مالك ونوس *
بعد رفع الحكومة المصرية أخيراً أسعار المحروقات، وقبلها الكهرباء والخبز، تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي، ومن خلال استعراض التاريخ الطويل لنتائج تقديم هذا الصندوق القروض للدول النامية، وشروطه ووصفاته التي يسميها إصلاحاً اقتصادياً، والتي يفرض تنفيذها على الدول قبل الاتفاق معها على أي قرض، يمكن بسهولة ملاحظة مدى الأذى الذي يسببه لمواطني واقتصادات هذه الدول حتى استحق تسمية “المُخرِّب”، وهي التسمية التي يحلو لكتّاب ومفكّرين غربيين استخدامها لدى الكلام حول هذا الصندوق. وقد دخلت مصر في التجربة السوداء التي يفرضها هذا الصندوق من سنة 2014، أي في السنة التي وصل فيها عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، ولم تستطع الإفلات منها؛ إذ تظهر عوارض مرضية على البلاد سببتها وصفاته التي يبدو أن الحكومة تنفذها بحذافيرها. كما تزداد أعباء المواطن المصري ومعاناته المادية والحياتية مع كل مرحلة اقتراض، وهي مراحل تتوالى قرضاً بعد آخر.
عادة ما تلجأ الدول إلى الاقتراض في أطوار الركود الاقتصادي وتراجع الإيرادات، خصوصاً عندما تمتنع عن زيادة الضرائب، ومنعاً لتقليل الإنفاق لضمان الاستمرار في تقديم الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والبرامج المجتمعية. إلا أن الحال في مصر مختلف عن هذه القاعدة، ما خلا طور الركود الاقتصادي الذي أصابها؛ إذ إن الضرائب تزداد، لكن على الفقراء في الوقت الذي يعفى منها الأثرياء. أما بالنسبة للإنفاق فقد تراجع في المجالات الشعبية، خصوصاً فيما يخصّ قطاعي التعليم والصحة، وازداد باتجاه بناء القصور الرئاسية والمدن الجديدة، على شاكلة العاصمة الإدارية، المخصّصة للأغنياء بسبب ارتفاع أسعار المساكن والخدمات فيها، والتي لا يقدر عليها سوى هؤلاء. وكانت أخطر صور تقليل الإنفاق قد ظهرت عبر سحب الدعم، أو تقليله، عن الخبز والمحروقات والكهرباء وتقليل القوة العاملة في القطاع الحكومي مع تسريح أعدادٍ من الموظفين الحكوميين وتحويلهم إلى فقراء.
ولهذه الأسباب، باتت القروض التي استجرّتها الحكومة المصرية، من صندوق النقد الدولي، لعنةً على المواطنين، بعدما سلبت منهم مكتسباتهم في العمل والصحة والتعليم وغيرها، فهو أينما حلَّ تتركز شروط الحصول منه على قروض في تقليل دور الدولة الاجتماعي وسحب الدعم عن فئات كبيرة ممن يُصنَّفون من الفئات الهشة في المجتمع، والذين تتأثر حياتهم بسرعة كبيرة مع كل تراجع للدولة عن التقديمات التي كانت توفرها. فإضافة إلى ارتفاع أسعار السلع، خصوصاً الغذائية منها، تراجعت القدرة الشرائية للمواطنين مع تهاوي سعر صرف الجنيه المصري بالنسبة للدولار. وظهرت فتاوي اقتصادية جديدة من قبيل زيادة الضرائب على الموجودات المنزلية الدائمة، مثل البوتوغاز والثلاجة والغسالة والتلفزيون، وهي أعباء تأتي بالتوازي مع ركود الاقتصاد وانخفاض قيمة العملة وزيادة التضخم ومعدلات الفقر. وفي مراحل لاحقة سيؤدي رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء بعدد من الشركات المنتجة في القطاعين العام والخاص، بالاتجاه نحو الإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل وكساد منتجاتها نتيجة ارتفاع أسعارها، ما يؤدي إلى طرحها للبيع، وهو الهدف الذي يدعو صندوق النقد الدولي دائماً لتنفيذه، أي بيع الأصول السيادية للدولة. ويتم مراقبة تنفيذ ذلك عبر الطلب من الحكومة إطلاق مؤشر لتتبع تنفيذ سياسة ملكية الدولة، لزيادة الشفافية بخصوص تحديد الشركات العامة، وبيان حال كل الشركات العامة تمهيداً لخصخصتها. كما سيؤدي إلى تضاؤل الأراضي المخصصة للزراعة، بسبب كساد منتجات الزراعة نتيجة انخفاض القيمة الشرائية لدى الشريحة الواسعة من أبناء المجتمع.
