الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

استراتيجية نتنياهو: هل يشعل الخطاب في واشنطن فتيل التصعيد؟

موفق نيربية *

” استهدفوا إسرائيل وسوف نستهدفكم… هذا تحذير لكم ”…

هكذا ورد في بيان لعدد من الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي بينهم ميتش ماكونيل (زعيم الأقلية) وتيد كروز وماركو روبيو، بعد أن طلب كريم خان، المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية منذ عدة أسابيع إصدارَ أوامر اعتقال بحق ثلاثة إسرائيليين (نتنياهو وغالانت وهاليفي) وثلاثة فلسطينيين (هنية والسنوار ومحمد الضيف). كان ذلك الموقف يوازن بين الطرفين في مسؤولية ما حدث، اعتبر كلاهما ذلك القرار غير عادل، بالطبع. لكنّ الولايات المتحدة ليست موقعة على اتفاقية تلك المحكمة، مثل روسيا والصين وإسرائيل. لذلك لم يكن هنالك أيّ مفعول للقرار على استقبال نتنياهو في الولايات المتحدة أواخر الأسبوع الماضي، لإلقاء كلمة أمام الكونغرس بغرفتيه، في زيارة سوف تكون تاريخية أكثر فأكثر في ما بعد.

كانت الكلمة يوم الأربعاء الماضي، وغاب عنها أكثر من ستين عضواً ديمقراطياً، بينهم نائبة الرئيس- الرئيسة العملية لمجلس الشيوخ بفعل منصبها- والمرشّحة الديمقراطية العتيدة للرئاسة. غاب أيضاً من يليها في كرسي الرئاسة وحضر من يليه وراء نتنياهو. في القاعة، كان هناك برود متفاوت ولافت من جانب ديمقراطيين آخرين بين الحضور، ورغم ذلك وصلت مرات المقاطعة بالتصفيق الحار عدداً قد يكون قياسياً، كأنّ ذلك لحجب أصوات المحتجّين الغاضبين خارج مبنى الكابيتول.

باختصار: تعهّد نتنياهو بإحراز النصر الكامل، وكان عنيفاً في توصيفه للمحتجين في الخارج، وفي الداخل أيضاً، بل وصف المعارضين الأمريكيين للحرب كلّهم بالحمقى، الذين يفيد موقفهم حماس وكلّ الأعداء. شكر الرئيس بايدن، أصولاً، على ما قدّمه لإسرائيل طوال خمسين عاماً من عمله السياسي؛ لكنّه شكر ترامب- المرشّح الجمهوري- وفصّل في مواقفه من ضمّ الجولان المحتل، ونقله للسفارة الإسرائيلية إلى القدس وتحقيقه لاتّفاقات أبراهام مع دول عربية. أشار كذلك إلى أربعة” أبطال” إسرائيليين بين الحاضرين في الشرفات، مع تعريف أحدهم بأنّه إثيوبي الأصل، وثانٍ بأنّه بدوي- عربي- مسلم، وثالث ورابع فقدا أطرافهما واستمرّا في القتال” ببسالة”. وفي المقابل وجّه توبيخاً شديد اللهجة لمعتصمي الحرم الجامعي في أكثر من جامعة أمريكية. باختصارٍ آخر: لعب نتنياهو بعنف أيضاً على انقسامات السياسة الأمريكية وحفر فيها، هي التي بلغت أشدّها حالياً، وسوف تزيد. وقد علّق أحد النواب الديمقراطيين على ذلك قائلاً “إن خطاب نتنياهو كان من أجل جمهوريي دونالد ترامب.. في حين لم نسمع شيئاً عن مدى تقدّم المباحثات حول وقف إطلاق النار وعودة الرهائن… لم نسمع شيئاً عن السلام!”. وقالت بيلوسي- التي قاطعت الجلسة بدورها- “كان ذلك الخطاب أسوأ عرض لمسؤول أجنبي دُعي لإلقاء كلمة في الكونغرس”، رغم أن ذلك الكونغرس قد دعاه أربع مرات حتى الآن، أكثر مما دُعي تشرشل نفسه. قال السناتور ليندسي جراهام، إن خطاب نتنياهو كان “ملحمياً”؛ ووصفه السناتور دان سوليفان بأنه “مذهل” و”أحد أقوى الخطابات التي رأيتها”. وقال النائب آندي بار “إن نتنياهو أكد أن “دعم إسرائيل والدفاع عنها يتعلق بالدفاع عن الولايات المتحدة والشعب الأمريكي”؛ وقال أيضاً إن “مصالحنا متوافقة تماماً ومثالية”، و”هؤلاء المحتجون لا يعرفون ماذا يفعلون، ولا يفهمون ماذا يفعلون. إنهم يدافعون عن الشر”.

