مروان قبلان *
لفت الزميل الراحل فالح عبد الجّبار، في دراسة له نُشرت في تسعينيات القرن الماضي، إلى توجّه نظام الرئيس صدّام حسين لإعادة بعث القبيلة في العراق، بعد هزيمة الجيش العراقي في حرب تحرير الكويت (1991)، وما أعقبها من انتفاضة الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال، في العام نفسه، والحصار الذي فُرض على العراق، وضعفت بنتيجته السلطة المركزية في بغداد، فما كان من النظام إلّا أن لجأ إلى الاستعانة بالقبيلة، فأعاد الاعتبار إليها بعد أن عمد في مدى العقدين السابقين من حكمه (1968-1990) إلى إضعافها لصالح سلطة الدولة. ووصل الأمر إلى حدّ منع استخدام النسب القبلي في أسماء العائلات، فجرى ردّ الاعتبار لشيوخ القبائل والعشائر وتسليحهم وتمويلهم، كما تفويضهم بسلطات محلّية، من قبيل حلّ النزاعات، وغير ذلك من امتيازات منحت لهم لمساعدة الدولة في ضبط مناطقهم ومجتمعاتهم.
يوحي ما جرى في سورية، على امتداد العام الماضي، بوجود توجّه مماثل، إنّما لإحياء دور حزب البعث في الحياة السياسية السورية عبر إجراء “انتخابات” في مختلف المستويات، بلغت ذروتها بانعقاد المؤتمر العام للحزب في مطلع الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، انتخبت خلاله قيادة مركزية من 15 عضواً، وهي اللجنة التي حلّت محلّ القيادة القُطرية، بعدما تخلّى الحزب عن صفته العابرة للحدود الوطنية، بقراره حلّ قيادته القومية في مطلع عام 2016. وكان قد سبق ذلك انتخاب لجنة مركزية جديدة مؤلفة من 125 عضواً (80 بالانتخاب و45 بالتعيين)، إضافة إلى تشكيل لجنة الرقابة والتفتيش الحزبية، وانتخاب فروع المحافظات. يأتي هذا التوجّه مغايراً تماماً لما كان سائداً في العقد الأول من حكم بشّار الأسد، إذ جرى تبنّي سياسة إضعاف ممنهجة لدور الحزب بالتزامن مع انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، وانحسار دور القطاع العام، وفتح المجال أمام القطاع الخاص، وتحالف رجال الأعمال الجدد والشركات الكبرى (شام القابضة وسورية القابضة خصوصاً). كما يأتي أيضاً بعد خروج النظام من حرب طاحنة أفقدته السيطرة على مناطق واسعة من البلاد، وأضعفت قبضته على ما تبقّى منها تحت سيطرته، وفي ظلّ حاجته إلى أدوات أخرى للحكم غير الأدوات العسكرية والأمنية، التي اعتمد عليها خلال أكثر من عقد من النزاع المسلّح.
مرحلة الحزب القائد:
بين استلامه الحكم وحتّى نهاية الحرب الباردة (1963-1991)، لعب حزب البعث دوراً مركزياً في حياة سورية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، فقد استلم السلطة باسم الطبقة الكادحة (طبقة العمّال والفلّاحين) واعتبر نفسه ممثّلاً لتطلّعاتها ومصالحها، وقاد عملية إعادة هندسة اجتماعية – اقتصادية لصالح الأرياف على حساب المدن الكبرى، خصوصاً دمشق وحلب، ولكن أيضاً، حماة وحمص. وبموجب دستور 1973 صار “البعث” الحزب القائد للدولة والمجتمع. وكانت سياساته الاقتصادية والاجتماعية تصبّ كلّها في اتّجاه خدمة قاعدة دعمه الرئيسة، الممثّلة بأرياف المدن الكبرى. وقد تجلّى ذلك بوضوح في سياسات مجّانية التعليم، والصحّة، وتأمين فرص العمل من خلال التوظيف الاجتماعي في القطاع العام، ودعم السلع الأساسية، بما فيها المواد الاستهلاكية الرئيسة والمحروقات، وتقديم كلّ مستلزمات الإنتاج الزراعي مجّانًا أو برسوم رمزية للفلّاحين. ولضمان تنفيذ هذه السياسات، كان الحزب في عقود حكمه الأولى يقف فوق الحكومة ويشرف على عملها، وكان لكلّ وزارة مكتب حزبي يقابلها في القيادة القُطرية، يراقب عملها ويتأكّد من تطبيقها توجيهات الحزب. كانت تلك مرحلة حكم فيها، أو في أغلبها، حزب البعث، فعلياً، الدولة السورية.
أزمة البعث الشاملة:
أخذ هذا الوضع يتغيّر منذ أزمة الثمانينيات الاقتصادية الطاحنة، وتجذّر أكثر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهزيمة الشيوعية، وانهيار سياسات التخطيط المركزي الاقتصادية. وإلى جانب فشل سياساته الاقتصادية، بدأت تتضح أيضاً مظاهر الإفلاس الفكري والأيديولوجي لحزب البعث، الذي واجه صعوبةً بالغةً في تفسير تحالفه، وهو الحزب القومي العربي ذو التوجّهات العلمانية، مع نظام ديني غير عربي (إيران) ضدّ دولة عربية يحكمها الجناح الآخر لحزب البعث (العراق)، خلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980- 1988). لكنّ خطاب “البعث”، القومي المعادي للغرب وإسرائيل، دخل في مرحلة أزمة شاملة فقط بعدما قرّرت سورية الانضمام إلى التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتّحدة لإخراج العراق من الكويت عام 1991، ثم انضمامها إلى عملية السلام مع إسرائيل في العام نفسه. وهذه هي المرحلة نفسها التي أخذت تشهد، أيضاً، صعود أيديولوجيات منافسة؛ ليبرالية استمدّت زخمها من انتصار الغرب في الصراع الكبير مع الشيوعية، وانهيار الأطر الأيديولوجية والنظرية الماركسية والشيوعية لصالح فضاء من الأيديولوجيات الليبرالية. لكنّ التحدي الأكبر جاء من التيارات الإسلامية التي صعدت في عموم المنطقة، لتملأ الفراغ الذي خلّفه انحسار الخطاب القومي العربي بعد هزيمة 1967، ثم تصدّع النظام الإقليمي العربي نتيجة الغزو العراقي للكويت، ولمساهمة هذه التيارات الإسلامية، أيضاً، في هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ثمّ، في إنهاء الحرب الباردة وانتصار الغرب الليبرالي.
مع بداية الألفية، حاول النظام، للخروج من مأزقه البنيوي، سلوك طريق ثالث يسمح له بتحقيق درجة من التوازن بين الحاجة إلى الحفاظ على قواعد دعمه التقليدية من جهة، والابتعاد تدريجيًا عن شعاراته الأيديولوجية، التي فقدت بريقها وواقعية الالتزام بها في ظلّ التحولات الإقليمية والعالمية الكبرى، من جهة أخرى. فظهر شعار “اقتصاد السوق الاجتماعي”، الذي تبنّاه المؤتمر القُطري العاشر لحزب البعث في يونيو/ حزيران 2005. لكنّ النظام أخذ يذهب بعد ذلك بعيدًا في خطوات الانفتاح الاقتصادي، وكلما خطا خطوة في هذا الاتجاه، ابتعد عن قواعده، وتخلّى عن حوامل سلطته سياسيًا واجتماعيًا
إزاحة البعث من المشهد:
لتنفيذ برنامجه “الإصلاحي” بسلاسة، كان لا بدّ للنظام من إزاحة العقبات التي تقف في الطريق، فأُحيل أغلب رجالات “الحرس القديم” على التقاعد في المؤتمر القُطري العاشر للحزب. وبدأ العمل بعدها على إضعاف دور النقابات والاتحادات المهنية، التي كانت تعدّ أذرع البعث الضاربة في المجتمع (اتحادات العمّال والفلّاحين، خصوصًا)، فخفّضت الحكومة ميزانياتها بشدّة إلى الحدّ الذي أثّر في حجم ونوعية الخدمات التي تقدّمها لمنتسبيها، خاصّة الفلّاحين، الذين كانوا يعتمدون على الأسمدة والبذار المدعومة من الدولة، إضافة إلى دعم الطاقة، وغيرها من الخدمات. أمّا الحزب نفسه، الذي كان يوماً أداة الحكم الرئيسة، وقناة الوصول إلى قواعد النظام، فقد جرى تجويفه من الداخل، فلم يعد الانتساب إليه طريقاً للارتقاء الوظيفي كما كان لعقود، ولم تعد أفكاره (ونهجه) مرشداً أو إطاراً لصنع السياسات العامّة للدولة.
لم يهمَّش جهاز الحزب وتُقتَطع موازناته فحسب، بل فُكّك أيضاً، في المستوى التنظيمي. ففي عام 2010، ونتيجة وقوع تجاوزات، وورود شكاوى بخصوص انتخاباته الداخلية، حلّت قيادات فروع الحزب في المحافظات والشعب الحزبية. لذلك حينما قامت الثورة في مارس/ آذار 2011، لم يكن لدى النظام من وسيلة للتواصل مع القاعدة التي كان ما زال يدّعي تمثيلها في البلدات والقرى الثائرة خصوصًا. وفي حين كان المواطنون يلجأون عادة إلى فروع الحزب وقيادات النقابات للحصول على “واسطة” أو دعم لحلّ مشكلاتهم أو للحصول على وظيفة، لم يعد لهؤلاء تأثير فعلي مع بداية عام 2011، إذ حلّ مكانهم رجال الأعمال في المدن، وفي الأرياف زعماء العشائر، وكبار الملّاك، ووجهاء العائلات، ورجال الدين. وكانت قدرة البعث على الحشد والتعبئة والتأثير قد تلاشت أصلاً منذ أن بدأت الأيديولوجيات الليبرالية والإسلامية بملء الفراغ الذي تركته أيديولوجية البعث اليسارية. ومع انتقال السلطة على نحو أكبر بعيداً عن الحزب، وتلاشي شبكة المصالح التي ترتبط به، أخذت قاعدة دعم النظام تضيق أكثر بين شرائح دعمه التقليدية. وقد زاد الفراغ الناشئ من تلاشي قوّة الحزب أيديولوجيّاً، وتهميش دور النقابات سياسيًا واقتصاديًا، من الاعتماد على الأمن الذي حاول أن يملأ الفراغ، إنّما من خلال القمع بدل الإقناع أو تأمين الخدمات العامّة، وهما الوظيفتان اللتان كان يضطلع بهما الحزب والنقابات.
خلال عقود من حكمه، برع “البعث” في السيطرة أيديولوجيًا على كلّ مناحي الحياة السورية تقريباً، عبر خطابه القومي المعادي للغرب وإسرائيل، والذي كان يلقى تأييداً كبيراً في الشارع السوري، وعمل على ترسيخه عبر التعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية، التي تبدأ من سنوات التعليم المُبكّر وصولاً إلى الجامعة، عبر هياكل تنظيمية صارمة، تماثل ما كان سائدًا في دول المعسكر الاشتراكي، وتبدأ مع منظّمة طلائع البعث في الصفوف المدرسية الابتدائية، ثم اتحاد شبيبة الثورة في المرحلة الإعدادية، والاتحاد الوطني لطلبة سورية في المرحلة الجامعية، فضلًا عن الجهاز الحزبي الذي يسيطر على عمليات التوجيه المعنوي في الجيش، وأجهزة الأمن، والمدارس، والقطاع العام، وبيروقراطية الدولة ومؤسّساتها، والاتحادات المهنية (أطباء، ومهندسون، ومعلمون … إلخ)، والتنظيمات الحرفية والنقابية، العمّالية والفلاحية والنسائية، والتي كانت تعنى بالوصول إلى كلّ عامل وعاملة، وفلّاح وفلّاحة، في أبعد نقطة نائية من سورية، في إطار سياسة “تبعيث” الدولة والمجتمع. لكنّ هذه السيطرة أخذت تتلاشى تدريجيّاً بتغير نخبة الحكم ورؤيتها للعالم، إضافة إلى محاولاتها مواكبة التغيرات التي طاولت بنية النظامَين الإقليمي والدولي، ما أسفر عن حالة من التوتّر المكتوم بينها (نخبة الحكم الجديدة) وبين البعث (تنظيماً حزبيّاً وأيديولوجيّاً نشأ في ظروف مغايرة)، أخذت تتنامى مع تغيّر السياسات والأولويات، إذ لم تعد المناطق الريفية الفقيرة والمهمّشة محور تركيز النظام واهتمامه، مع سعيه إلى التخلّي عن تحالفاته القديمة وبناء تحالفات جديدة.
تحالفات النظام الجديدة:
والواقع أنّ السياسات الليبرالية، التي أدخلها النظام في العشرية الأولى من حكم بشّار الأسد، دفعت التحوّل الاجتماعي في اتجاهَين متناقضَين، لكنّهما قادا، في النهاية، إلى النتيجة نفسها؛ فمن جهة، أدّت هذه السياسات إلى إنعاش الطبقات الوسطى المدينية اقتصاديًا وارتفاع مستوى التعليم لديها، خاصّة مع فتح قنوات جديدة للتعليم لم تكن قائمة، مثل نظام التعليم المفتوح والتعليم الموازي والخاص الذي استقطب مئات الآلاف من الطلاب الذين عجزت الجامعات الحكومية عن استيعابهم. وقد أدّى ارتفاع المستويين الاقتصادي والتعليمي إلى توسّع الطبقة الوسطى المدينية خلال العقد الأول من حكم بشّار، ما رفع منسوب التوقّعات لديها بشأن مستقبلها، وأدّى إلى زيادة الميول الليبرالية في أوساطها، بالتوازي مع ازدياد الوعي بالعالم الخارجي، الناجم عن انتشار الإنترنت والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، فتنامت المطالبة بمزيد من الحرّيات العامة، التي لم يكن النظام مُستعدًّا لتقديمها. وفي المقابل، أدّت السياسات الاقتصادية للنظام إلى تكريس التنمية غير المتوازنة عبر إفقار الأرياف، خاصّة بعد التخلّي عن سياسات الدعم، ورفع أسعار المواد الأساسية ومشتقّات الطاقة، وتسرّب أعداد كبيرة من الطلاب فيها من المدارس، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. ولوحظ، مثلاً، ارتفاع مستوى الأمية إلى نحو 17% في عام 2009، تركّزت في المناطق الطرفية خصوصاً. وقد ساهم الفقر وسوء توزيع الثروة، وانخفاض مستوى التعليم، في ارتفاع مستوى التديّن في الأوساط الريفية. وبحلول عام 2011، كانت سياسات اللبرلة الاقتصادية، الدافعة إلى انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وسوء إدارة أزمة الجفاف، والتغيّر البيئي، واتفاقية التجارة الحرّة مع تركيا، والزيادة المُطّردة في عدد السكان، تمضي بالتزامن مع تغيّر تحالفات النظام الداخلية، وتتكامل معها في اتجاه حصول انفجار كبير.
“انفلاش” اقتصادي في غياب التنظيم السياسي:
في الأثناء، اتجهت طبقة رجال الأعمال التقليديين، والجدد، إلى تشكيل لوبيّاتٍ مالية، وكارتيلات اقتصادية كبرى، سيطرت على جزء كبير من الاقتصاد الوطني، في ما وصف بـ”المائة الكبار”. وعلى الرغم من أنّ سورية لم تشهد عملية خصخصة كبرى ومباشرة وعلنية للقطاع العام، أي لم تشهد، بمصطلحات برامج الإصلاح الاقتصادي، عملية إعادة هيكلة، كما حصل في دول أخرى، انتقلت من اقتصاد مركزي موجّه إلى اقتصاد السوق (مصر مثلاً)، فإنّها سارت فعليًا في عملية إعادة هيكلة تلقائية وليست رسمية. فقد أحجمت الحكومة عن توفير أيّ مخصّصات مالية لدعم القطاع العام أو تحديثه، وتركته إمّا يتلاشى في حالة خسارة دائمة وباهظة، أو نقلت إدارة أجزاء منه إلى القطاع الخاص عبر “أطروحة” الفصل بين الإدارة والملكية، تولّاها عمليًا رجال أعمال مرتبطون بشبكة مصالح نشأت من تحالفات النظام الجديدة، هرّبوا في نهاية المطاف ثرواتهم إلى الخارج بدلًا من أن يعيدوا استثمارها في الصناعة الوطنية.
وبدلاً من المساهمة في بناء اقتصاد حقيقي، ركّز رجال الأعمال هؤلاء على تحويل البلد مركزَ مال وسياحة وتجارة إقليميًا، شبيها بلبنان. واتّجهت، بناء على ذلك، أغلب الاستثمارات إلى هذه القطاعات غير الإنتاجية. بالمثل، لم يكن المال الخليجي، الذي أخذ يتدفّق خلال هذه الفترة على سورية، معنيًا بأيّ قطاعات إنتاجية حقيقية، طويلة المدى، بل كان يبحث عن مردود استثماري سريع، فتجنّب قطاعات الصناعة والمشروعات الزراعية الكبرى، في حين جرى استثمار ما يقرب من 20 مليار دولار في قطاع الفنادق والإسكان الفاخر، والمضاربات العقارية. وتركّزت 13% فقط من الاستثمارات بعد عام 2000 في الصناعة. وقد حال انعدام الثقة باستقلالية القضاء، وغياب الشفافية وسيادة القانون، وانتشار الفساد على نطاق واسع، من دون استقطاب استثمارات إنتاجية بعيدة المدى في الصناعة والزراعة، إذ ظلّ ترتيب سورية متدنياً في هذه القطاعات في سلّم الوجهات الاستثمارية الجذابة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد تزامن ذلك كلّه، أي تضاؤل هيمنة الدولة الاقتصادية، باعتبارها المشغّل الأكبر للمجتمع، وضعف دورها “الأبوي” للفئات الفقيرة، وتلاشي هيمنتها الفكرية والثقافية، مع فقدانها السيطرة على تدفّق المعلومات، وبروز نوع جديد من التفاعل الشبكي الأفقي داخل المجتمع بدل التفاعل الرأسي التقليدي (Top-down) بين السلطة والمجتمع. وقد ساهم ذلك كلّه في إضعاف دور الدولة الاجتماعي – التثقيفي، وزيادة اعتمادها على ذراعها الأمنية في القمع والسيطرة على مجتمع قايض الحرّية بالخبز، ثم انتهى بفقد كليهما. الأسوأ من ذلك كلّه، أنّ النظام فشل في مواكبة التغيرات الاقتصادية العميقة، وغير المنضبطة أحياناً، التي أدخلها، بخطوات سياسية تحتوي آثار التحوّلات الاجتماعية الناجمة عنها. ففي مقابل إضعاف سيطرة حزب البعث والحدّ من تغلغله في المجتمع، فشل النظام في إنشاء تنظيم سياسي بديل، يعكس سياساته الاقتصادية الجديدة، أو في فتح المجال العام أمام مزيد من المشاركة السياسية.
بموازاة ذلك كلّه، كان الزمن يفعل فعله في بنية النظام، إذ تحوّل الجيلان الثاني والثالث من أبناء النخبة الريفية الفلّاحية، التي حكمت سورية منذ 1963، إلى طبقة مدينية برجوازية، نشأت في المدن الكبرى (خصوصاً في دمشق)، واعتادت نمط حياة مدينية ينتمي إلى بيئة الشرائح الاجتماعية العليا، التي ثار عليها الرعيل البعثي الأول، وورثت السلطة بدل أن تقاتل من أجلها، ما أفقدها صلاتها بالطبقة الاجتماعية التي تحدرت منها، والتي انتقلت بدورها لتصبح القاعدة الاجتماعية للثورة بفعل تهميشها، والضرر البالغ الذي ألحقته بها سياسات اللبرلة الاقتصادية في العقد السابق. ورغم أنّ المثقّفين المُتحدرين من الطبقات الوسطى المدينية أدّوا أدوارًا مهمّة في إشعال الاحتجاجات عام 2011، فإنّ العبء الأكبر وقع على أبناء المناطق الطرفية في إبقاء جذوتها مشتعلة، قبل أن يتحوّل هؤلاء إلى مقاتلين، حينما انتقلت الاحتجاجات إلى طور الصراع المسلح.
إعادة “تبعيث” الدولة:
الآن، وبعد نحو عقدَين من انطلاق عملية تهميش “البعث”، تخلّلهما عَقد من الصراع الدامي، يعود النظام إلى محاولة نفخ الروح في جسده. لكن إذا (وهذه إذا كبيرة) نجحت إعادة بناء “البعث”، فسوف نكون في الواقع أمام حزب جديد لا علاقة له بماضيه، ولا بتاريخه، ولا بإرثه الفكري والأيديولوجي (القومي – الاشتراكي). فوق ذلك، لم تعد جماهير “البعث” التقليدية موجودة أصلاً، إذ إنّها انتقلت إلى المعارضة أو صارت في بلاد اللجوء أو مناطق النزوح خارج سلطة النظام. وبالتالي، سوف تكون قاعدة الحزب الجديدة مختلفة، تعبّر عن طموحات ومصالح طبقة مختلفة، نرى نماذج لها حاليًا في الحملات الانتخابية الجارية لمجلس الشعب. لذلك، قد نشهد، على الأرجح، بروز نسخة جديدة من “البعث” أقرب ما تكون إلى نسخة الحزب الوطني في مصر في عهد حسني مبارك، أي حزب ذي توجهات ليبرالية يتمحور كلّيًا حول طبقة معينة، اهتماماتها وتوجّهاتها ومصالحها مرتبطة بشعار “سورية أولاً” الذي يرفعه مواربة بعض مثقّفي النظام. بهذا المعنى، تصبح عملية إعادة “تبعيث” سورية أمراً غير ممكن عمليّاً، أولًا لانتفاء كلّ شروط نجاحها، فسورية بالشكل القديم الذي حكمها حزب البعث لم تعد موجودة أصلًا، ومقدار الضرر الذي لحق بالدولة والمجتمع يجعل العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل مارس/ آذار 2011 غير ممكنة. وثانيًا، وهذا الأكثر أهمّية أنّ سورية، المريضة اليوم إلى درجة يصعب تصوّر شفائها، لا تحتاج، إذا أرادت أن تبقى كيانًا ترابيًا موحّدًا بالشكل الذي ظهرت عليه بعد عام 1920، إلى إحياء البعث، بل إلى إحياء الوطنية السورية، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة تمكّنها من استعادة شرعيتها والنهوض بوظائفها الأساسية، بدءًا باحتكار استخدام العنف لفرض الأمن والنظام العام في إقليمها، ومنع قيام أيّ سلطة موازية لها، وصولاً إلى استعادة سيادتها، وإخراج القوى الأجنبية من أراضيها، وإعادة بناء اقتصادها على أسس أكثر عدالة، وتحقيق المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وإنتاج عقد اجتماعي جديد ينظّم علاقة الدولة بالمجتمع على أسس ديمقراطية.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد