الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

معجزة الصين.. إنجاز للشعب أم للقادة؟

ياسمين عبداللطيف زرد *

قام الكاتب، “هوارد فرينش”، في مقاله المنشور على مجلة فورين بوليسي الأمريكية، بعرض كتاب لعالم الاجتماع الصيني بجامعة كاليفورنيا، “وانج فنج”. الكتاب بعنوان: (عصر الوفرة في الصين: الجذور والصعود والعواقب). يتناول الكتاب ما الذي ينبغي للمرء أن يفهمه بشأن الصين، نعني صعودها الاستثنائي، وطموحاتها العالمية الهائلة، ومستقبلها. في كتابه، بدلاً من التركيز على أي عامل منفرد، يعرض ‘وانج’ سلسلة من العوامل المتشابكة التي ساهمت بطرق معقدة وغير متوقعة في انطلاقة البلاد… نعرض هذه العوامل فيما يلي:

صحيح تجارب الصين المعروفة في مجال الزراعة كانت لفترة طويلة بمثابة إصلاح رئيسي، لكن إلى جانب هذا يوجد تغيير حاسم آخر لم يحظَ باهتمام كبير وهو موجة هائلة من التصنيع المبكر في الريف (وهذا هو العامل الأول وفقا لـ’وانج’). إذ بحلول منتصف التسعينيات، كان 40% من القوة العاملة الريفية تنتج السلع الصناعية في الريف الصيني. وفي عام 1995، أنتج العمال الريفيون أكثر من نصف إجمالي الناتج الصناعي في الصين.

لم تبدأ الهجرة الجماعية إلى المدن الصينية بشكل جدي إلا في النصف الثاني من التسعينيات بعد فترة طويلة من بداية التصنيع الريفي. تاريخياً، كان التحضُر سمة رئيسية للعديد من الانطلاقات الاقتصادية، بما في ذلك الانطلاقة الاقتصادية في اليابان، وقبل ذلك بكثير، في الولايات المتحدة. ولكن في الصين، كان للتوسع الحضري سمتان خاصتان؛ الأولى: نظراً لأن العديد من الوافدين الجدد إلى المدن كانوا يتمتعون بالخبرة الصناعية، فقد كانوا أفضل استعداداً للدخول مباشرة إلى وظائف المصانع. أما الثانية: فكان الصناع المهاجرون من الريف يحصلون على أجور وفوائد اجتماعية أقل بكثير من تلك التي يحصل عليها سكان المدن الموجودون من قبل. فضلاً عن ذلك فإن عمال المصانع كانوا يتمتعون بقدر ضئيل من الحماية من قِبَل النقابات العمالية، التي كانت تخضع لسيطرة الحكومة.

صحيح ما سبق شرحه للتو يتطابق مع النظرية القائلة بأن الصين كانت تمتلك مجموعة كبيرة من العمالة الرخيصة خلال فترة انطلاقتها، لكن  ‘وانج’ يشير إلى أن هذا يبالغ في تبسيط الأمور إلى حد كبير. إذ لا يمكن إنكار وجود تمييز ضد الأشخاص الذين لا ينتمون إلى المدن الكبرى الغنية، لكن الوافدين الجدد إلى المناطق الحضرية وصلوا رغم ذلك وهم يتمتعون بسمات خاصة كانت حاسمة في تعزيز النمو السريع في البلاد: فقد كانوا يتباهون بارتفاع معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة والصحة الجيدة بشكل عام. وكانت هذه ثماراً ملموسة للمساواة الاجتماعية خلال سنوات حكم ‘ماو’. وبالنسبة لـ’وانج’، فإن هذا يعني أن الوافدين الجدد إلى المناطق الحضرية لم يكونوا مجرد مصدر رخيص للعمالة، وكانوا أيضاً قادرين على أداء مهام معقدة. ومع ذلك، الدولة لم تبدأ أيا من هذه التحولات، فمثل هذه المبادرات الشعبية واجهت في كثير من الأحيان مقاومة من قبل الحكومة في البداية، قبل أن تقبلها وتحتضنها. لذا يرى ‘وانج’ أن الشعب الصيني، وليس قادته، هو الذي أنتج «معجزة الصين».

