سمير الزبن *
هدف الاستقلال الوطني الثابت هو السمة التي جمعت تجارب حركات التحرّر الوطني. اختلفت التجربة الفلسطينية عن هذه التجارب بتغيّر الهدف، رغم طبيعتها مشكلةَ تحرّر وطني، فطوال التجربة الفلسطينية الحديثة تغيّر الهدف النهائي مرّات عدّة، فلم يكن هناك ثبات في الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه، وكانت هذه واحدة من أعقد المشكلات البنيوية في الساحة الفلسطينية، فقد جاء القرار السياسي الفلسطيني ليبرّر تغيّرات الهدف الرئيس في التجربة الفلسطينية.
تجربة العمل المسلّح التي بدأت في الساحة الفلسطينية العام 1965، كان مطروحاً عليها تحرير فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني، فعند انطلاقة هذا العمل لم تكن إسرائيل قد احتلّت الضفّة الغربية ولا قطاع غزّة. فقد كان المطروح على الفصائل الفلسطينية العملَ على تحرير فلسطين التي استولت عليها العصابات الصهيونية في 1948. مع هزيمة 1967، والظروف التي تلتها، والوقائع الجديدة التي فرضتها في الصراع، كان على القيادة الفلسطينية خلال عقدَي السبعينيّات والثمانينيّات أن تعدّل الهدف المركزي، من هدف نهائي تمثّل في السابق بـ”تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني” إلى “إقامة الدولة الفلسطينية في الضفّة والقطاع”، من الرفض المطلق في نهاية الستينيّات للتعامل مع قرار مجلس الأمن 242، بوصفه يتعامل مع “قضية لاجئين”. كان على القرار السياسي البحث عن مُبرّرات هذه التحوّلات من أهدافٍ كانت مرفوضة من القوى ذاتها، وفي المقدمة الأشخاص أنفسهم، لتتحوّل مطالبَ وأهدافاً مقبولة، ولتتحوّل من حلول خيانية واستسلامية وتصفوية إلى حلول وطنية. وأخذ الانتقال من هدف نهائي إلى هدف نهائي آخر يُعتبر تحوّلاتٍ في الفكر السياسي الفلسطيني، أو تعبيراً عن نضوج فلسطيني بالتحوّل إلى الواقعية والعقلانية.
لم تكن هذه التحوّلات تُفسَّر سياسياً على قاعدة أنّها استمرار للمطالب الفلسطينية السابقة، بقدر ما كانت تُفسَّر ممرّاً إجبارياً للحركة الفلسطينية لحمايتها من التصفية، وكانت القيادة الفلسطينية تُعبِّر عن ذلك بأنّها هي ذاتها ليست مع هذه التحوّلات في حقيقة الأمر، ولكن الظروف تجبرها على ذلك. حتّى أنّ هذه التحوّلات التي اعتُبرت تحوّلات باتجاه الواقعية والعقلانية عند بعضهم، وصنّفوها بوصفها تعاملاً إيجابياً مع واقع مُتغيّر، لم يتطابق تصنيفها مع تصنيف الأغلبية الفلسطينية في كلّ أماكن تجمّعها، التي اعتُبرت طوال الوقت الذي احتاجته هذه المتغيّرات تطوّرات سالبة وليست إيجابية، وكان ينظر إلى هذه التحوّلات بوصفها توجّهاً نحو الاستسلام والتخلّي عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين في فلسطين.
في سنوات السيطرة الأولى للفصائل المسلّحة على منظّمة التحرير، كان جزء أساس من أهدافها ليس السيطرة على القرار السياسي الفلسطيني فحسب، بل ومنع تشكّل أيّ قيادة أخرى يمكن أن تكون مرجعية سياسية محلّية. وعلى هذا الأساس حاربت في الجبهات كلّها وجود قيادات فلسطينية محلّية، خاصّة في الأراضي المُحتلّة في العام 1967، إذ رأت في أيّ قيادة محلّية قيادةً بديلة لها. وقد بقي السلوك ذاته قائماً بمنع وجود قيادة فلسطينية محلّية في الضفّة والقطاع، حتّى بعد أن تكرّست منظّمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً. وليس أدلّ على ذلك من التعامل المُذلّ والمُهين الذي اعتمدته قيادة المنظّمة مع الوفد المُفاوِض الفلسطيني في إطار الوفد الأردني إلى مفاوضات مدريد، ومن ثمّ إلى مفاوضات واشنطن 1991.
