الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

استراتيجية الصين تجاه الشرق الأوسط.. «عدم القيام بشيء»

ياسمين عبداللطيف زرد *

منذ أواخر عام 2023، شكل الحوثيون في اليمن تحدياً غير عادي للشحن العالمي. إذ قاموا بشن هجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر، هدفت إلى الضغط (حسب زعمهم) على الولايات المتحدة وحلفائها بشأن الحرب الإسرائيلية في غزة، مما اضطر العديد من أكبر شركات الشحن الدولية إلى إعادة توجيه سفنها حول إفريقيا لتجنب البحر تماماً.

ووفقاً لأحد التقديرات، ارتفعت تكاليف الشحن من آسيا إلى أوروبا بنحو 300% في الفترة من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى آذار/ مارس من العام الحالي. وفي محاولة لاحتواء الأزمة والدفاع عن هذا الممر التجاري الحيوي، نفذت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مئات الضربات الجوية ضد مواقع الحوثيين في اليمن.

ومع ذلك، وقفت الصين، التي تشكل تجارتها العالمية الضخمة جزءاً كبيراً من حركة المرور في البحر الأحمر، موقف المُتفرج، رغم أن 20% من إجمالي التجارة البحرية للصين تمر عبر البحر الأحمر، ونتيجة لهجمات الحوثيين، تواجه بكين تكاليف شحن متزايدة وتعطل سلسلة التوريد في وقت يتعرض فيه الاقتصاد الصيني أصلاً لضغوط. ومع ذلك، لم تقُم بكين سوى بالقليل للرد. إذ في العلن، اقتصر المسؤولون الصينيون على التأكيد على أهمية البحار الآمنة والمفتوحة؛ بينما حاولوا سراً التفاوض مع الحوثيين ومؤيديهم الإيرانيين لتأمين المرور الآمن للسفن المرتبطة بالصين، على الرغم من تعرض العديد من هذه السفن للهجوم.

  • • •

يقول (لورين بارني وآرون جلاسيرمان) كاتبا المقال- الذي يتجاوز الألفي كلمة- أن ضبط النفس الذي تمارسه الصين في البحر الأحمر يثير تساؤلات مهمة حول استراتيجيتها في الشرق الأوسط. فقبل الحرب الحالية في قطاع غزة، بدا أن بكين تؤكد على دور متزايد في المنطقة، بما في ذلك التوسط في التطبيع الدبلوماسي بين إيران والسعودية وتوسيع العلاقات التجارية مع دول الخليج. أما بعد الحرب، فيشير بعض المراقبين إلى أن إحجام بكين عن مواجهة الحوثيين مدفوع بمحاولة تعزيز نفوذها في الإقليم. ذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك، مشيرين إلى أن الصين توافق ضمنيًا على هجمات الحوثيين وتقوم بتمكينها عمدًا من خلال تجارتها المستمرة مع إيران، كجزء من خطة أوسع لإثارة الفوضى في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

كلا التفسيرين يتجاهلان أولويات بكين الأعمق في المنطقة. بكلمات أخرى، قادة الصين سعداء بتجنب التورط العسكري في المنطقة- وتسجيل نقاط دبلوماسية مع الحكومات الإقليمية- إلا أنهم لا يرغبون في رؤية هجمات البحر الأحمر مستمرة. فهم يعلمون أن بلادهم لديها الكثير من المصالح الاقتصادية على المحك. بكلمات قليلة، لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، تعتمد الصين في نهاية المطاف على الاستقرار، وليس الفوضى. فمما لا شك فيه أن بكين ترى نفسها قوة صاعدة، وقد أوضح القادة الصينيون أنهم غير راضين عن القيادة الأمريكية للشؤون العالمية. لكن هذا لا يعني أنها تريد تشجيع الصراع في جميع أنحاء العالم. وهذا صحيح بشكل خاص في الشرق الأوسط. فإذا تطورت أزمة البحر الأحمر أو الحرب في غزة إلى حرب أوسع نطاقاً، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة تقلب التجارة والاستثمارات الصينية في جميع أنحاء المنطقة.

