د. صبري صيدم *
في ظل التكنولوجيا المتاحة للجميع لم يعد هناك ما يخفى على البشرية من حقائق ومصائب، يسعى المتسببون بها لإخفائها. فما بالكم بمن وقف أمام الكونغرس الأمريكي قبل أيام ليسوّق كذبه وادعاءاته في عرض سريالي لسيرك سياسي متوقع، حفز البعض على تسمية ذلك الكونغرس بـ«الكنسيت الأمريكي»؟
صاحب العرض ومن شدة نفاق الحاضرين وارتعادهم خوفاً من اللوبي الصهيوني، دأبوا وخلال مجريات العرض على التصفيق بحرارة لسلسلة الادعاءات والأكاذيب، التي ساقها المتحدث، ومعه جيش من المُطبلين لليمين الإسرائيلي المتطرف، والحاقد على فلسطين البشر والشجر والحجر.
لهؤلاء ولضيف العرض بنيامين نتنياهو نقول: للذين ينكرون إبادة غزة فلينظروا لصور الأقمار الصناعية المتاحة للجميع، حتى يعرفوا أن التكنولوجيا إنما خذلت ادعاءاتهم. وللذين ينكرون قتل الآلاف من الأطفال فليراجعوا ملايين الصور التي رشحت من غزة على مدار الحرب. وللذين ينكرون دمار المشافي والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، فلينظروا إلى الخرائط الإلكترونية، لتحديد مواقع تلك المؤسسات، ثم ليكبروا الصور الحية ليعرفوا هول الكارثة وبشاعة الحقيقة. وللذين ينكرون اعتقال الآلاف من الفلسطينيين وتعذيبهم، فلينظروا إلى آلاف الصور التي وزعها الاحتلال ذاته. أما قتل الآلاف فيكفي أن يراجعوا صور القبور وغيرها من مخزون أليم متاح للجميع في الفضاء الإلكتروني، من مواد فيلمية وصوتية ونصية، إضافة إلى ما راكمته مؤسسات العالم من ملفات توثيقية دامغة لا حصر لها.
هل نذكركم بسديه تيمان واغتصاب الكلاب للأسرى؟ أو من قبل أولئك السجانين المجرمين الذين تجاوزوا حدود الآدمية؟ هل نذكركم بمجازر المعمداني وجباليا والنصيرات ورفح وخان يونس والشجاعية، وقائمة لا تنتهي من المواجع والمفازع؟ ماذا عن التصريح علانية بكون الشعب الفلسطيني حيوانات بشرية؟ وضرورة إلقاء القنابل النووية عليه؟ ماذا عن منع الأطفال المصابين بالسرطان من الخروج من غزة لتلقي العلاج؟ ماذا عن قطع الماء والكهرباء وتدمير البنى التحتية وقتل كل مقومات الحياة؟ ماذا عن التجويع وحرمان الناس من العلاج بعد تدمير المشافي ودفن الناس أحياء في محيطها؟ وماذا عن تهجير الناس الآمنين من بيوتهم إلى مناطق، ادعى الاحتلال أنها آمنة ليقصفهم فيها؟ وماذا عن قنص الأمهات وهن برفقة أطفالهن وأمام أعينهن؟ وماذا عن الأهل الذين وقفوا أمام العدسات بجسد ابنتهم الميت بعد أن قطع القصف رأسها، باحثين عن تلك الرأس لدفن الجثمان؟ هل خجلت إسرائيل أو ترددت أو حاولت حتى حجب الصوت والصورة؟ لا طبعاً، وهو ما ساهم في نشر تلك الفظائع على الملأ بالصوت والصورة وعبر وسائط التكنولوجيا على تنوعها.
هل نذكركم بيوسف وزياد ورهف ومحمود وسمير وجريس ونورا وهند وغيرهم الآلاف من أسماء شكلت في وأدها نقطة عار كبيرة على جبين الصهيونية؟ إن التكنولوجيا لم تفضح تصرفات الاحتلال فحسب، بل باتت مصدراً وفيراً لأرشيف ضخم مليء بالظلم والحزن والتجّبر وقادر على إدانة أعتى المجرمين. لقد فضحتكم التكنولوجيا ولن تسعفكم مساعيكم لمحو ظلمكم وبطشكم، ولن يرضى الشعب الفلسطيني مقايضة دماء أبنائه بأي ثمن كان ولن يقبل إلا بالحرية والاستقلال والخلاص. إن حجم الفظائع الإسرائيلية التي راكمها الاحتلال لكفيلة بإدانته متى قرر العالم ذلك، إلا أن زخمها وقباحتها وما عززته التكنولوجيا من غزارة ووضوح لمجمل المواد والوثائق، يجعل فظائع الاحتلال مخزوناً إجرامياً ضخماً لن يشكل وصمة عار على جبين الصهيونية فحسب، بل على كل من صمت على هذه الجريمة النكراء بكامل فصولها. فهل تستفيق البشرية؟ أم تبقى على ثباتها. ننتظر ونرى!
* كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي