سمير العيطة *
يكثر الحديث في العديد من الدول العربية اليوم عن اللامركزية، خاصة في الدول التي تعانى من صراعات أو تشهد تقهقرا في مؤسساتها. كما يتعمق النقاش في متاهات اللامركزية المنشودة، أهي لا مركزية إدارية أم لا مركزية سياسية؟
إن اللامركزية ليست شيئاً جديداً في المنطقة العربية، حيث هناك تجارب تاريخية خلال عهد الدولة العثمانية وعلاقاتها مع الولايات والمتصرّفيات وغيرها، التي كانت تنطلِق أصلاً من الخصوصيات المحلية وما يدل عليه امتلاكها مجالس محلية، ذات صفة استشارية على الأقل. وبالتأكيد قامت تلك التجارب على إرث المناطق المعنية، انطلاقاً من المركزية التاريخية الشديدة لمصر رغم تنوع السكان وحتى المدن- الدول في بلاد الشام ومناطق نفوذ القبائل والعشائر في الجزيرة العربية. هكذا يمكن فهم تطور البلدان العربية في العصور الحديثة وانقسامها إلى دول مختلفة وتوحد مناطق أخرى في دول أنشأت تقسيماتها الإدارية كنتيجة لتفاعل الحاجة إلى دولة مركزية قوية مع خلفيات اللامركزية التاريخية.
وأيضاً يتعمق ويعلو النقاش حول اللامركزية في الدول العربية القائمة اليوم نتيجة تنامي مشاعر الهويات الإثنية والطائفية والمناطقية ولتداعيات إخفاقات الدولة في إقرار تنمية متوازنة بين المناطق وفئات المواطنين والتعامل مع التطورات الاجتماعية- الاقتصادية مثل تعاظم تسارع هجرة الريف إلى المدينة. كما تزداد حدة التطلّعات نحو اللامركزية في الدول التي انشطرت أراضيها نتيجة حروبها الأهلية والتدخلات الخارجية، إلى مناطق تديرها جهات مختلفة، كليبيا وسوريا ولبنان والسودان وغيرها. وتنشط على هذا الصعيد «منظمات غير حكومية» و«مؤسسات مجتمع مدني» خارجية لإثارة نقاشات محلية لا نهاية لها حول اللامركزية على أنها أساس لحل مختلف الصراعات وإرساء… «الديموقراطية».
- • •
لكن بمعزل عن مناكفات الزعامات والهويات المحلية وعن مساعي التقسيم وفرض القوة «الناعمة» الخارجية، أو ربما بسببها، لا بد من وضع التنظيمات الإدارية القائمة في الدول العربية على طاولة البحث والتمحيص للتبين عن مدى نجاعتها في مواجهة التحديات ووضع رؤية ترمي إلى إصلاحها.
إن الوحدات الإدارية المحلية تشكل مؤسّسات دولة كما المؤسسات المركزية. ولتلك الوحدات التزامات تجاه المواطنين كما للمواطنين واجبات تجاهها. وبالتأكيد هذه الإدارات المحلية هي الأقرب للمجتمعات وتبيُّن احتياجاتها. وبالتأكيد أيضاً تحتاج هذه الإدارات إلى فصل سلطات بين ما هو تمثيلي للمواطنين وما هو تنفيذي، وكذلك بالنسبة للمستويات القضائية والرقابية. وأغلب التجارب العربية تُعطى السلطة المحلية الحقيقية لمحافظ أو والي يُعينه المركز، في حين لا يعتبر هذا الأخير المجالس المنتخبة محلياً سوى مجالس استشارية، كما خلال الحكم العثماني. هذا فضلاً عن أن الكوادر التنفيذية المحلية تفتقد في كثيرٍ من الأحيان إلى التأهيل المؤسساتي لأن تعيينها يقوم على أسس «تنفيعات» و«رشاوي» لفعاليات محلية. هذا الواقع وحده يستحقّ مراجعة حقيقية لخلق الثقة على الأمد البعيد بين المحلي والمركزي.