  • • •

في الوقت الحالي، لا يُظهر الحوثيون أي علامات على تخفيف قبضتهم الخانقة على البحر الأحمر. إذ في شهادته أمام لجنة بمجلس الشيوخ في أوائل شهر أيار/ مايو الماضي، توقع مدير المخابرات الوطنية الأمريكية، “أفريل هاينز”، أن التهديد بشن هجوم «سيظل نشطاً لبعض الوقت». كما تتوقع شركة الشحن الدولية “ميرسك” أن تستمر اضطرابات الشحن خلال عام 2024، وذكرت أن «منطقة الخطر توسعت، وأن الهجمات تصل إلى مناطق أبعد». بالإضافة إلى ذلك، في الأسبوع الأول من حزيران/ يونيو الحالي، أصابت صواريخ الحوثيين وطائراتهم بدون طيار العديد من السفن التجارية، وشنت الجماعة أيضاً هجوماً على حاملة طائرات أمريكية، على الرغم من تأكيد المسؤولين الأمريكيين أن الهجوم لم ينجح.

رغم أن مثل هذه الضربات تهدد أيضاً المصالح الصينية في المنطقة، إلا أن خيارات بكين محدودة. فهي تعلم أن أي رد عسكري قد تقوم به لن يكون أكثر نجاحاً من رد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كما تحتاج إلى الحفاظ على دعم زعماء الشرق الأوسط في محاولتها لسد الفجوات التي خلفها الغرب في جميع أنحاء المنطقة، ونتيجة لذلك فمن المرجح أن ترد الصين بالمزيد من نفس الشيء؛ بمعنى أن تبذل قصارى جهدها لحماية مصالحها الخاصة، وتجنب المزيد من التشابكات، والصمود في وجه الاضطرابات.

وتماشياً مع وجهة نظرهم بأن القوة الأمريكية آخذة في الانحدار، فسوف يستمر القادة الصينيون في تسجيل نقاط دبلوماسية سهلة في الشرق الأوسط وقتما أمكنهم ذلك. وهكذا، في نيسان/ أبريل الماضي، دعوا أعضاء المنظمتين الفلسطينيتين المتنافستين، حماس وفتح، إلى بكين لتعزيز المصالحة ووضع الخطوط العريضة لحكومة وحدة محتملة في غزة والضفة الغربية بعد الحرب، حتى لو كانت مثل هذه الخطة بعيدة في الوقت الحاضر. وكما يشير الاستطلاع الذي أجراه “مايكل روبنز” و”أماني جمال” و”مارك تيسلر” في أواخر عام 2023 وأوائل عام 2024، فقد تحسن رأي الشعوب العربية عن الصين منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، على الرغم من أن قلة من المشاركين اتفقوا على أن الصين ملتزمة جدياً بحماية حقوق الشعب الفلسطيني.

في نهاية المطاف، تسعى الصين في الشرق الأوسط إلى ما تسعى إليه في أماكن أخرى: توسيع علاقاتها التجارية، وتنويع مصادر وارداتها من الطاقة والغذاء، والتأكيد على نفوذها المتنامي كقوة عظمى، كل هذا في حين تتجنب التورطات العسكرية. ويدرك القادة الصينيون أن المعارضة الخطابية للهيمنة الغربية في المنطقة هي وسيلة منخفضة التكلفة للحصول على دعم أوسع، وخاصة في الجنوب العالمي. إن أولويتهم الكبرى ليست زرع المزيد من عدم الاستقرار، بل حماية مصالح الصين والتكيف مع البيئة الجيوسياسية المهددة. ولتحقيق ذلك، يستخدمون أساليب قادرة على إدارة الأزمات، وليس خلقها.

بالنسبة للولايات المتحدة، هذا يعني أن الصين ستظل منافسًا دبلوماسيًا في الشرق الأوسط. لذا ينبغي عليها أن تتوقع من بكين أن تستمر في شجب الهيمنة الأمريكية وتصوير نفسها كقوة عظمى بناءة أكثر. كما عليها إدراك أن مصالح الصين الحقيقية تكمن في البقاء خارج الصراع وانتزاع ما يمكنها من المكاسب، تاركة مسؤولية استعادة الاستقرار الإقليمي لدول أخرى. أي أنها لن تبذل الكثير من الجهد من أجل السلام، لكنها لن تحبط أي عملية من شأنها تحقيق ذلك.

……………….

النص الأصلي

ــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة ومترجمة مصرية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.