ولكن من المرجح أن يزعج فشله في تحديد مسار لإنهاء الحرب الديمقراطيين أكثر من غيرهم. فاتّهم الديمقراطيين- وزعيمهم في مجلس الشيوخ تشاك شومر- نتنياهو بإطالة أمد الحرب في غزة من أجل إطالة عمره السياسي، كذلك قال النائب جيري نادلر، إن الخطاب “غير صادق في الأساس”، “يقول إنه يريد السلام، لكن مصلحته السياسية هي إبقاء الحرب مستمرة لأطول فترة ممكنة”.

اعتمد نتنياهو نقطتين لتحصلا على أكبر حيّز من خطابه الذي وُصف مراراً بأنّه “ناري”: الهجوم على “خصومه” في الولايات المتّحدة، الذين ملأوا الجامعات والشوارع صراخاً واحتجاجاً على سياساته، ليصل من خلالهم إلى خصومه السياسيين في غمرة معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويساعد أصدقاءه فيها؛ ولكن أيضاً الهجوم على خصومه في إسرائيل الذين ملّوا الحرب المستمرّة وأخذوا يميلون إلى السلم والأمان، حتى لو لم يكن ذلك واضحاً في كلّ ما يقولونه من الناحية الاستراتيجية، لكنه- على الأقل- واضح في ما يخص الموقف من تمادي حكومة نتنياهو في حربها، ورفضها التوقّف عند مسألة الرهائن.. وفي “فلسطين” بضفّتها الغربية التي تقاوم ما تعانيه من بطش ووحشية الاستيطان الذي يرعاه نتنياهو برعايته للوزيرين المتطرّفين القادمين من عصور بعيدة خَلَت- بن غفير وسموتريش- اللذين يؤمّنان استمراره على رأس حكومته؛ وبغزّتها المنكوبة، التي قدّمت” قيادتها” له ذريعة شملها بمقدّمات خطابه الطويلة وتفصيلاتها الملحمية بالفعل. وراء ذلك سياسات ثأرية تستمرّ بسفك دماء أبرياء وأطفال ونساء في غزّة. ذلك كلّه عملياً من أجل استمراره بالحكم، نائياً عن المحاسبة وعن القضاة المتربّصين له عند الزاوية. وعد بـ”النصر الحاسم”، ووعد بمنع قيام دولة فلسطينية في المستقبل إطلاقاً، والوعد المفتوح الحيّ باستمرار الحرب، استماتةً من أجل الحكم بأمان، لا يستغربها من يستميت بدوره للعودة إلى البيت الأبيض، وكاد يفقد أذنه.. ولكن الحقّ أنّ هناك شيئاً من ذلك أيضاً في فلسطين- غزة!

نستعيد هنا توسّعَ نتنياهو في الحديث عن 7 تشرين الأول/ أكتوبر، عمّا سمته حماس من جهتها “طوفان الأقصى”، حين أشار إلى أن ذلك اليوم هو تكرار للسابع من كانون الأول/ ديسمبر 1941، يوم قصفت اليابان بشكل مفاجئ “غادر” ميناء بيرل هاربور الأمريكي وأوقعت 2400 ضحية، فقام الكونغرس بإعلان دخول الولايات المتحدة الحرب في اليوم التالي. وهو أيضاً تكرار ليوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، الذي ذهب ضحيته حوالي 3000 أمريكي في مركز التجارة العالمية، وذهبت الولايات المتحدة أيضاً إلى الحرب مع أفغانستان ثمّ العراق بعدها. حروب العالم الأمريكية تلك هي ما يستحضره نتنياهو لمستمعيه الأمريكيين، حتى يروا في أْعداد الضحايا الفلسطينيين شيئاً طبيعياً، بعد وقوع 1200 قتيل في محيط غزة، من بين من كانوا يحضرون حفلة موسيقية بريئة، عند الفجر، على أيدي ثلاثة آلاف مهاجم من حماس وغيرها. وأعتقد أن تلك الصورة هي الدافع الأكبر وراء حديث السيناتور غراهام عن” الظاهرة الملحمية” في خطاب نتنياهو.

كانت الأمثلة تهدف إلى بيان أنّ النسبة ما بين ضحايا “الطوفان” والحرب التالية له مشروعة تاريخياً، في التاريخ الأمريكي نفسه الذي يستحضره المتحدّث الإسرائيلي أمام الكونغرس.. وإذا اعتبرنا “الحرب على الإرهاب” التي شنّها جورج بوش حرباً دولية بمعنى من المعاني، إضافة إلى حرب روزفلت التي كانت عالمية، فإن ما يذهب العقل إليه عفَو الخاطر أن نتنياهو قد يتابع الحرب بمقاييس لا تخطر على البال أيضاً.

يوم بيرل هاربور المشهود، أخذت الخيلاء بالقائد الياباني الأدميرال ياماماتو لنجاحه في خطته السرية لمفاجأة الأمريكيين في هاواي- بيرل هاربور، ولم يكن ليتصور لا هو ولا إمبراطوره ما سيحدث في ما بعد في هيروشيما وناغازاكي.

سوف نشاهد انتخابات أمريكية ملحمية كما يبدو، وتطوّرات إقليمية مرافقة لها!

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.