أسامة أبو ارشيد *
صورتان متقابلتان لشخصين اثنين يتنافسان على أهم منصب عالمي: الرئاسة الأميركية. في الأولى، يتعرّض أحدُهما لمحاولة اغتيال، فيلوّح بقبضة يده متحدّياً، والدماء تلطخ جزءاً من وجهه، فتثور حماسة الجماهير المُحْتَشِدَةِ له، وتسود التحليلات المتنبئة بأن السباق الرئاسي قد حسم لصالحه. أما الثانية، فهي للمرشّح الآخر، وعلامات الشيخوخة والوهن بادية عليه لا يمكن إنكارها ودحضها، مهما عاند هو ومعسكرُه في الإقرار بذلك، على الرغم من أن استطلاعات الرأي لا ترحمه، وهي ترجّح سقوطاً مدوياً ومهيناً له في الانتخابات المقبلة. أما المشترك بين المشهدين فهو أننا أمام عجوزيْن اثنيْن طامحيْن بقيادة الدولة العظمى، رغم أنهما مفلسان أخلاقياً وسياسياً وبدنياً وذهنياً، وكأنهما شاهدا صِدْقٍ على عوامل الحَتِّ والتَّعْرِيَةِ الزمانية التي لم تسلم منها حضارة إنسانية على مرِّ العصور والأزمان. ليس الولايات المتحدة وحدها تقف على أعتاب مفترق تاريخي، بل العالم كله، إذا ما أخذنا حجمها ومكانتها في الساحة الدولية. ولكن، تلك حكاية أخرى.
في سياق المباينة والممايزة تبرُز صورة الرئيس السابق والمرشّح الرئاسي الجمهوري الحالي، دونالد ترامب، وكأنه قد نُفخ الروح فيها لتدبّ فيها الحياة، مقابل صورة الرئيس الحالي، والمرشح الرئاسي الديمقراطي، جو بايدن، والذي يبدو كمن دخل مرحلة كمونٍ وسُبات يقتربان من السرمدية.
كانت التحليلات السياسية، حتى أسابيع قليلة خلت، تعدّ الأول بمثابة كارثة تحيق بحظوظ الجمهوريين الانتخابية الطامحين بالعودة إلى البيت الأبيض، والسيطرة على الكونغرس، بمجلسيه النواب والشيوخ. أما الثاني (بايدن) فكانت حملته تمنّي نفسها وتراهن على أن يكون ترامب هو خصمه في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل على أساس أنه عنوان الانقسام في الحزب الجمهوري، رغم أن أغلبيّة قواعده تدين بالولاء له، وعلى خلفية توجّس شرائح واسعة من الشعب الأميركي من شعبويّته ونزواته والتهم الجنائية الخطيرة التي يواجهها، فيدرالياً وولائياً. لكن الأداء الكارثي لبايدن في المناظرة الرئاسية أواخر الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) واتضاح مدى وطأة الشيخوخة عليه قسما الحزب الديمقراطي الذي تطالب أغلبيته باستبداله مرشّحاً على بعد أقلّ من أربعة أشهر من الانتخابات الرئاسية. في المقابل، كان الحزب الجمهوري يتّحد أكثر فأكثر خلف ترامب، وتلاشت أصوات المعارضين له في المؤسّسة التقليدية للحزب، الذين إما أنهم آثروا الانسحاب أو الاصطفاف خلف “الملك” و”تقبيل الخاتم” في يده، كنايةً عن الولاء والخضوع له.
ثمَّ جاءت محاولة اغتيال ترامب الغامضة السبت الماضي، وهو يلقي خطاباً أمام جمع من مؤيديه في ولاية بنسلفانيا. فجأة تحوّل الرئيس السابق من “خطر” و”تهديد” للديمقراطية الأميركية، كما يتّهمه بايدن والديمقراطيون، إلى “ضحية” للتحريض والمؤامرات والاستهداف من “الدولة العميقة”، كما يزعم ترامب ومناصروه. المفارقة أن الوحيد الذي حرّض ودعا إلى العنف عندما خسر الانتخابات الرئاسية عام 2020، وبقي يحرّض، حتى أسابيع قليلة، إن هو خسر في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، هو ترامب نفسه. إلا أن الصورة الانطباعية لم تترك هامش مناورة واسعا أمام بايدن والديمقراطيين، الذين لم يجدوا بُدّاً من إعادة صياغة خطابهم وضبط نبرتهم المشكّكة بترامب والمتّهمة له. بل اضطرّ بايدن أن يعتذر عن تصريحات سابقة له بضرورة وضع ترامب في “بؤرة الهدف” لناحية خطابه والسياسات التي يدعو إليها. أما التداعي المباشر لمحاولة الاغتيال فكان في تحوّل ترامب إلى رمز وحدة الحزب الجمهوري وأملهم في الظفر بالانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، مقابل بايدن الذي تضاعفت مشكلاته مع حزبه الديمقراطي، وتعمّق الانطباع حوله من أنه عنوان انقسامه وتشتته وهاجسه من خسارة فادحة.
باختصار… فشلت رصاصة توماس ماثيو كروكس في تحقيق هدفها الغامض باغتيال ترامب وتحييده، لكنها حقّقت هدفين آخرين متعارضين لم يكونا في حسبانها: أنها عزّزت حظوظ ترامب للظفر في الرئاسة الأميركية بعد أشهر. وأنها قد تكون الرصاصة التي أنهت عمليّاً إصرار بايدن على البقاء مرشّحاً عن الحزب الديمقراطي، أو سعيه إلى الحفاظ على الرئاسة الأميركية أربع سنوات أخرى. إنها رصاصة عجيبة، أنعشت آمال من أرادت قتله، خصوصاً وهو يرفع قبضة التحدّي والصمود بعد إصابته في أذنه، وقد تكون بدّدت آمال من كان يُفترض أن يستفيد منها بشكل عرضي، وتحديداً بعد المشهد الهزيل البائس الذي بدا عليه مساء الأربعاء الماضي بعد الإعلان عن إصابته بفيروس كورونا المتجدّد، والذي كان يباهي أن احتواءه قد جرى خلال رئاسته. وقد لا تجد هذه السطور طريقها إلى النشر إلا وقد أعلن بايدن انسحابه من السباق الانتخابي الرئاسي، تحت وابل الضغوط الهائلة من قيادات الديمقراطيين القلقين، لتبدأ حينها صفحة جديدة من التمزّق الديمقراطي – الديمقراطي، بشأن هوية المرشّح الأقدر على هزيمة ترامب في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن
المصدر: العربي الجديد