(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الرابعة عشرة من الجزء الثاني– بعنوان: (ثورة الجزائر في طريقها العربي والاشتراكي).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”
(6)
ثورة الجزائر في طريقها العربي والاشتراكي
في الذكرى الثامنة لثورة الجزائر. ذكرى بداية معارك حرب التحرير، نلتقي اليوم لنحتفل بانتصار الثورة(1)، ولنتطلع بآمالنا، كما تتطلع الجماهير العربية في كل مكان، إلى مستقبل هذه الثورة، لتكون مثلاً وقدوة في عهد التنهيج والبناء، كما كانت المَثل والقدوة في عهد نضالها العنيف الدامي ضد الاستعمار، فهي ثورة استطاعت النهوض إلى أرفع مستوى إنساني للثورة.
لقد عرفتْ ثورة الجزائر بعمق وعناء، خلال تجربة كفاحها ضد الاستعمار، و من خلال تفتُحها على حقيقتها وعلى عروبتها وعلى الإنسانية. عرفت مكانها من معركة القومية العربية التحررية، فكتب أحد مفكريها في مجلة «المجاهد» في العام الماضي، وكان مقاله في أعقاب كارثة الانفصال التي ضربت وحدة مصر وسورية، في الفترة التي كانت فيها الحركة الثورية في المشرق العربي تعاني أخطر انتكاسة في تاريخ نضالنا القومي الحديث قال: «وهكذا فإن آخر الأقطار العربية عهداً بالتحرر، تفرض عليه الظروف وتشاء له الأقدار أن تتضمن تجربته كل محتوى الثورة العربية السياسي والاقتصادي.. إن الجزائر التي خضعت مدة طويلة لأقسى وأعنف أشكال الاستعمار، وفرضت عليها هذه الظروف الاستعمارية أن تخوض كفاحاً تحريرياً شاقاً عنيفاً بعيد المدى زلزل حياة كل فرد وقلب أوضاع المجتمع وطبع كل جماهير الشعب بطابع ثوري جذري حاسم، قد أصبحت مهيأة بحكم تجربتها الثورية الفذة أن تعطي المثل وتشق الطريق للمجتمع الجديد، ليس أمام الشعب العربي فقط بل أمام شعوب إفريقيا وكل شعوب العالم الثالث. وهذا بالضبط ما يُضفي أهمية تاريخية كبرى على ثورتنا ويجعلها في مصاف الثورات الإنسانية الخالدة. غير أن هذه التجربة لن تبلغ أقصى مداها، ولن تُحقق كل إمكانياتها إلا إذا امتدت آفاقها فشملت الوطن العربي بأجمعه».
إن القوى والحركات الثورية موجودة في كل قطر عربي، وإن شعارات التحرر والوحدة والاشتراكية ترفعها الجماهير المناضلة في أرجاء الوطن العربي، ولكن الجزائر استطاعت وحدها أن تحقق ثورة بالمعنى الحقيقي، وهي التي استطاعت أن تقفز عن طريق العنف الثوري والنضال الشاق الطويل، من تخلف القرون ومن عبودية الاستعمار، إلى أرفع مستوى تُطرح عليه قضية تحرر الإنسان في العصر الحديث.
لقد بدأت ثورة الجزائر من حقيقة صارخة: إن الاستعمار لا يجلو عن طريق المساومات السياسية والمفاوضات، وإن دمغة الاستعمار لا تمحى باللين فليس إلا العنف والدم والنار ما يمحوها. إن الاستعمار والاستغلال والاستبداد تحميها يدٌ تمسك بالسلاح وتزرع البطش والخوف والإرهاب، فلا بد للمستعمَر المستغل المهان من أن يتمرد ويحمل السلاح في وجه السلاح وأن يُمارس العنف الثوري ضد الإرهاب الاستعماري.. وهكذا كان، وهكذا كانت البداية. ولقد كانت ثورة جذرية منذ البداية، عرفت طريقها إلى قلب الكادحين والمظلومين، حملَ سلاحها فلاح الجبل، فإذا هي ثورة حاسمة تتخطى المراحل وتوحد جميع قوى الشعب في ساحة المعركة، لتنقل الثورة من طورها الوطنى الاستقلالي إلى أن تصبح ثورة كلية: قومية واشتراكية وإنسانية.
ولربما كانت كلمات جان بول سارتر، التي وردت في مقدمته لكتاب الدكتور “فرانز ڤانون” «المعذبون في الأرض»، أبلغ وصف واقعي لتلك الثورة ولأثر النضال العنيف الطويل في إنضاجها. قال سارتر : «إنه الإنسان يعيدُ بناء نفسه… فآثار العنف الاستعماري لا تمحى باللين… والمستعمَر يشفى من مرض الاستعمار حين يطرد المستعمِر بالسلاح، ومنذ أن تبدأ الثورة تنهض وهي لا تحمل رحمة ولا شفقة، فإما أن يبقى الإنسان خائفاً مروَعاً وإما أن يصبح مخيفاً رهيباً. إما أن يستسلم لتُمزق الحياة وزيفها، وإما أن ينتزع الوحدة الطبقية والوطنية. عندما يمسك الفلاحون البنادق تتقلص الأوهام القديمة وتختفي المحرمات واحدة تلو أخرى: إن صلاح المحارب هو إنسانيته ذاتها، وفي المرحلة الأولى من الثورة يجب على المحارب أن يقتل. إن قتل أوروبي هو تحقيق هدفين في ضربة واحدة، إلغاء للمضطهَد والمضطهِد معاً، ويبقى رجل ميت ورجل حر، ويشعر الرجل أنه يلمس تحت قدميه لأول مرة تراباً وطنياً. ومنذ تلك اللحظة لا تنفصل أمته عنه. إنها توجد حيث يذهب وحيث يكون ولا تنفصل عنه أبداً. فقوميته تمتزج هنا بحريته. إن الفلاح بعد أن أزال الغشاوة عن عينيه أصبح مُدركاً لحاجاته. إنها كانت تقتله وكان يحاول تجاهلها وهو الآن يكتشفها مطالب مُطلقة. ولكي يستمر العنف خمس سنوات، أو ثماني سنوات كما فعل الجزائريون، لا بد للضرورات العسكرية من أن تندمج فيها بالضرورات السياسية والاجتماعية. إن حرب التحرير ولو أنها اقتصرت على طرح مشاكل القيادة والمسؤوليات. تنشئ مؤسسات جديدة، ستكون أولى مؤسسات العلم. فإذا بالإنسان ينبعث في تقاليد جديدة هي المستقبل الجميل لحاضر بشع. وإذا بالإنسان مبرر بالحق الذي سيولد، والذي يتكون كل يومٍ في لظى النار. فمع آخر قتيل أو طريد، تختفي الأقلية «تاركة المكان للأخوّة الاشتراكية.. ».
وتطوى صفحة العنف بما تحمله من مآسٍ وقسوة، لتستمر الثورة في النفوس والأخطار ويقوم عهد جديد على الثورة، وليقوم بناء دولة على الثورة.
أيها الأخوة…
إن اختيار هذا اليوم ليكونَ عيداً وطنياً للجزائر المستقلة، ورمزاً خالداً لفداء شعب بلغ ذروة المجد في تضحيته واستشهاده، يحملُ الكثير من المعاني.
إن الاستقلال كان هناك، كان في التصميم الأول على الثورة.
وإن التحرر كان هناك، منذ المعركة الأولى من معارك حرب التحرير.
وإن الاشتراكية كانت هناك أيضاً، منذ أن حمل الفلاحون السلاح، لتنفُذ الثورة إلى أوسع طبقات المجتمع، وليستمر العنف وتقسو المعارك، فتخرج قيادة النضال من أيدي البورجوازيين والساسة التقليديين إلى أيدي الكادحين وإلى أيدي الثوريين المتمرسين القادرين على حمل أعباء الكفاح الطويل الصارم، و لتفرض الثورة التنظيم الجماعي الموحد للشعب، لتنشئ قياداتها وأجهزتها من قلب هذا الشعب.