من السقوف العالية جداً، بدأت رحلة التحوّلات السياسية الفلسطينية، التي كان على القيادة الفلسطينية تكريسها بقرارات عبر مؤسّسات منظّمة التحرير. بدأت الرحلة من أقلّ الحلول خلافاً، وهو مطلب “الدولة الفلسطينية الديمقراطية” صيغةً للتعايش اليهودي الفلسطيني داخل فلسطين المُحرّرة. ومنها كان الانتقال في 1974 إلى برنامج “السلطة الوطنية”، وهو التحوّل الذي ارتبط مع حرب 1973، ولم تكن الطريق سهلةً في الوصول إلى “برنامج النقاط العشر”، فقد شقّ هذا البرنامج الساحة الفلسطينية إلى فريقَين، أُطلق عليهما فريقا “الرفض” و”القبول”. وقد جمّدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في إثر إقرار البرنامج في المجلس الوطني، عضويتها في المنظّمة، وشكّلت ما عُرف وقتها بـ”جبهة الرفض للحلول الاستسلامية”. وقد افتتح البرنامج المرحلي مرحلةً طويلةً من التحوّلات والتراجعات الفلسطينية، وصلت، في النهاية، إلى الإقرار بقرار مجلس الأمن 242 أساساً وحيداً للتسوية مع إسرائيل. فقد تمثّل الدور الذي لعبه هذا البرنامج في أمرَين؛ إقرار فكرة المرحلية برضى الجميع، والدعوة إلى الكفاح من أجل إنشاء سلطة وطنية فلسطينية على أيّ جزء يتحرّر من الاحتلال الإسرائيلي من أرض فلسطين. وبإقرار المرحلية، والتوجّه إلى القبول بسلطة في جزء من أرض فلسطين، طوى برنامج النقاط العشر هذا جملة من الثوابت السابقة، طوى بعضها صراحة وبعضها ضمناً، وانفتح الباب أمام طيِّ ثوابت أخرى في المستقبل وفق المُستجدّات اللاحقة، وفي برامج وطنية لاحقة صادقت عليها الهيئات الفلسطينية الشرعية، بالإجماع أو بالأغلبية الساحقة.
قاد فصيل فلسطيني واحد هذه التحولات التكيفية كلّها، لأنّه هيمن على مؤسّسات منظّمة التحرير منذ دخول الفصائل إطار المنظّمة، وحاولت هذه القيادة في عقد السبعينيّات تصوير قراراتها بوصفها قرارات إجماع فلسطيني، عبر إجماعات منظّمة التحرير، فإنّها قد تخلت عن ذلك، وكشفت حقيقة العلاقات داخل المنظّمة عندما عقدت وحدها دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ17 في عمّان، تاركةً الآخرين خارج إطار المنظّمة، ومعلنةً بشكل لا يقبل مجالاً للشك هيمنتها المطلقة على مؤسّسات منظّمة التحرير، وبالتالي على القرار الوطني الفلسطيني. وقد تكرّر هذا التفرّد في شكل مهزلة في دورة المجلس الوطني الـ21، التي عُقدت في غزّة، وعرفت بدورة “تغيير الميثاق”، التي كان عقدها كاريكاتيرياً ولمهمّة واحدة، بعد التهميش الذي تعرّضت له مؤسّسات منظّمة التحرير كلّها، بعد توقيع اتفاقات أوسلو (1993)، من الإسرائيليين.
حاولت القيادة الفلسطينية إبقاء الخطاب السياسي الفلسطيني متّسماً بالغموض، يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً، أو يقول المواقف السياسية المتناقضة في الوقت ذاته، وهي السياسة التي عُرفت في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات بسياسة “لعم”، التي حاولت إرضاء الجميع داخلياً وخارجياً من دون أن ترضي أحداً فعلياً. وكانت لهذه السياسة أسبابها التي جعلتها تحكم الساحة الفلسطينية فترة من الزمن، فلم تكن القيادة الفلسطينية قادرة على الانقلاب بالسرعة الكبيرة على شعاراتها الأولى، وكان هذا يحتاج إلى وقت لتمريره، وكانت في سياق تكيّفها مع النظام الرسمي العربي تقع فريسة مطلبَين لاصطفافَين متناقضَين في النظام العربي، مطلب الدول المُتشدّدة، ومطلب الدول المحافظة، وكان خطاب “لعم” يحاول إرضاء الطرفَين. كما كان هذا الخطاب يحاول إرضاء قوى المُعارَضة داخل إطار منظّمة التحرير، ويحافظ في الوقت ذاته على مساحة للمناورة بين الجميع، وهو ما عُرف بـ”اللعب على التناقضات العربية- العربية”.
لقد أمسك عدد محدود من الأشخاص آلية القرارات الفلسطينية في غياب المؤسّسات، وكانت الفردية هي العنوان للممارسة السياسية التي استقرّت عليها آلية صنع القرار الفلسطيني منذ النصف الثاني من السبعينيّات، وبفقدان آليات المحاسبة والمساءلة التي تتيح للشعب مساءلة قيادته، في كلّ مرحلة، فقد تمتّ الهيمنة على القرار السياسي الفلسطيني. وبهيمنة القيادة الفلسطينية على الإطار السياسي الفلسطيني (منظّمة التحرير)، وجدت نفسها تهيمن على التجمّعات الفلسطينية، من دون أن تملك هذه التجمّعات القدرة على محاسبتها، فكانت القيادة الفلسطينية تمارس السياسة من موقع بطريركي (أبوي)، من دون مسؤوليات تجاه الشعب ذاته، ولأنّ الشعب الفلسطيني موزّع بين دول عدّة، فقد عنت هذه الممارسة نوعاً من الفوضى السياسية، وعنت، وهذا الأكثر أهمّية، عدم وجود استراتيجية سياسية فلسطينية مدروسة تتحرّك القيادة السياسية من خلالها، وتُبنى السياسة اليومية على أساسها، وبذلك لا تتحوّل السياسات اليومية إلى إستراتيجيات فحسب، بل يجري التلاعب بتضحيات الشعب الذي لم يتأخّر يوماً في تقديمها أيضاً.
* كاتب وروائي فلسطيني
المصدر: العربي الجديد