تبيَّن من حجم القروض التي تحصل عليها، والتي وصلت إلى عشرات مليارات الدولارات، عدم وجود ضوابط للاقتراض في مصر في ظل وجود مخاطر حقيقية تخص قدرة البلاد على السداد، ومع وصول إنفاق الحكومة على خدمات الدين إلى نسبة عالية من إجمالي إنفاق الدولة. كما أن هذا التوجه نحو الاقتراض من دون اعتراض داخلي أو معارضة مؤثرة، أو حتى من دون سماع صوت رأي استشاري، يدل على أنه قرار متخذ من هرم السلطة، أي من الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصياً، ولا يمكن بالتالي التراجع عنه في ظل التحكم الفردي بقرار الدولة. وكان السيسي قد مهد طويلاً عبر خطبه ولقاءاته الجماهيرية لوصفات وشروط صندوق النقد الدولي المعروفة، والتي يجب أن يجري تنفيذها قبل الحصول على القرض أو خلال مرحلة الاقتراض وبعدها. وتحدث كثيراً عن الإصلاح الاقتصادي الشامل المؤجل من سبعينيات القرن الماضي.
لذلك تحولت مصر إلى ثاني أكبر مقترض من الصندوق الدولي، وقد سمح لها الصندوق بأن تقترض عبر قرارات استثنائية غير سليمة النيات. كما شجع مقرضين على الاستثمار في الأصول السيادية، من قبيل بيع بعض أراضي الدولة، كما في صفقة رأس الحكمة. وبينما ساهم صندوق النقد الدولي في حل أزمة الديون المتراكمة للشركات الأجنبية مقابل التوريدات من الغاز والمحروقات عن فترة عشر سنوات سابقة، اشترط رفع الدعم خلال السنة الجارية والسنة المقبلة ووضعِ جدولٍ زمنيٍّ لطرح الأصول الحكومية للبيع، قبل صرف الشريحة الثالثة من قرض قيمته ثمانية مليارات دولار.
لن تستفيد مصر من القروض بسبب عدم سلوكها الطريق إلى المشروعات الاستثمارية ذات العوائد الاقتصادية الحقيقة، بل تصرف لتسوية ديون سابقة وخدمة ديون جديدة، إضافة إلى ضياع أقسام منها في مشروعات غير مجدية مثل بناء المدن الجديدة وإقامة الجسور غير الضرورية، وربما على شراء الأسلحة وتكديسها فوق تلك الفائضة، والتي لم تمنع اعتداء إسرائيل على سيادة البلاد في محور فيلاديلفيا. ويأتي الأمر مع إصرار الحكومة على إبقاء أسعار الفائدة في البنوك مرتفعة، وهو العامل الرئيس المسبب لفقدان التحفيز الاقتصادي والاستثمار المنتج. وفي هذا الإطار، لا تزال الذاكرة تحتفظ بكلام السيسي، سنة 2017، حول وضع الحكومة 10 مليارات في البنك بدلاً من صرفها لتطوير السكة الحديدية فتحصل على مليار أرباحا سريعة إذا كان سعر الفائدة 10%. وهي الرؤية الاقتصادية القاصرة، والتي تليق بصاحب ثروة يتصف بالكسل، وليس برئيس جمهورية إحدى مهامه تشجيع الاستثمار المحلي والخارجي في بلاده.
يبقى السؤال حول كيفية تسديد هذه القروض؟ إذ إن الحكومات التي اقترضت سترحل يوماً ما، وبالتالي سيُفرض على الشعب تسديد قروض لم يستفد منها. وحتى تلك الفترة، أي رحيل الحكومات، ستطرأ تغيرات كثيرة على الاقتصاد، ستنضم خلالها أعداد كبيرة من المواطنين إلى عداد الفقراء. وفي هذه الحالة ستكون الحكومة قد فقدت قدرتها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما فقدت سيادتها على أراضٍ ومرافئ، وخسرت قطاعها الصناعي والزراعي المنتج وباتت جميعها في أيدي أصحاب رؤوس أموال محليين أو دوليين، ممن يتبعون صندوق النقد الدولي أينما حلت مصائبه، للحصول على حصصٍ من جثث شركات ومؤسسات وبنوك دمَّرها واقتصادات خَرَّبها.
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: العربي الجديد