أحمد عيشة *
يثير موضوع التقارب بين نظام الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي شغل السوريين في الداخل والخارج من وجهات نظر مختلفة، أسئلة عدة، أهمها: هل يمكن أن ينجح أو يحقق جزءاً من أهدافه المعلنة: إعادة أعداد كبيرة من “الضيوف” إلى بلدهم، الذي يفتقد لأدنى مقومات الحياة، والخلاص من وجود تنظيم الاتحاد الديمقراطي/ الفرع من حزب العمال الكردستاني على جزء من حدودها، وهو الحزب الذي يرتبط بنظام الأسد منذ تأسيسه لأسباب عدة، منها العداء لتركيا، وما هو مدى إنجاز الأهداف التركية الزمني؟ وهل لدى نظام الأسد ما يقدّمه لتركيا، مقابل التقارب وعودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل ثورة 2011؟ والأهم من ذلك، ما موقف ودور السوريين والمعارضة مما يجري بعد (13) عاماً من بداية الثورة وما آلت إليه؟
تكمن دوافع التقارب لدى تركيا في ثلاثة أسباب، الأول الأمني، وهو وجود “كيان” لحزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني على جزء من الحدود الجنوبية لتركيا، والثاني: قضية “الضيوف”، وهو اصطلاح أطلقته تركيا على السوريين الفارين من الموت بأن انتهجت سياسة “الباب المفتوح” ما بين 2011 و2015، والثالث، حالة الاستياء الشعبي من طول أمد “الضيافة”، وما زرعته المعارضة والحكومة من حالة استياء كبيرة تجاه “الضيوف”، حيث سعت بعض أحزاب المعارضة (بغض النظر عن حجمها) إلى عزو معظم المشاكل في تركيا إلى وجود السوريين، من خلال خطاب شعبوي، معتمدة على تصريحات الحكومة بأن تركيا أنفقت المليارات عليهم، بينما يشعر المواطن التركي أنه أحق بهذه النفقات، التي يدفعها هو كضرائب للدولة، لكنها تذهب للغير.
حوّل نظام الأسد سوريا إلى بلد طارد لأبنائه، بفعل سياسة المواجهة الإبادية مع الناس، التي اشتملت على الاعتقال والتجويع والقصف والقتل بمختلف صنوف الأسلحة، فنتج عنها تدمير أكثر من ثلث سوريا مادياً، وتهجير حوالي نصف السكان.
هذا التهجير يعده نظام الأسد فرصة تاريخية لإعادة هندسة البلد ديمغرافياً وتحويله إلى كيان أو كيانات عدة، -أحدها تحت سيطرة النظام الشكلية- وفق تقسيمات مذهبية وإثنية، تفصلها حدود غدا تجاوزها يحتاج لمعجزة ولفترة زمنية طويلة، خاصة أن هذه الانقسامات أصبحت مدعومة من دول خارجية رسمت لها “أسس” هذه الانقسامات وعمقتها بالدماء والدمار، وحولت البلاد إلى ساحة لتصفيات ومعارك تخص الصراعات بين تلك الدول، تلك التصفيات التي يخاف أن تطول نظامه.
أتت الدعوات إلى التقارب من طرفين: الأول إيران عبر العراق، والثاني روسيا بشكل مباشر. وصحيح أن روسيا وإيران طرفان داعمان لنظام الأسد، وتربطهما علاقات تحالف معينة، إلا أن العلاقات بينهما لا تخلو من تناقض تبعاً لرؤى كل طرف تجاه سوريا ومصالحه فيها. حيث ظهر هذا الخلاف من خلال رفض بوتين لعقد اجتماعات في بغداد بين أردوغان والأسد اللذين “رحبا بجهود الوساطة العراقية”، وهو رفض لدور إيران التي تهيمن على القرار في بغداد، وتسعى لتكمل هيمنتها على سوريا منفردة. حيث تمكن بوتين بسبب علاقته مع تركيا وهيمنته على نظام الأسد، ودعم بعض الدول العربية من فرض وساطته، بينما تراجعت الوساطة العراقية لمرحلة لاحقة، إن لم تكن انتهت.
كان موقف الولايات المتحدة واضحاً برفض التطبيع مع النظام، وأنها لا تشجع أي طرف على ذلك، لكن يبدو أنها لن تمنعه أيضاً. وتدرك الولايات المتحدة أن هذا التقارب فيما لو حصل، سواء بمساعي إيران أو روسيا، سيكون من أحد أهدافه المعلنة التخلص من حكم “الإدارة الذاتية” بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو هدف معلن لعملية التقارب تلك، وخاصة من الجانب التركي، لكن بالتأكيد يستلزم الموافقة أو غض الطرف الأميركي، وخاصة في منطقة الجزيرة، وإلا فلن يمكن لتركيا ولا للنظام السوري تحقيقه. هذا إن كان النظام السوري جاداً في الخلاص من “حليفه” التاريخي، حيث تعايش النظام الأسدي مع وحدات حماية الشعب إلى حد كبير في مناطق عدة (الجزيرة وعفرين).