  • •  •

هناك عاملان آخران في نهضة الصين، مثيران للاهتمام بشكل خاص، ويتعلقان بالتاريخ والثقافة. يجادل ‘وانج’ بشكل جدي ومنطقي أن العنف والفوضى اللذين رافقتا الثورة الثقافية لعبا دوراً قوياً في دفع النمو السريع في الأعوام التي تلت عام 1976. ففي نهاية هذا العقد المضطرب، الذي انتهى بوفاة ‘ماو’، كان الشعب الصيني مُشوشاً ومُرهقاً للغاية، ومصاباً بخيبة الأمل. يقول ‘وانج’: «لقد كانوا يتوقون إلى التغيير، وإلى حياة تتمتع بمزيد من الرخاء المادي، والاستقرار الاجتماعي، واللياقة الإنسانية».

  • •  •

يتمثل الجزء الأخير من العوامل التي استند إليها ‘وانج’ لتفسير انطلاقة الصين في الانفتاح على الأفكار الجديدة، والمناقشة، والخطابات المتنوعة، والتي ازدهرت بشكل نسبي في فترة الإصلاح بالصين. إذ يقول أن النمو الاقتصادي بلغ ذروته في عام 2007، وأن انفتاح الصين وتسامحها بلغ ذروته في العقد التالي.

لكن منذ وصول شي جين بينج إلى السلطة في عام 2012، كان النمو والحريات الفكرية في انحدار حاد. فقد كانت عودة دولة الحزب جنباً إلى جنب مع تقليص نوع من التنوير الصيني لا تبشر بالخير بالنسبة لمستقبل البلاد. وتوضح الأجزاء المختصرة نسبياً من كتاب ‘وانج’ عن العقود المقبلة أن الصين سوف تواجه رياحاً معاكسة قوية، ومع ذلك هذا لا يرقى إلى مستوى التنبؤ بالانهيار أو التراجع، لكن ‘وانج’ يعتقد أن معدلات النمو المرتفعة أصبحت شيئاً من الماضي. وإحدى أهم الرياح المعاكسة هي التركيبة السكانية، لا يعني ذلك أن الاتجاه سيكون نحو الانخفاض السكاني. فوفقاً لمتوسط توقعات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة، فمن المتوقع أن يتقلص عدد سكان الصين، الذي يبلغ اليوم 1.4 مليار نسمة تقريباً، إلى أقل من 800 مليون نسمة بحلول عام 2100.

سوف يؤدي تسارع شيخوخة السكان إلى تكاليف اجتماعية عالية تتعلق بالتقاعد، والأمراض المزمنة، ورعاية المسنين والمسنات. ويتوقع ‘وانج’ أن الحكومة الصينية سوف تحتاج بحلول عام 2030 إلى إنفاق ما يقرب من نصف إيراداتها على التعليم، والرعاية الصحية، ومعاشات التقاعد، على افتراض عدم وجود زيادة في سخاء هذه البرامج. على سبيل المثال، إذا أرادت الصين توفير مستوى من الرعاية الصحية ودعم المعاشات التقاعدية يتناسب مع متوسط عام 2009 للدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فسيتعين عليها إنفاق ثلثي إجمالي الإيرادات الحكومية على هذه الخدمات فقط بحلول عام 2030. وأكثر من 100% بحلول عام 2050. وكما يتنبأ القرار الذي اتخذته الصين مؤخراً برفع أسعار نقل الركاب على شبكات السكك الحديدية عالية السرعة، فإن حتى تكاليف صيانة البنية التحتية الجديدة للنقل يمكن أن تصبح مسؤولية مالية كبيرة، مع تقلص قاعدة الأشخاص المستخدمين بالتزامن مع تقلص عدد السكان.

  • •  •

إن هذا المستقبل الديموغرافي وعواقبه القاسية تعني ضمناً اتخاذ قرارات سياسية شاقة من شأنها أن تشكل اختباراً قاسياً لنظام غير ديمقراطي صارخ يحجب المعلومات عن شعبه ويحميه من أي نقاش بناء. لكن حتى في ظل وجود الإنترنت- وإن كان خاضعاً لرقابة مشددة- وفي ظل الحصول على التعليم العالي، والسفر الدولي، لا يمكن أبداً العودة إلى الوضع الذي يهيمن فيه زعيم واحد على عقول أمة كبيرة جداً، كما كان الحال في عهد ‘ماو’. لكن هذا لم يمنع الرئيس «شي» من المحاولة.

باختصار، إن كان زعماء الصين في الماضي بطيئين في فهم إمكانات مجتمعهم ونموه، إلا أنهم الآن يقللون بشدة من أهمية الجانب السلبي لعودة الدولة المُهيمنة.

……………..

النص الأصلي

ـــــــــــــــــــــ

* كاتبة ومترجمة مصرية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.