الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كمالا هاريس والسقف الفولاذي

بشير عبد الفتاح *

بإعلانه في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو الجاري الانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المزمع إجراؤها في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل؛ ودعمه ترشح نائبته، كامالا هاريس؛ وضع الرئيس بايدن الديمقراطيين في موقف بالغ الحساسية. فعندما ينسحب مرشح الحزب الديمقراطي المضطرب، قبل نحو أربعة أشهر فقط من موعد الاقتراع تغدو هاريس في نظر ديمقراطيين كُثر شككوا في جهوزيتها لدحر منافسها الجمهوري العنيد ترامب وكأنها مرشح الضرورة.

ألبس بايدن تخليه عن الترشّح لولاية رئاسيّة ثانية رداء الحرص على توحيد صفوف الحزب الديمقراطي، بما يُخوله الاحتفاظ بالرئاسة وأغلبية الكونجرس والولايات.

وعلى الفور، اصطف الديمقراطيون، عن بكرة أبيهم، خلف هاريس حتى يَسّلم المؤتمر العام للحزب بشيكاغو الشهر المقبل، من السيناريو المأساوي، الذي شاب مؤتمره العام في 1968. فوقتذاك، تحول المؤتمر العام المفتوح، الذي التأم عُقب انسحاب الرئيس الديمقراطي، ليندون جونسون، من السباق الرئاسي، على وقع تداعيات حرب فيتنام وتدهور حالته الصحية؛ إلى كابوس. ففي حينها، اشتعلت اشتباكات في الشوارع بين المحتجين والشرطة والحرس الوطني، وانتشرت الحرائق في أكثر من مائة مدينة، واندلعت انتفاضات في أنحاء الولايات المتحدة. كذلك، تم اغتيال الناشط الحقوقي، مارتن لوثر كينج، والمرشح الرئاسي الديمقراطي السيناتور روبرت كينيدي.

دونما تردد، هرعت قيادات الحزب الديمقراطي إلى تقديم الدعم لهاريس. فبعد أقل من 36 ساعة على انسحاب بايدن من السباق وتأييدها خلفاً له، أعلن المئات من مندوبي الولايات، أكثرية المشرعين، الحكام الديمقراطيين، مجموعة من قادة الأحزاب في الولايات وكثير من مجموعات المصالح المؤثرة، دعمهم هاريس. وحذا كبار قادة الكونجرس حذوهم، حيث عبّر زعيم الأكثرية الديمقراطية بمجلس الشيوخ السيناتور، تشاك شومر، وزعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب ، حكيم جيفريز، ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، عن دعمهم هاريس. فيما أكد مساعدو حملتها، تسابق أكثر من 28 ألف متطوع جديد، في تسجيل أسمائهم لتقديم الدعم، أي أكثر من 100 ضعف العدد المعتاد. وقد كلل رؤساء ديمقراطيون سابقون مثل كلينتون وأوباما، تظاهرة الدعم تلك، بإعلان تأييدهم خوض هاريس للسباق الرئاسي، ممثلة للحزب الديمقراطي.

رغم أنه يروق للبعض الادعاء أن انتخاب الديمقراطي ذي الأصول الأفريقية، باراك أوباما، رئيساً للولايات المتحدة عام 2008، قد بشّر بـبزوغ حقبة ما بعد العنصرية في السياسة الأمريكية، لا يبدو أن معركة هاريس الرئاسية، ستكون بالأمر الهين. فما برحت المرأة، التي تُعد أول أمريكية من أبوين مهاجريّن، ذوي أصول أفريقية وآسيوية، تبدو، في نظر ملايين الأمريكيين البيض، «أمريكية خلاسية»، من خارج نسل «الواسب» القديم و«اليانكي» التاريخي. الأمر، الذي لم يعصمها من مكابدة اضطهاد جنسي، وتمييز عنصري من لدن قطاع عريض من المحافظين الأمريكيين. فلطالما شككَ نفر من موظفي البيت الأبيض في قدرة، هاريس، على العمل ضمن فريق موسع، أو التصدي لمهام تنطوي على مخاطر. وقد شكا مساعدوها من أن فريق بايدن يتعمد عدم منحها فرصاً للتألق، بقصد تقليص حظوظها في الترشح للانتخابات الرئاسية. وعلى مدار تاريخ الديمقراطية في بلادهم، والذي يعود لأكثر من قرنين، لم ينتخب الأمريكيون سوى رئيس أسود وحيد فقط، وبِشق الأنفس؛ فيما لم يسبق لهم انتخاب امرأة ذات بشرة سوداء، أو حتى بيضاء قط. ما يجعل بعض الناخبين السود يتساءلون عما إذا كانت هاريس قادرة على تجاوز ما يمكن تسميته «السقف الفولاذي» التاريخي، في السياسة الأمريكية.

