تبقى محدودة وبطيئة النتائج. إذ لم ترقَ وسائل الإعلام الرسمية أو الموالية لها، وكذلك وسائل الإعلام التي تنطِق باسم الشمالين الغربي والشرقي، إلى فتح قنوات التواصل بشكل صريح مع أطراف لها آراء وتوجهات سورية مغايرة لنهجها. والأنكى أن بعضها يدعي أنه يمثل «الحرية» في حين لا يُسمح إلا بمن ينطق بذات الذهنية أن يكتب فيها أو يظهر عليها.

كذلك ليست الإشكالية في سوريا هي فقط إشكالية أفراد مع الدولة وقوانينها، بل إشكالية فئات اجتماعية دخلت في صراعات مع بعضها البعض على أصعدة مختلفة، ومع السلطة. فكيف يُمكِن رأب الصدع الاجتماعي الذي حدث في حمص وريفها، أو في غيرها من المناطق دون وضع المظالم والمصالح والطموحات على طاولة الحوار لفتح إمكانيّة المصالحة وعودة النازحين والنازحات واللاجئين واللاجئات وتعويض الضرر، عاجلاً أو آجلاً.

على صعيد التواصل والحوار، هناك بالطبع مسائل أصعب التعامل معها من غيرها. ومع تداعي أفق آليات الإغاثة والدعم الدولي التي ترسّخت لسنوات، بات الكثيرون يتطلّعون إلى البحث عن مستقبلٍ معقولٍ أكثر من الإصرار على الانتقام من ماضٍ كان شديد القسوة والظلم. ولا ننسى أن هذا التواصل والحوار ليس فقط مع من هو خارج منطقة السيطرة، الحكومية وغيرها، بل أيضاً ضمن كل من مناطق السيطرة وخاصة تلك للسيطرة الحكومية. إن إطلاق مناخ من حرية التواصل والنقاش أساس لأية عملية بناء ثقة.

  • •  •

لا تعني أولوية مسؤولية الدولة في المبادرة في إجراءات بناء الثقة وبناء السلام أن هكذا مسؤوليّة لا تقع أيضاً على الشعب السوري كأفراد ومجتمعات. هذا بالرغم من كل الحذر أن أية مبادرة يُمكِن أن تستغل لصالح طرف أو آخر أو لتبرير نهجه.

إلا أن المُخاطرة بالمبادرة ينطلِق من تقييم كلٍّ من السوريين لما هو أساسي اليوم. عيش السوريات والسوريين بكرامة في جميع المناطق أم تسوّل المساعدات؟ الارتقاء إلى المواطنة أم التمسّك بالفئوية؟ إعادة توحيد سوريا أم الاستمرار في التقسيم؟ الحفاظ على الدولة أم انهيارها نهائيا؟ انتظار المنقِذ الخارجي أم أخذ الشعب السوري بزمام أموره؟ وبالأخص، هل يخلق الانعطاف الكبير الذي أحدثته جرائم الإبادة الجماعية في غزة والتواطؤ الدولي معها فرصة نادرة لإعادة رأب الصدع السوري أم لا؟

ما يعني في الإجابة عن هذه الأسئلة أن المخاطرة المتضمنة في المبادرة تنطلق من مصلحة عامة أكثر من مصلحة ذاتية.

* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.