رشا عمران *
بعد سقوط نظام صدّام حسين في بغداد عام 2003، نزحت موجة جديدة من العراقيين من مؤيدي صدّام إلى سورية. وتوزّعوا، مع عراقيين قدامى في كل سورية، خصوصاً في دمشق والمحافظات الحدودية القريبة من العراق. ومثل كل جالية في مجتمع جديد، عاش العراقيون متجاورين في أحياء محدّدة في العاصمة، اشتروا واستأجروا عقارات وفتحوا مطاعم سمّيت بأسماء عراقية، ولأن دمشق مدينة صغيرة كان وجودهم لافتاً في الأحياء التي سكنوا فيها، كانت كما لو أنها قطعة من العراق وُجدت فجأة في قلب دمشق. واستغلّ أصحاب العقارات السوريون وقتها حاجة العراقيين للأمان، ورفعوا أسعار عقاراتهم. وهكذا ارتفعت قيمة الإيجارات في سورية إلى حد بات معه السوري عاجزاً فعلاً عن استئجار شقة صغيرة في أي مكان، ما جعل غضب السوريين يتوجه نحو العراقيين، باعتبار وجودهم سبب الغلاء، ليس فقط في العقارات، بل في كل شيء. كانت أسعار المواد الأولية تزداد أعلى بكثير من متوسّط الرواتب والمعاشات للمواطن السوري العادي. يومها طالب السوريون برحيل العراقيين عن سورية، وظهرت نزعة عنصرية شعبية مقيتة ضدهم. كنّا وقتها نخاف من الحديث عن فشل النظام والحكومة في إدارة البلد، فكان الحل الأسهل إلقاء اللوم على الطرف الأضعف في المعادلة السياسية الداخلية وقتها. كان العراقيون الطرف الأضعف الذي لا يُخشى من عقابه إذا ما تحمّل مسؤولية ما يحدُث.
كلّما زادت التوتّرات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع ما يزداد معها الخوفان، الفردي والجمعي. هكذا يصبح الغريب الذي التجأ إلى هذا المجتمع بمثابة الشمّاعة التي تُلقى عليها كل الأحمال. هذا الثقل يدعمه خطاب إعلامي محلي سلبي، يساهم في تشويه صورة اللاجئين والنازحين والوافدين، خطاب مصنوع أصلاً في أقبية أمنية مهمّتها صرف النظر عن المتسبّب الرئيس في الأزمات الداخلية المعيشية والمجتمعية.
نحن شعوبٌ عاطفية نادراً ما نحاكم عقلياً ظواهر حياتنا. نحن ننساق دائماً نحو الإجابة السهلة والمتاحة لأسئلتنا اليومية، ويتشكّل رأينا العام قطيعيّاً وغريزياً، وأنظمتنا الحاكمة تعرف صفاتنا جيداً، أو في الحقيقة اشتغلت أنظمتنا بدأبٍ شديد عقوداً طويلة لتحوّلنا إلى شعوب معطّلة وعاجزة عن الفعل التغييري، فتتلاعب بنا حسب برامجها السياسية التي تكفل مصلحتها، لا مصلحتنا الجمعية، ولا مصلحة البلد والمجتمع ككل. يثبت فشل الربيع العربي وهزيمته هذه النظرية، وتُثبت العنصرية التي نراها ضد اللاجئين في غير بلد عربي وإقليمي هذه النظرية أيضاً، فيتحمّل حالياً السوريون في تركيا ولبنان مسؤولية كل الفشل السياسي الحاصل في البلدين، كما تحمّل العراقيون في سورية المسؤولية يوماً ما. ويتحمّل اللاجئون السودانيون، ومعهم السوريون، في مصر مسؤولية الغلاء وسوء المعيشة. وفي كل هذه البلدان، ثمّة خطاب إعلامي وافتراضي يحاول تأجيج المزيد من النفور والكراهية ضد اللاجئ. يحدُث هذا في أوروبا أيضاً، لكن الفارق أن الديمقراطية يمكنها حصر هذا الخطاب وتحجيمه، ويمكنها الحفاظ على حق اللاجئ وحياته وأمنه من أي استهدافٍ مضاد.
هكذا يبدو أنه ما من طريقة تبدو متاحة وناجعة لحماية اللاجئين في هذه الدول من الهجمات العنصرية، سواء الافتراضية أو الواقعية. وما من رؤية واضحة تدلّ على تغيير الخطاب الإعلامي السلبي الذي يعتمده بعض الإعلام ضد اللاجئين في هذه الدول؛ ذاك أن هذا يحتاج خططاً مستدامة، تبدأ الحكومات والدول بوضعها لإيجاد عملية اندماج وتقبل مجتمعي للاجئين. ولكن هل حكومات هذه الدول وتلك جاهزة لفعل ذلك، وبعضها أساساً يعتمد سياسة ترحيل اللاجئين وعودتهم (الطوعية) إلى بلادهم؟ نعرف جميعاً الإجابة، ونعرف أن لا حلّ يحمينا، نحن اللاجئين (سوريين وسودانيين وعراقيين وفلسطينيين ويمنيين… إلخ) سوى وجود حلول سياسية حاسمة في بلادنا، وعودتنا الآمنة إليها تحت حماية المجتمع الدولي، يما يكفل النهاية الكاملة لكل أسباب الخوف من العودة. لكن هذا أيضاً يبدو غير متاح حالياً في ظل ما يحدُث في العالم من حروب ومتغيرات في السياسات الخارجية للدول المتحكّمة في القرارات الدولية. إنه زمن الخوف نعيشه نحن اللاجئين أينما كنّا في هذه المنطقة المشؤومة من العالم.
* شاعرة وكاتبة سورية
المصدر: العربي الجديد