ربما تراهن هاريس على مبدأ «الالتزام الحزبي» أثناء الاقتراع، حيث يلتزم 90% من المنتمين للحزبين الرئيسيين بالتصويت لمرشح الحزب؛ بينما لا يُغرد خارج السرب، سوى 25% فقط من الناخبين، الذين يندرجون ضمن قائمة المترددين. ومقارنة بمنافسها ذي الثامنة والسبعين عاماً، لم تتجاوز هاريس التاسعة والخمسين. وقد أظهر استطلاع رأى أجرته شبكة «إيه بي سي» الأمريكية منتصف يوليو الجاري، أن 60% من الأمريكيين، لاسيما الشباب يعتقدون أن ترامب بات طاعناً في السن، إلى حد يمنع ترشحه لولاية ثانية. وبين هؤلاء 82% من الديمقراطيين، 29% من الجمهوريين و65%من المستقلين. وتتطلع هاريس للمحافظة على تلك الكتلة التصويتية، التي كانت حاسمة في فوز بايدن، بانتخابات 2020، بعدما اقتنص دعم 60% من الناخبين تحت سن الثلاثين.

بانتمائها إلى شريحة تمثل 15% من الأمريكيين ذوي الخلفيات العرقية المختلطة، تُجسد هاريس «بوتقة الصهر الأمريكية»، التي تتسع لمختلف الأقليات والأعراق. ورغم أن الناخبين الملونين يشكلون نسبة 30% من القوة التصويتية الأمريكية، لم تتجاوز نسبة مشاركتهم التصويتية 22% أثناء انتخابات 2020. الأمر الذي يضع علامات استفهام بشأن قدرتهم على حسم السباق الرئاسي لصالح هاريس. ولعل هذا ما يدفعها إلى التعويل على دعم الناخبين من «الجيل Z»، الذين شرعوا في التحرك عبر الإنترنت لحشد التأييد لها. وذلك ضمن تحوّل في المزاج التصويتي لدي الناخبين الشباب، من ذوي الميول اليسارية والمنظمين والناشطين؛ الذين تَمَلكهُم شعور بالإحباط حيال ترشيح بايدن جراء كبر سنه، عدم لياقته الصحية، وتعاطيه غير الإبداعي مع قضايا داخلية وخارجية شتى. خلافاً لهاريس يظل ترمب المرشح الأقل شعبية في صفوف النساء.

فقد أدين في قضية الاعتداء على الكاتبة جين كارول، تزوير سجلات مالية لإخفاء علاقته الجنسية مع ممثلة إباحية. وبينما يعارض كما نائبه، جيمس دي فانس، حق الإجهاض؛ تُصر هاريس على مواصلة جهود الديمقراطيين لحماية ذلك الحق على المستوى الوطني. وقد رصد المراقبون تحوُلاً في أصوات النساء بالولايات المتأرجحة ضد الحزب الجمهوري، منذ إصدار المحكمة العليا حكمها التاريخي بشأن حق الإجهاض في حزيران/ يونيو 2022. إذ أقرت أن الدستور لا يمنح أو يحمي ذلك الحق، كما قررت إعادة سلطة تنظيمه إلى الشعب وممثليه المنتخبين .

فإبان الانتخابات النصفية التي أجريت بعد وقت قصير من هذا الحكم، حققت12 ولاية رقماً قياسياً، بانتخابها حكامها من النساء، كما كان لتصويت النساء الفضل في حرمان الجمهوريين من تحقيق «موجة حمراء» خلال تلك الانتخابات.

ولقد أظهرت أحدث استطلاعات الرأي أن نسبة النساء اللاتي تنتوين التصويت لترامب ونائبه، في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ستكون أقل من تلك التي سجلت عام 2020، خصوصاً في الولايات الحاسمة، التي تأتي في عداد ما يسمى «حزام الصدأ». وتُشكل النساء حالياً 51 % من القوة التصويتية الأمريكية، كما سجلت الناخبات معدلات تصويت أعلى من الرجال في عام 2022، خصوصاً في الولايات المتأرجحة، مثل أريزونا، ميشيغان، بنسلفانيا وويسكونسن، والتي من المرجح أن تحدد مصير السباق الرئاسي المقبل.

لاريب أن هاريس قد نجحت، غير مرة، في تحطيم الأسقف الزجاجية، في السياسة الأمريكية. إذ كانت أول امرأة سوداء من أصول آسيوية لاتينية تشغل منصب المدعي العام لمنطقة سان فرانسيسكو، ثم لولاية كاليفورنيا قاطبة، قبل أن تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عام2017. وصولاً إلى القفزة التاريخية بتوليها منصب نائب الرئيس، في كانون الثاني/ يناير2021. حتى قال عنها، بايدن، في آذار/ مارس 2023: «لقد حطمت السقف الزجاجي مرة تلو الأخرى».

رغم تمترسها خلف ركائز قوة عديدة، كمثل التفاف الديمقراطيين السريع حولها، التدفق التاريخي للتبرعات، دعم النساء، الأقليات والشباب؛ تظل هاريس أسيرة الحاجة الملحة لتحطيم «السقف الفولاذي». فعلاوة على صلابة منافسها الجمهوري، تواضع خبراتها السياسية، وسجلها غير الحافل بالإنجازات في مهامها كنائبة للرئيس، تزامناً مع انحسار الأفق الزمنى للاستعداد لمعركة تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل؛ تحتاج هاريس إلى قهر شوائب الاضطهاد الجنسي والتمييز العنصري، التي ظلت دهراً تعكر صفو الديمقراطية الأمريكية.

* كاتب وأكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.