رحاب الزيادي *
في ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها الإقليم على خلفية الحرب في غزة وإعادة تشكل التحالفات الإقليمية والدولية، والتهديدات المتصاعدة جراء التوترات على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية، والوضع الأمني المتدهور في جوار الناتو الجنوبي بما في ذلك التهريب، والاتجار بالأسلحة، والهجرة غير الشرعية، وأمن الطاقة، وحالة عدم الاستقرار الداخلي في دول سوريا والعراق ولبنان واليمن، ومخاطر التصعيد الإقليمي الإسرائيلي وانعكاساته على مسار القضية الفلسطينية، والتبعات المحتملة على أمن الأردن كدولة جوار مباشر من ناحية الضفة الغربية، فضلًا عن الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، واحتمالية انتقال التوترات إلى البحر المتوسط.
ضمن هذا السياق، ونظرًا لأهمية منطقة الشرق الأوسط عامة، والأردن بشكل خاص بالنسبة لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، أعُلن عن فتح مكتب اتصال للحلف في الأردن، وهو الأول في المنطقة في قمة الناتو في واشنطن المنعقدة في الفترة من 9-11 تموز/ يوليو 2024، حيث يتطلع الحلف إلى تعزيز التعاون مع دول الجوار الجنوبي، وسبق التمهيد لإنشاء المكتب، والإعلان عن نوايا الحلف في إنشائه في قمة الناتو في ليتوانيا في يوليو 2023. الأمر الذي أثار تساؤلًا عن طبيعة التعاون بين الأردن والناتو، ودلالات افتتاح المكتب في الأردن في هذا التوقيت.
أولًا؛ شراكة ممتدة:
تتسم العلاقة بين الأردن والناتو بأنها شراكة مُمتدة منذ عام 1995، إذ تُعد الأردن من الدول المشاركة في الحوار المتوسطي للناتو مع سبع دول هي (الجزائر، مصر، إسرائيل، الأردن، موريتانيا، المغرب، تونس) أطلق الحوار المتوسطي في العام 1994 كجزء من نهج تعاوني للحلف في مجال الأمن، وتزايد عدد الدول المشاركة فيه، وقبلت تونس المشاركة في الحوار في عام 1994 والجزائر في عام 2000. ويهدف الحوار إلى تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، وتوطيد علاقات الصداقة والتعاون بينها، عبر التشاور السياسي والتعاون العملي، وتعزيز التعاون في مواجهة التحديات المشتركة مثل؛ الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والجرائم الدولية المنظمة.
وتوسع برنامج عمل الحوار المتوسطي سنويًا ليشمل التعاون في أنشطة منبثقة عن برنامج الشراكة من أجل السلام ومنها؛ التعاون العسكري، وتخطيط الطوارئ المدنية، والتعاون العلمي والبيئي. وارتقى الحوار إلى المشاركات العملية من خلال تحسين قدرة العسكريين في دول الحوار على العمل مع قوات الناتو، والمساهمة في محاربة الإرهاب من خلال المشاركة في عملية المسعى النشط وهي دوريات بحرية يقودها الحلف للكشف عن الأنشطة الإرهابية المحتملة في البحر المتوسط، والتعاون في مجال الإصلاح الدفاعي، فضلًا عن تعزيز الحوار السياسي من خلال الاجتماعات الثنائية على مستوى الوزراء، يضاف إلى ذلك إمكانية الحصول على دعم عبر صندوق ائتمان الناتو، وتعزيز التعاون في مجال الاستعداد للكوارث، ومنح دول الحوار إمكانية طلب العون من مركز التنسيق الأوروبي-الأطلسي لمعالجة الكوارث.
وقد أعلنت الولايات المتحدة الأردن “حليفًا رئيسيًا من خارج حلف شمال الأطلسي” في عام 1996، ولعب الأردن دورًا في إمداد القوات العسكرية التابعة للناتو في الحرب ضد داعش، وسمح الأردن للحلف باستخدام قاعدة “موفق السلطي الجوية”. وينظر الحلف للأردن كونه شريكًا موثوقًا به، وفاعلًا مهمًا للاستقرار في المنطقة، حيث تلعب الأردن دورًا محوريًا في ظل المحيط المضطرب، وقد شاركت الأردن في التحالف الدولي ضد الإرهاب، علاوة على مشاركتها في عمليات حفظ السلام برئاسة الناتو في البوسنة والهرسك وكوسوفو وأفغانستان وليبيا.