القضية الأخرى في التقارب هي عودة السوريين أو جزء منهم إلى سوريا، وهم الذين فرّوا من جحيم الأسد سعياً نحو الأمان والاستقرار، وشرطهم الوحيد للعودة هو الخلاص من الأسد. بينما شكل رحيل الملايين بالنسبة للأسد فرصة للخلاص مما يعدّه بيئة معادية وحاضنة للإرهاب كما وصفها. وأمام الوقائع التي تعيشها سوريا في ظل الأسد، يبدو أنه من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، عودة الناس، وخاصة الذين فقدوا بيوتهم وذويهم، وباتوا مهددين أمنياً من النظام. أما عودتهم إلى مناطق الشمال المكتظة جداً بالمهجرين والمفتقدة لفرص العمل والمعيشة، فيكاد يكون عامل تفجير أكثر من عامل استقرار، ناهيك عن قضية السيطرة على مناطق الشمال الممتدة من إدلب حتى الباب وجرابلس، تلك السيطرة التي يطمح الأسد فيها، وخاصة المعابر الحدودية.
أمام تلك الدعوات، كشفت المعارضة السورية عن حالها البائس الذي تعيش فيه، حيث الفراق مع السوريين، وهامش تحركها ينحصر فيما تسمح به الدول الفاعلة في سوريا، فوقفت مشلولة تنتظر التطورات وتداعياتها، مكتفية بترديد تمسكها بالقرارات الدولية، في وقت أزاحت فيه الدول الفاعلة قضية سوريا والسوريين إلى المرتبة الأخيرة في أجنداتها، وتتعامل معها ضمن ما تحققه من منافع وما تشكّله من أضرار لها.
ومن ناحية ثانية، ينظر كثير من السوريين وخاصة خارج مناطق سيطرة النظام -رغم ظروفه القاسية جداً- بعين الشك والخوف من مثل هذا التقارب، ولسانهم يقول إن التقارب لا يعني سوى تمديد حياة الأسد السياسية، من خلال مصالحة شكلية تضم تحت مظلتها بعضاً من وجوه المعارضة التي غدت موضع شك من المهجرين.
قبل تركيا، ومع اختلاف الظروف والدوافع، جرّبت بعض الدول العربية، وتحديداً الخليجية، التقارب والمصالحة مع النظام، يدفعها في ذلك عدة أهداف أهمها: الخلاص من تجارة وتهريب المخدرات التي غدت سوريا مصدرها الرئيسي، فباءت بالفشل الذريع، حيث زادت كميات التهريب ووسائله.
وثانيها محاولة إبعاد نظام الأسد عن إيران، التي تغلغلت في مختلف مفاصل السلطة والمجتمع في سوريا، وكذلك فشلت، بسبب حجم التدخل الإيراني وحاجة النظام للدعم الإيراني. ومن المؤكد أن أنقرة تدرك فشل هذه المحاولات وأسبابها، مع العلم أن هناك مصلحة للجميع في تقليل النفوذ الإيراني في سوريا، لكن حجم التغلغل وقدرة إيران على إثارة الفوضى في المنطقة، ومطالبها بحصة أكبر في المنطقة، عوامل تطيل الصراع والتوتر أكثر مما تحقق الاستقرار.
لن تحصل تركيا على أي نتيجة إيجابية من التقارب والتطبيع مع نظام الأسد، كونه يتأرجح بين داعميه: روسيا وإيران، كما أنه يريد مزايا إعادة التطبيع من دون تقديم فاتورته. وتعرف تركيا أن الهجوم على منطقة الجزيرة قد يدخلها بمواجهة مع الولايات المتحدة، مواجهة لا يرغب فيها أي طرف، ناهيك عن عدم جدية نظام الأسد بمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي، وكل ما يريده هو أن يستخدمه ورقة لابتزاز تركيا. والسؤال اليوم، هل سيدفع موضوع التقارب مع نظام الأسد الولايات المتحدة للعمل مع تركيا وترتيب اتفاق يضغط على النظام وداعميه للوصول لحل “معقول”، تسوية لا تهمل قضية سوريا والسوريين، أم ستسير تركيا بالتنسيق مع روسيا ونظام الأسد نحو تفجير جديد؟ ليس أمام السوريين سوى الانتظار.
وطالما رضي “ممثلو” السوريين بالخروج من الملعب والجلوس على المقاعد ومراقبة اللعبة بين القوى الفاعلة، تلك اللعبة التي تحرق سوريا، فليس أمامنا الانتظار أو الانفجار من جديد.
* كاتب ومترجم سوري
المصدر: موقع تلفزيون سوريا