إن الثورة التي قدمت ما قدمه الشعب العربي في الجزائر من تضحيات، إن الثورة التي بلغت هذا المستوى الرفيع من الصمود والعمق والوعي، لم تقف ولن تقف عند حدود القناعة بنوع من الاستقلال مشابه لما تحقق لأقطار عربية وأفريقية من قبل الجزائر، عندما خرجت منها جيوش الاحتلال، ليستوطنها ولتظل بلداناً متخلفة تابعة…
لقد جاء في الميثاق الذي أقره المجلس الوطني للثورة في دورته الاستثنائية التي عقدها في طرابلس الغرب في ٢٧/ ٥/ 1962 ما يلي: «لقد أعطى الفلاحون الكفاح صبغتهُ الشعبية المحضة، لذا تجاوزت الحركة التحررية شعار الاستقلال إلى مرمى أبعد… إلى الثورة الكلية.. ».
لقد رأينا البعض هنا يتساءلون، عندما نشبت الأزمة بين القادة السياسيين والعسكريين في الجزائر عشية الاستفتاء وإعلان الاستقلال، ماذا يريد بن بله ورفاقه؟
وكان الجواب حاسماً.. إنهم يريدون أن تستمر الثورة، وأن تقود الثورة الحكم وتوجهه، وأن يقوم بناء الدولة الجزائرية الجديدة على قواعد الثورة.
إن الكادحين الذين حملوا السلاح، إن الشعبَ الذي كافح واستبسل وضحى بكل شيء، إن الفلاحين الذين قاتلوا واستُشهد منهم مئات الألوف، إنهم «لم يحاربوا ليفرحوا بالنشيد الوطني ورفع العلم»، بل لتكون لهم الأرض، ولتزول الاستعمار كل آثار الظلم والاستغلال، وكل إمكانية للتراجع أو الردة. لهذا صمم الشعب في الجزائر، لهذا صممت الثورة على أن لا تُسلم قيادها لساسة مساومين أو لبورجوازيين مستغلين، بل للمناضلين الذين يؤمنون بضرورة استمرار الثورة.
لقد جاء في ميثاق الثورة لمؤتمر طرابلس: «باسم الاتحاد تحاول البورجوازية الوطنية الاستيلاء على السلطة لتحقيق منافعها الخاصة ولتحرم الشعب ثمرة كفاحه. إن انتهازية البورجوازية هي مهد الاستعمار الجديد».
وجاء في الميثاق أيضاً: «إن اتفاقيات ايفيان ما هي إلا مجرد صيغة تكتيكية بالنسبة للثورة، أما فرنسا فتريدها تراجعاً إيديولوجياً، يقلب الاتجاه الثوري لتجعل من الجزائر قاعدة الاستعمار الجديد.. ».
إن الاعتراف بحرية تقرير المصير، إن اتفاقيات ايفيان وجلاء الاستعمار، كل ذلك ما هو إلا مرحلة على طريق الثورة وطريق التحرر. ولا بد للثورة أن تتجاوزها إلى بناء الديمقراطية الشعبية وإلى تطبيق النظام الاشتراكي.
عندما قامت الأزمة الأخيرة في الجزائر، خلال فترة الاستفتاء على الاستقلال وفترة الانتخابات، رأينا بعض الانتهازيين في هذا البلد، رأينا المزيفين الذين يتبجحون كذباً بكلمات الديمقراطية والتحرر، رأيناهم يتنطعون لدعوة ساسة الجزائر إلى المُصالحة والوئام، ويتخوفون على الديمقراطية، وينادونهم إلى طريق الديمقراطية البورجوازية.
ولكن الثورة التي نهضت إلى المستوى الاشتراكي الإنساني، ثورة الجزائر التي قامت على سواعد الكادحين من أبناء الشعب، صممت «أن لا تُسلِم نفسها للشيطان» وأن لا تُسلم قيادها للبورجوازية. ان ديمقراطية البورجوازية، قد أصبحت وراءها، والثورة لا تريد أن تنتكس أو تتراجع. إنها لن تسمح للرأسمالية أن تستوطن داخلها وأن تنفُذ إلى الحكم وتستغل، ولو سموها رأسمالية وطنية. إنها تعرف ان الرأسمالية في البلد المتخلف عاجزة عن تحقيق التحرر والتقدم.
قالت الثورة في ميثاقها: «إن الطريق الرأسمالية إلى التطور في البلد المتخلف طريقٌ مسدود ينبغي معارضته. وإن أساليب الاقتصاد الحر التقليدي لن تسمح بالتحويل الحقيقي للمجتمع. إنها لن تفعل إلا أن تزيد من انتشار الفوضى الاقتصادية، وتجعل الدولة مؤسسة لنقل الثروات للأغنياء، وتغذي نشاط الفئات الاجتماعية الطفيلية».
هكذا كان تصميم الثورة، وهكذا انفرجت الأزمة بانتصار الاتجاه الثوري. إنه الوعي الثوري النافذ، فأمام ثورة الجزائر تجارب الدول الكثيرة التي خرجت من نفوذ الاستعمار القديم لتقع تحت وطأة الاستعمار الجديد والتبعية الاقتصادية للرأسمالية والاحتكارات العالمية، ولتجد شعوبُ هذه الدول نفسها من جديد أمام ضروب جديدة من الاستبداد والضياع والاستغلال. فالرأسمالية لا يمكن أن تكون وطنية فعلا في البلد المتخلف.
إنها تابعة وعملية للرأسمالية العالمية.
والبورجوازية لا يمكن أن تسير نحو الاشتراكية والثورة، بل هي في مصالحها وتكوينها ضد كل خطوة في طريق الاشتراكية وطريق الثورة الاجتماعية. إن الديمقراطية البورجوازية ديمقراطية زائفة تقوم على الاستغلال وامتهان كرامة الإنسان، فما أن يطرح الشعب شعارات الاشتراكية، وما إن يريدها مطلباً مباشراً ولا يؤجلها للمستقبل الموعود، حتى تصبح البورجوازية العدو المباشر للتقدم، وحتى تنكشف طبيعتها الاستبدادية.
إن البورجوازية لا تستطيع اليوم أن تحكم هنا، إلا وراء هراوة البوليس وإلا وراء تزييف كامل لإرادة الشعب وحرياته.
ولهذا كان التصميم في ثورة الجزائر: لن تحكم الجزائر بورجوازية تكون قاعدة للاستعمار الجديد، بل لا بد للثورة من أن تستمر، لا بد للقيادة الفعلية للنضال الثوري من أن تستلم زمام الحكم، وأن تمثل إرادة الجماهير، إرادة الفلاحين والعمال، فالديمقراطية الحقيقية إنما تبنى بناء، وتبنى على الاشتراكية. وفي هذا السبيل «لا بد من نسف كامل للبنيات المتخلفة للمجتمع..» كما يقول ميثاق الثورة.
إن هذه الوثبة التي سجلتها ثورة الجزائر، وإن الشعارات التي تطرحها الجماهير المناضلة في بلدان العالم الثالث، إن دمج الثورة القومية بالثورة الاشتراكية، فرضت نفسها على الفكر الشيوعي ذاته، ولهذا جاء خروتشوف في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ليقول:
«إن اختيار الطريق الواجب اتباعها، للوصول إلى النظام الاشتراكي، هي قضية تتعلق بالشعوبِ ذاتها، فالبلاد التي تناضل في سبيل تحررها القومي والتي مازال عليها أن تسلك طريقاً غير الطريق الرأسمالي في التطور، مطروح عليها آن تبتكر نظاماً سياسياً لم يوجد من قبل، وهذا النظام هو الدولة الديمقراطية القومية، التي لا تعكس مصالح طبقة واحدة، بل مصالح الجماهير الكبيرة، وهذه الدولة مدعوة لأن تتابع حتى النهاية جميع المهمات التي تلقيها على عاتقها تورة التحرير القومي ضد الاستعمار».
وجزائر الثورة، تبتكر اليوم طريقها في بناء الديمقراطية الشعبية، كما ابتكرت طريقها في حرب التحرير، وهي في الحالين، تعطينا القدوة والمثل.
إن حرب التحرير ومراحل النضال الثوري العنيف الطويل، فتحت ثورة الجزائر على حقيقتها العربية وعلى وحدة المصير العربي، وفتحت ثورة الجزائر على الإنسانية، فوضعتها في مكانها من وحدة نضال إفريقيا ووحدة نضال شعوب العالم الثالث ضد الاستعمار.
واليوم، إن معركة البناء الاشتراكي، وإن معركة النضال ضد الاستعمار الجديد، لا بد وأن تدفع بالجزائر إلى تفتُح أقوى على القومية العربية وعلى ضرورة توحيد جهود القوى الثورية في الوطن العربي.
وإن القوة الثورية الأولى في الوطن العربي، إن ثورة الجزائر، ستحمل قبل غيرها رسالة الثورة الحديثة للشعب العربي الواحد، وبهذا الأمل الكبير نتطلع اليوم الى الحكم الثوري في الجزائر.
إن معركة النضال ضدَّ تسرب الاستعمار الجديد والتبعية الاقتصادية، إن البناء الاشتراكي والتصنيع، كل ذلك يحتاج إلى كتلة بشرية كبيرة وإلى حيز اقتصادي واسع، والقومية العربية إذا ما طُرحت من قبل كحقيقة تاريخية، فإن وحدة الأمة العربية، تُطرح الآن كحاجة حاسمة، وكطريق ضروري للتحرر الكامل والبناء الاشتراكي الظافر.
إن الحاجات والمصالح المشتركة هي التي تعطي للقومية العربية حقيقتها الواقعية، وتعطيها وجودها المادي كضرورة منسجمة مع منطق التاريخ. فهذه الحاجات الواقعية هي التي ربطت ثورة الجزائر بالنضال العربي، وهي التي فرضت وحدة مصر وسورية، وهي التي تضع اليوم الجندي المصري والجندي اليمني في جبهة واحدة أمام القوى الرجعية والمتآمرة على ثورة الشعب العربي.
وإن هذه الحاجات، حاجات الشعب العربي للتحرر والتقدم، وحاجات نضال هذا الشعب ضد التخلف والتجزئة والرجعية، هي التي تفرض اليوم وحدة النضال، وتفرضها في مستوى ثوري جديد، وفي كل يوم تزداد الجماهير العربية إيماناً بضرورة توحيد أهدافها ودستور نضالها وعملها، أي ضرورة توحيد الحركة الثورية في الوطن العربي.
أيها الاخوة:
إنني عاجز في هذا المجال على أن أعطي لثورة الجزائر مكانها من حياتنا وأفكارنا، ولكنني أردت التأكيد على هذه الملامح للثورة، لأقول أن هذه هي الثورة الحقيقية، وأن ليس اليوم من طريق لتحرر الشعب العربي إلا طريق الثورة الاشتراكية. مؤكداً إن البورجوازية في بلادنا هي أعجز ما يكون عن إخراجنا من التخلف، بل هي لا تسير بنا إلا من تخلف لتخلف، ومن ضياع وعبودية إلى ضياع وعبودية، وأن ليس إلا الثورة الاشتراكية التي تقوم على سواعد جماهير الكادحين، ويقودها ثوريون متمرسون، ما يصعد بالأمة العربية في التاريخ، إنها الثورة المستمرة التي بدأت في الجزائر والتي تتطلع إلى أن تشمل الوطن العربي كله، لتقوم وحدة النضال على أهداف الثورة، ولتقوم وحدة العرب على الاشتراكية الثورية.
إن الدكتور “ڤانون”، وهو من المفكرين الثوريين الذين فَتحتْ عبقريتهم ثورة الجزائر، كان نافذ البصيرة عندما أخذ يتطلع إلى تعثر الحركات التحررية في بلاد العالم الثالث، فهنا تتردد وتنتكس، وهناك تقع تحت قبضة البورجوازية أو تحت تسلط ديكتاتورية الفرد أو الحكم البوليسي، وعندما أخذ يتطلع إلى الاستعمار الجديد وهو ينفُذ إليها متحالفاً مع برجوازيتها ليُحكم عليها قبضة التخلف، فراح ينادي شعوب العالم الثالث إلى طريق العنف الثوري الذي تخطه ثورة الجزائر، وكانت صرخته الأخيرة:
إما أن نحقق جميعاً وفي كل مكان، الاشتراكية الثورية، وإما أن نموت واحداً تلو الآخر على يد جلادينا السابقين..
أيها الأخوة:
نلتقي اليوم هنا في هذا المهرجان لثورة الجزائر، لنمجد استمرار الثورة.
ولكننا في هذه الذكرى العظيمة لبداية أعظم حركة ثورية في تاريخ العرب الحديث لا يجوز لنا أن نغض البصر عن المأساة التي يعيشها الشعب العربي هنا في سورية، منذ أن نزلت به كارثة الانفصال، ولا أن نسهو عن الآثار التي خلقتها هذه النكسة في المفاهيم والأفكار.
فأمام الاتجاه الثوري الظافر الذي يشقُ طريقه في المغرب العربي، تقوم هنا أوضاع ومحاولات لكبت إرادة الجماهير، كل ما فيها ضد الثورة.
جوٌ من الكذب والتزييف، يشوهُ التاريخ والقيم والاخلاق، ويزرع الشك والتشاؤم، والشك أول أعداء الثورة.
والتزييفُ الكبير، ليس ذلك الذي تقوم به القوى الرجعية، فهي مكشوفة مفضوحة، ولكنه التزييف الذي تقوم به قوى تسمي نفسها اشتراكية وتسمي نفسها ديمقراطية وثورية، ثم لا تجد مكاناً لها إلا في الصف المعادي لإرادة الجماهير ولا تجد حليفاً لها إلا قوى الاستبداد والتخلف.
إنها منذ أن وقفت ضد الوحدة، ضد إرادة الجماهير وحاجاتها، وقفت ضد الثورة. وطريق الثورة اليوم، هو طريق الوحدة، وطريق الحرية اليوم هو طريق الوحدة، وطريق الاشتراكية اليوم هو طريق الوحدة.
لقد ظن أعداء الثورة بعد الانفصال، أنهم قد أقاموا جداراً جديداً في طريق الثورة، طريق الوحدة. ولقد ظن الاستعمار من قبلهم، عندما أقام جداراً كثيفاً في طريق ثورة العرب وتحررهم ووحدتهم.
ولكن نضال الشعب العربي، الذي استطاع، أن يتخطى ذلك الجدار، ليُحقق وحدة مصر وسورية، لن توقفه النكسة وهو يقدم في كل يوم برهاناً جديداً على أنه قادر على أن يفرض إرادته.
لقد جاء انتصارُ ثورة الجزائر تأكيداً لهذا العزم.
وتأتي اليوم ثورة اليمن، تأكيداً لهذا العزم أيضاً.
إنها الحاجات العميقة للشعب العربي، تدفعه في طريق الثورة.
إنه الإنسان يخلق نفسه خَلقاً ثورياً جديداً، في ساحة المعركة والنضال. ومعركتهُ اليوم معركة الوحدة، وهدفه اليوم أن يحقق الاشتراكية الثورية.
إنها إرادة الجماهير، ولن يوقفها جدار الرجعية، ولا جدار التجزئة، ولا قوى الانفصال.
لقد انتصرت هذه الإرادة في الجزائر، وستنتصر في اليمن، وستنتصر هنا في سورية وفي كل قطر عربي.
إن الشعب العربي الذي استطاع أن يحقق ثورة حقيقية في الجزائر، قادر على أن يعمم هذه الثورة في أرجاء الوطن العربي.
انظروا من حولكم، إن الرجعية في ذعر، إن الرأسمالية العميلة وإن حلفاءهما من الانتهازيين المُرتدين جميعهم في خوف. خوفٌ من ثورةِ الشعب، خوفٌ من جماهير العمال والفلاحين، خوف من تيار الوحدة، تيار الاشتراكية.
إنهم في ذعر، لقد فقدوا مبررات وجودهم كلها، فراحوا يتخبطون في الاستبداد والتزييف.
إنهم يحفرون قبورهم بأيديهم، فجماهير الشعب التي تفتَحَ وعيُها وانعقد عزمها. على أن تسير في طريق الوحدة: طريق الحرية والاشتراكية، لا بد أن توحد قواها الثورية، وأن تخلق أداة الثورة: حركتها وقيادتها.
إن الجماهير العربية هنا وفي كل قطر عربي، مصممة على السير في طريق الثورة. لقد رفعت الجماهيرُ شعارات المعركة في كل مكان: وحدة واشتراكية وديمقراطية شعبية(2).
فلتستمر ثورة الجزائر.
ولتعش وحدة القوى الثورية العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(١) ألقيتُ هذه «الكلمة» في ندوة طلاب المغرب العربي بدمشق، بمناسبة الذكرى الثامنة لثورة الجزائر في ١ تشرين الثاني/ نوفمبر عام ١٩٦٢.
(2) الديمقراطية هي الشعار المرحلي الراهن للحرية.
……………………………..
يتبع.. الحلقة الخامسة عشرة بعنوان: (تداعي النظام البرلماني).. بقلم الأستاذ “الياس مرقص”