أصبحت الأردن شريكًا للحلف بعد قمة ويلز عام 2014. كذلك شاركت في مبادرة بناء القدرات الدفاعية والأمنية لحلف الناتو في مجالات مكافحة العبوات الناسفة، والدفاع السيبراني، والأمن البحري، وأمن الحدود. من ناحية أخرى تم افتتاح مركز تدريب عسكري للنساء في الأردن في عام 2021 بما ساهم في تطوير قدراتها داخل القوات المسلحة الأردنية، ولعب الحلف دورًا مهمًا في مساعدة المركز الوطني الأردني للأمن، وإدارة الأزمات في مواجهة جائحة كوفيد 19. يُضاف إلى ذلك إجراء تدريبات دفاعية سيبرانية بين الناتو والقوات المسلحة الأردنية، واستضافت عمان أول تمرين للناتو في دول الجوار المتوسطي (REGEX 2017)، وعززت هذه التدريبات من قدرة الأردن على مواجهة التهديدات السيبرانية، بما في ذلك تدريب 500 خبير وصانع سياسات أردني في مجال الدفاع السيبراني أو حضور دورات توعية على المستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية. كذلك استضافت مدينة العقبة الأردنية في أيار/ مايو 2023 ورشة عمل لمدة ثلاثة أيام للمساعدة في تحديد المتطلبات البحرية، وسبل تمكن حلف الناتو من تحسين كفاءة واستدامة قدرة الأردن على مكافحة الإرهاب، كما استضافت أنشطة تدريب بناء القدرات الدفاعية لحلف شمال الأطلسي للعراق في مركز تدريب العمليات الخاصة للملك عبد الله ” KASOTC”.
ثانيًا؛ دلالات عديدة:
يُعد افتتاح مكتب الاتصال الأول في المنطقة فى الأردن خطوة مكملة لطبيعة العلاقات التعاونية بين الجانبين ويهدف الحلف من إنشاء المكتب تعزيز الحوار السياسي في مجالات التعاون المشترك مع الأردن، وكخطوة تسهم في تعميق التعاون من خلال عقد المؤتمرات، وبرامج التدريب في مجالات التحليل الاستراتيجي، والتخطيط لحالات الطوارئ، وإدارة الأزمات، والأمن السيبراني، وتغير المناخ. وفيما يلي يتم توضيح دلالات افتتاحه في الأردن على النحو الآتي:
توقيت حرج:
يمكن قراءة دلالة توقيت إنشاء مكتب الاتصال الأول للناتو في الأردن في الوقت الحالي، ارتباطًا بالاضطرابات في الإقليم، واستمرار الحرب في غزة، والتهديدات في الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، فضلًا عن احتمالية الانسحاب التركي من شمال سوريا، بما يُعزز من أهمية وجوده في الأردن وعلى الحدود الجنوبية لسوريا في مواجهة أي تهديدات تواجهها إسرائيل، وعلى الناحية الغربية من العراق بما يُسهم كذلك في مواجهة التهديدات القادمة من بغداد.
من ناحية أخرى، تُفاقم التوترات الإقليمية من حالة عدم الاستقرار الأمني في الأردن، فقد ساهمت الحدود الرخوة مع سوريا والعراق في انتقال المخدرات والأسلحة إلى الداخل بما أثر في بنية المجتمع الأردني، حيث تنشط عصابات تهريب الكبتاغون من سوريا إلى الأردن، بما يُزعزع استقرار المملكة ونسيجها المجتمعي. وقد تعزز ذلك في سياق الحرب على غزة، حيث يتعاون الإخوان في الأردن مع حماس في تيسير تهريب الأسلحة والمخدرات، لذلك تتحمل عمان عبء تأهب الأمن الداخلي.
ومن ثَمّ يُمثل وجود المكتب ضمانة من جانب الحلف لمراقبة الأوضاع الداخلية، وضمان عدم زعزعة الاستقرار الداخلي في الأردن في ضوء الاحتجاجات المتصاعدة منذ 7 أكتوبر 2023 والتي طالبت الحكومة الأردنية بإنهاء العلاقات مع إسرائيل وإنهاء معاهدة السلام الموقعة منذ عام 1994، وإلغاء صفقة الغاز الموقعة مع إسرائيل منذ عام 2017، يضاف إلى ذلك مواجهة أزمة اللاجئين حيث تتحمل الأردن عبء استضافة نحو 2 مليون لاجئ فلسطيني، وما لا يقل عن 650 ألف لاجئ سوري، خاصة أن استمرار حالة اللا حسم في غزة قد تنذر بدفع مزيد من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأردن.
لكن على الجانب الآخر، قد يُفاقم وجود مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي في عمان من حدة أصوات المعارضة داخل الأردن، في ظل غضب شعبي أردني تجاه الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ومحاولات تهجيرهم من الضفة الغربية، وقد تصاعدت الاحتجاجات والدعوات داخل الأردن باتخاذ إجراءات حاسمة في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، فضلًا عن رفض الوجود العسكري الأمريكي بالأردن، ودعم واشنطن لإسرائيل في حرب غزة، كذلك نددت المعارضة في البرلمان بالاتفاقية الدفاعية الموقعة بين الأردن والولايات المتحدة في عام 2021 باعتبارها انتهاكًا للسيادة الأردنية.
أهمية جيوسياسية:
يُعد الموقع الجغرافي للأردن على مقربة من سوريا في الشمال، والعراق في الشرق، والسعودية في الجنوب الشرقي والجنوب، والضفة الغربية وإسرائيل من الغرب، وتُعد الضفة الغربية أقرب للعاصمة الأردنية عمان بنحو 27 كيلومترًا. ومن ثَمّ يُمثل موقع الأردن أهمية جيوسياسية لحلف شمال الأطلسي، خاصة أنها تقع في منطقة جغرافية تربط الشرق الأوسط بشمال أفريقيا، وفي قلب المنطقة وسط دول محط اهتمام الناتو كدول الخليج والعراق وسوريا ولبنان وإسرائيل، لذلك فإن افتتاح مكتب الناتو الأول في المنطقة في الأردن دلالة على تعزيز النفوذ في المنطقة وترسيخ الدعم في مواجهة التهديدات بشكل عام، ودعم استقرار الأردن في محيطها المضطرب بشكل خاص. خاصة أن الموقع الجيوسياسي للأردن قريبًا من التفاعلات الإقليمية بين إيران ووكلائها وإسرائيل وداعميها، ويتأثر الأردن بهذه الاضطرابات خاصة أن المليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا سبق أن وجهت ضربات للقاعدة الأمريكية في الشمال الشرقي للأردن “البرج 22″، بالقرب من منطقة التنف السورية في هجوم بطائرة بدون طيار في 28 كانون الثاني/ يناير 2024، الأمر الذي نتج عنه مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وإصابة نحو 40 فردًا. وهو الهجوم الذي تبنته “كتائب حزب الله” العراقية، وعد ذلك تحولًا نوعيًا لامتداده إلى الحدود الأردنية- السورية.
ومثلت هذه التوترات تهديدًا مباشرًا لأمن الأردن، فقد قام الطيران الإسرائيلي بغارة على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/ أبريل 2024، بما أدى إلى مقتل جنرالين وخمسة ضباط إيرانيين منهم الجنرال “محمد رضا زاهدي” أحد قادة “ما يُسمى” فيلق القدس، ونائبه العميد “محمد هادي حاج رحيمي”، لذلك وجهت طهران ضربات بمئات الطائرات المسيرة، وعشرات الصواريخ لإسرائيل في 13 نيسان/ أبريل 2024، ونجحت القوات الجوية الأردنية في إسقاط عشرات الطائرات الإيرانية المتجهة إلى إسرائيل. وفي سياق هذه الهجمات المتبادلة قامت إسرائيل بالهجوم على موقع عسكري في مدينة أصفهان الإيرانية في فجر يوم 19 نيسان/ أبريل 2024 عبر ثلاث مسيرات، لكن تصدت لها طهران لتسقطها في منطقة تبريز على بعد حوالي 500 ميل شمال أصفهان. ومن ثَمّ تم توجيه ضربات إيرانية لإسرائيل عبر المجال الجوي للأردن، وشاركت عمان في صد الضربات الإيرانية تجاه إسرائيل، إذ اعترضت طائرة مسيرة إيرانية قادمة من العراق، وحلقت فوق جنوب الأردن ومدينة العقبة، ثَمّ اتجهت إلى ميناء إيلات الإسرائيلي. وفي ظل استمرار التصعيد في الضفة الغربية، فإن موقع الأردن الجغرافي يجعلها في موقف دفاعي تخوفًا من استهدافها أو تحولها ساحة للصراع.
تهديدات محيطة:
تُعد التهديدات المتصاعدة جراء الصراعات في الشرق الأوسط أولوية مشتركة بالنسبة لحلف شمال الأطلسي والأردن، فدائمًا ما يشهد الأردن توترات من الحدود الشرقية نتيجة سيطرة المليشيات التابعة لإيران في العراق، والحدود الشمالية من سوريا، والغربية مع إسرائيل بالإضافة إلى التوترات الجارية في جنوب لبنان، واليمن. وتهديدات التنظيمات الإرهابية سواء تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وتنظيم الدولة الإسلامية وما يمثلاه من تهديد للاستقرار الداخلي في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والأردن والشركاء العرب لحلف شمال الأطلسي، ومن ثَمّ يُمثل هذا المكتب خطوة لرفع القدرات العسكرية للأردن في مواجهة التهديدات المحيطة. كذلك تفرض التهديدات الأمنية المشتركة مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل، وحالة عدم الاستقرار الكامنة في المنطقة، والصراع العربي الإسرائيلي، وتهديد أمن الطاقة في ظل أن 65% من واردات أوروبا من البترول والغاز الطبيعي تمر عبر البحر الأبيض المتوسط، ضرورة التنسيق بين الأردن والحلف في مواجهة هذه التهديدات.
ختامًا؛ يُعد مكتب الاتصال الأول للناتو في الأردن خطوة في مسار تعزيز نفوذ الحلف في منطقة الجوار الجنوبي، ومكملة لخطوات أخرى على غرار مبادرة بناء القدرات الدفاعية والمركز الإقليمي لحلف شمال الأطلسي في الكويت ومبادرة إسطنبول للتعاون، ومهمة حلف شمال الأطلسي في العراق.
* كاتبة وباحثة مصرية
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية