أسامة أبو ارشيد *
من تابع خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الأربعاء الماضي (24/7/2024) في الكونغرس الأميركي، لا بدّ أن يكون خرج بقناعة مفادها بأنّ بين مَنْ يُفترض أنّهم النخبة السياسية الأميركية مجانين ومعاتيه، وحمقى ومرضى نفسيين، ومنافقين متزلّفين، هذا إذا لم يكن بعضهم يُمارس الخيانة ضدّ مصالح بلاده وقيمها المزعومة، إرضاءً لغرور زعيم دولة أجنبية نبذَه حتّى مواطنوه. لم تكن المشكلة في خطاب نتنياهو في حجم الأكاذيب والأباطيل التي حواها فحسب، بقدر ما أنّها كانت كذلك في حجم الصفاقة والاستبلاه للجالسين أمامه، دعماً وتأييداً، وهو يوجّه الإهانة تلو الإهانة لبلادهم وقادتها، من شركائه في جريمة الإبادة في قطاع غزّة. وفوق ذلك، وهو يُحرّض على بعض مواطنين أميركيين تجرّأوا على إدانة جرائم إسرائيل، وممّن تظاهروا ضدّ خطابه. تحدّث نتنياهو وكأنّ إسرائيل هي القوّة العظمى وأميركا هي الدولة التابعة. نبرته كانت توحي بأنّ الولايات المتّحدة هي التي عليها أن تبدي امتنانها العميق لوجود إسرائيل في جانبها لا العكس، وأنّ من لا يفعلون ذلك في النخبة السياسية الأميركية، كنصف الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، ممن قاطعوا خطابه، هم ناكرون للجميل.
تلك الوقاحات كلّها تضمّنها خطاب نتنياهو، وهو يحاضر في سياسيين تُؤثّر قراراتهم في العالم كلّه، يوجّههم متى يصفّقون له ومتى لا ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، وهم كالبهاليل، يقفزون على أقدامهم يصفّقون متى ما غمزهم “المايسترو” أو قائد الجوقة، ويطلقون صيحات التأييد لأكاذيبه وافتراءاته، وكأنّهم مجموعة من المُهرّجين من خفاف الوزن المعنوي المستأجرين لهذه المهمّة الدون. سبق أن كتبتُ مقالاً نُشر في “العربي الجديد” (21 /6/2024) عن إهانات نتنياهو المُتكرّرة والمنهجية في حقّ الولايات المتّحدة على مدى أكثر من 30 عاماً، أي حتّى قبل أن يكون رئيساً للوزراء، منذ إدارة جورج بوش (الأب)، مروراً بإدارات بيل كلينتون وجورج بوش (الابن) وباراك أوباما ودونالد ترامب، ووصولاً إلى إدارة جو بايدن الحالية. وكما جاء في ذلك المقال (“إهانات نتنياهو وَجلود الرؤساء الأميركيين السميكة”)، فإنّه في 2001، التقط الميكرفون، الذي كان مفتوحاً من دون أن ينتبه نتنياهو، حديثاً له بالعبرية يقول فيه: “أعرف ما هي أميركا. أميركا شيء يمكنك تحريكه بسهولة شديدة”. من كان لديه شكّ في ذلك من قبل فإنّ شكّه ينبغي أن يكون تبدد بعد خطابه يوم أمس الأول في الكونغرس، وهو يستغل بانتهازية الانقسامات والخلافات الجمهورية – الديمقراطية الأميركية، يُوظّفها في مصالحه السياسية الضيقة، كما يتهمه خصومه في تل أبيب، من دون أن يدفع ثمناً لصلفه وصفاقته تلك. لم يرفّ جفن لنتنياهو وهو يغمز من قناة جو بايدن، مطالباً إيّاه بتسريع شحنات الأسلحة لبلاده، ومستقوياً بالجمهوريين عليه وعلى الديمقراطيين، رغم أنّ إدارة بايدن قدّمت، ولا تزال، لإسرائيل ما لم تقدّمه إدارة أميركية من قبل، ديمقراطية كانت أم جمهورية، وهي لا تقلّ تواطؤاً وشراكة في جريمة الإبادة في قطاع غزّة عن حكومة المجانين التي يقودها نتنياهو، التي وصفها بايدن غير مرّة بأنّها أكثر حكومة “مُتطرّفة في تاريخ إسرائيل”.
الأكثر إثارة كان في تجرّؤ نتنياهو على التحريض على قيم أميركية من قلب “مقرّ الديمقراطية الأميركية”، يفترض أنّها مُحصّنة دستورياً، كحرّية التعبير وحقّ التظاهر، دع عنك إعطاءه الحقّ لنفسه في التدخّل في شؤون داخلية، مثل هجومه الوقح على إدارات جامعات أميركية بزعم سماحها بمعاداة السامية. بالنسبة لنتنياهو، فإنّ مُؤيّدي الشعب الفلسطيني، والمتظاهرين ضدّه من الأميركيين “أغبياء إيران المفيدون”، أما إدارات الجامعات الأميركية، التي ادّعى أنّها فشلت في التصدّي لمعاداة الساميّة فكان نصيبها توبيخاً على أساس أنّها مكوّنة من “أكاديميين مشوّشين”. ثالثة الأثافي تمثّلت في جولات التصفيق الطويل والحار، وفي بهلوانية صرخات التأييد من أعضاء الكونغرس أمام تطاولات نتنياهو وإهاناته، وكأنّك تراقب أفاعي الكوبرا تتراقص على أنغام عازف الناي.
حقيقة، إذا وضعنا جانباً أيّ أحكام قيميّة مُسبقة، يحقّ لنتنياهو أن يفعل ذلك وأكثر. يحقّ له أن يضع قدمه في وجه كثيرين من الساسة الأميركيين، كما هو يشرّع لسانه سليطاً عليهم. لقد أثبتت التجارب على مدى أكثر من ثلاثة عقود أنّ نتنياهو ينجو بأيّ فعلة شنعاء يرتكبها في حقّ الولايات المتّحدة. يكفي أن نذكر هنا أنّ إدارة بايدن كانت تتعامل معه على أنّه شخص غير مُرحّب به في واشنطن، إذ لم يقابله بايدن منذ مطلع عام 2021 في البيت الأبيض مرّة واحدة. ولكن، ما إن فرضت قيادة الجمهوريين في مجلس النواب دعوته، رغماً عن الإدارة والديمقراطيين، ليخاطب الكونغرس، حتّى كان البيت الأبيض يكافئه بتذلّل ليلتقي بايدن. أبعد من ذلك، نتنياهو مُجرّد عنوان واحد لاختلال العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، إذ إنّ هذا الخلل الرهيب، المُمتدّ قرناً، له عناوين كثيرة بين الدولة الأعظم والحركة الصهيونية، حتّى قبل قيام إسرائيل عام 1948.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم بواشنطن
المصدر: العربي الجديد