وتفتقر أدبيات اللامركزية أيضاً لتحليلٍ لواقع الإدارة المالية للوحدات المحلية. هذا رغم أن بعض التشريعات ترصُد حصصاً للمحليات في إيرادات الضرائب والرسوم، خاصّة تلك المتعلّقة بالخدمات المحلية أو بمؤسّسات المنطقة أو بالموارد الطبيعية. إن الإدارات المحلية شخصيات اعتبارية، ومن المفترض أن تكون لها موازنات إيرادات ونفقات تُعتَمَد من قبل الهيئات المنتخبة وميزانيات يتم إغلاق حساباتها سنويا حسب أنظمة الرقابة المالية. إلا أنه هناك في أكثر الأحيان تداخل الصلاحيات والميزانيات بين الإدارات المحلية ومؤسّسات المركز بحيث لا يُمكِن رصد جوهر صلاحيات المستوى المحلي. وليس هناك وضوح حول كيفية تغطية الإيرادات المكرّسة للإنفاق الجاري، وما يتاح للاستثمار. ولا معنى أن توزيعات المركز على المحليات تتم فقط حسب قاعدة النسبة من السكان. إذ أن هذا يُلغي دور الدولة المركزي في إعادة التوزيع الاقتصادي والإنمائي، ليس فقط بين الفئات الاجتماعية، بل أيضا بين المناطق الثرية والأخرى الفقيرة. كما لا معنى أن تحتفظ منطقة معينة بريوع الثروات الطبيعية أو الموانئ والمعابر الحدودية دون القبول بإعادة التوزيع، كما حدث في تجارب بعض دول أمريكا اللاتينية. واللافت في بعض تجارب الدول العربية اعتماد الأجهزة المالية المحلية على تنظيم وبيع العقارات لتغطية نفقاتها، ما لا يمكن ضمان استدامته. واللافت أيضاً في بعض الحالات هو الفصل الكامل بين الإدارات المحلية وموارد الريع التي تُقام في مناطق اقتصادية خاصة يتم عزلها عن الاقتصاد المحلي.
هذا الجانب المالي في عمل الإدارات المحلية وترابطه مع الميزانية العامة لمالية الدولة يحتاج بالتالي إلى مراجعة حقيقية، كي تتم مناقشة دور هذه الإدارات وليس فقط في تأمين الخدمات محلياً بل أيضاً في تنشيط الواقع الاقتصادي والاستثمار المحليين. وربما الحاجة إلى مراجعة أكبر في البلدان التي تعرّضت لآثار صراعات أهلية وأزمات اقتصادية كبيرة، وجرى تقسيمها بين مناطق نفوذ واقعياً لها تجاربها المالية الخاصّة. هذا لا سيما أن إعادة إنعاش اقتصاداتها ترتبط أولاً بإعادة التواصل وحرية حركة المواطنين والسلع والأموال بين مختلف مناطقها. ومن الهام معرفة أن تمويلات وإعانات دولية باتت تتوجّه للمستوى المحلى دون المركزي.
- • •
في جميع الأحوال، يبقى إنجاز تخطيط إقليمي ووضع تصور للمسار الجغرافي للتطور الاقتصادي لكل بلد ومناقشته مع المجتمعات المحلية ضرورة أساسية. ذلك بفعل تداعيات الفترات السابقة من تغييرات على الصعيدين الديموغرافي والاجتماعي.
يبقى أن هناك وهماً قائماً، اجتماعياً وسياسياً، بأن انتخابات على الصعيد المحلي يُمكِن أن تغني عن طرح الإشكاليات الاجتماعية والسياسية على الصعيد الوطني، أو أن تتجنبها. وهم لأننا أصلاً نعيش اليوم في عالم معولم شديد التواصل، بحيث لا يُمكِن لأي مجتمع محلي أن يعزل نفسه فيه. إن أي انتخابات محلية تقلِّص مجال التنافس الاجتماعي على الإدارة بين فعاليات محصورة، تغيب عنها غالباً السياسة بمعنى برامج العمل المتنافسة على مشاريع لبناء أوطان بمعزل عن الهويات الإثنية والطائفية والمناطقية. والذهاب إلى اللامركزية على خلفية هذا الوهم كمحاولة للخروج من الصراع الأهلي أو الأزمات الكبرى يشكل هروباً من الاستحقاق الرئيسي وهو إصلاح الدولة المركزية وتركيبة السلطة فيها، نحو دولة قادرة وقوية تبني التعافي. هروب من استحقاق صعب الوصول إليه ولكن لا مفرّ منه.
وكلّ بناءٍ لما بعد الصراعات والأزمات يقوم دون النهوض بالمركز، لا يُمكِن أن يجري إلا استقواء بالخارج على أبناء الوطن الآخرين، ولا يشكل سوى محاولة انعزال لا يفيد، في منطقة عربية شديدة التنوع السكاني والهوياتي، سوى المشروع الصهيوني القائم. وأنجع مصالحة اجتماعية تُنجز محليا هي تلك التي يتم العمل على إنجاحها على أساس المواطنة المتساوية وتحديداً في المناطق التي تتعدد فيها الهويات.
وحدها دولة قادرة وقوية تستطيع أن تُنجز التحولات نحو لا مركزية ضرورية وناجعة، كما أن مثل هذه الدولة هي الشرط الأساسي كي يتم ترسيخ وحماية الحريات العامة والديموقراطية والخصوصيات الاجتماعية.
* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق