عبير فؤاد *
التحايل على الحقيقة وتبرير الجريمة هما الأساس الذي شيد عليه الصحفي الإسرائيلي آري شبيط كتابه “أرض ميعادي.. إسرائيل النصر والمأساة”. تأملات وتجارب شخصية للكاتب، وحكايات يرويها له شهود عيان أحياء وأموات عبر مذكراتهم، بعضهم أصحاب مواقع سياسية وأمنية وعسكرية مهمة، حشدها ‘شبيط’ بأسلوب يزاوج بين التاريخي والأدبي ليقص علينا حكاية إسرائيل، الدولة “المعجزة” التي خرجت من خيالات الصهيونية وأصبحت واقعاً على أيدي المؤمنين بها. حكاية انتصار لا يمكنه التجاوز عن الفظائع التي ارتبطت بها، لكنه يمتلك من الجرأة إن لم نقل الوقاحة ما يسعفه على الإقرار بها وتبريرها في الوقت ذاته.
أمر محيّر في الحقيقة أن يكون لدى شخص يعتبر نفسه من نشطاء السلام مثل شبيط، هذه القدرة على ادعاء الموضوعية ومعارضة الاستيطان والمطالبة بإنهاء احتلال أراضي الـ 67، ومع ذلك يرى في الإبادة والتطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون في الـ 48 أمراً لم يكن منه مفر لتحقيق وجوده وذاته الإسرائيلية، إنه فخور بصهيونيته ولا يريد التخلي عنها مهما كان الثمن.
يذكر المترجمان “عماد الحطبة ووسام عبدالله” في تقديمهما للكتاب، أنه حقق موقعاً مهماً في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لفترة طويلة، وحاز العديد من الجوائز الدولية، عدا عن أنه واحد من أهم الكتب التي تشرح آلية نجاح الحركة الصهيونية في بناء المجتمع الإسرائيلي، لكنهما ينبهان القارئ أيضاً إلى أنه سيجد الكثير من الأمور والأحداث التي تستفزه وتثير غضبه، نظراً لأن الكاتب تعمد إيراد الحقائق مبتورة وبلغة مواربة تخدم أهدافه، مشيرين إلى أن ها هنا تكمن أهمية ترجمة وقراءة هذا الكتاب؛ كونه “الأقرب إلى إسرائيل كما هي على الأرض، وكيف تعمل وكيف تفكر، وكيف تقنع نفسها بما فعلت”.
مأساة اللد أكبر من التجاهل:
يروي ‘شبيط’ حكاية قيام دولته عبر سير من يعتبرهم روادا جاؤوا من أوروبا حاملين معهم الحلم الذي بدا مستحيلاً وبعيداً ليجعلوه ممكناً، وعبر محطات مفصلية يرى أنها شكلت ملامح هذه الدولة وحفرت دعائم قوتها. وهو في ذلك لا يغادر إطار الرواية الرسمية الزائفة الإسرائيلية، وموقفها من التاريخ والوقائع التي شهدتها أرض فلسطين منذ وصول طلائع المستوطنين الأولى في نهايات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا.
واحدة من هذه المحطات، هي توسيع وتطوير بيارات البرتقال، حيث اجتمعت الإرادة والخبرة الزراعية والعلمية للمستوطنين اليهود لتحول الأرض القاحلة التي سكنها البدو إلى بيارات برتقال مزدهرة، مستعينة باليد العاملة العربية البدائية وغير المدربة في إنجاز مهمتها. يلزم المرء الكثير من الصبر وضبط النفس بينما يقرأ حديث ‘شبيط’ هذا. يقول: “حتى هذه اللحظة (يقصد العام 1935) كان الظلم الذي تسببه الصهيونية للسكان العرب محدوداً. لا نستطيع أن ننكر أن المزارعين والمستأجرين العرب قد تم اقتلاعهم من أراضيهم، لكن حياة هؤلاء المزارعين تحت سلطة سادتهم العرب، كانت أسوأ من حياتهم كعمال حقول عند المُستعمرين اليهود. رغم معاناة بعض العرب إلا أن الكثيرين منهم استفادوا بشكل ملفت من التقدم الذي حملته الصهيونية”.
في كتابه “عشر خرافات عن إسرائيل” يفند البروفيسور والمؤرخ الإسرائيلي «إيلان بابيه» مثل هذه الادعاءات الفجة، عندما يشير إلى واحدة من “مغالطات” الماضي التي لا يتوقف الإسرائيليون عن ترديدها في كتبهم ومناهجهم الدراسية، تلك التي تصور فلسطين قبل احتلالها أرضاً خالية قاحلة أقرب ما تكون إلى صحراء، قام المستوطنون الصهاينة بزراعتها، بينما يُثبت الواقع والوثائق وجود مجتمع فلسطيني مزدهر، يغلب عليه الطابع الريفي، مع وجود مراكز حضرية حيوية، كان يشهد عمليات متسارعة من التحديث وبلورة النزعة القومية. لكن يبدو أن ‘شبيط’ الصحفي والناشط لا تعنيه الحقائق التاريخية بقدر ما يعنيه الانتصار لصهيونيته.
غير أن بعض الوقائع أكبر من أن يتم تجاهلها أو إنكارها، لذلك يُقر ‘شبيط’ بما فعلته الصهيونية في مدينة اللد على سبيل المثال، ويرى في طرد أهلها وإزالتها تاريخاً أسوداً، مستعيداً مشهداً من رحلة جده الأكبر، الرجل الإنجليزي الذي جاء إلى فلسطين في العام 1897 مستكشفاً احتمالات تحقيق حلم الدولة اليهودية، يقول ‘شبيط’: “عندما نظر «(هيربرت) بنتويتش» إلى اللد من البرج في الرملة، كان يجب أن يرى أنه إذا كان للدولة الصهيونية أن تقوم في فلسطين، فإن مدينة اللد العربية يجب ألا تكون في وسطها. كان يجب أن يعرف أن اللد عقبة تغلق الطريق أمام الدولة اليهودية، وأن الصهيونية ستُزيل هذه العقبة ذات يوم”.
يتابع: “لكن هيربرت بنتويتش لم ير والصهيونية اختارت ألا تعرف”. هذا الاستدراك يوهم بموقف إدانة، لكنه في الحقيقة مجرد لغة مخادعة، فـ’شبيط’ سيؤكد بعد صفحات قليلة أنه لن يتنكر للصهيونية ولن يدير ظهره للحركة القومية اليهودية التي قامت بتدمير المدينة وطرد أهلها. يقول: “سأقف إلى جانب الملعونين لأنني أعلم أنه لولاهم لما ولدت دولة إسرائيل، لولا ما فعلوه لعلي لم أكن لأولد. قاموا بالأعمال القذرة التي مكنت شعبي، ومكنتني، وابنتي، وأبنائي من العيش”.
معجزة اقتصادية على أنقاض الشعب الفلسطيني:
يتحدث ‘شبيط’ عن مشاريع “وطنية” صنعت المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية في الخمسينيات مثل مشروع الإسكان الذي وفر 200 ألف شقة، ومشروع المستعمرات الزراعية التي قامت أصلاً على الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ويشير إلى أن 400 قرية فلسطينية دمرت بينما بنيت 400 أخرى إسرائيلية، “عملت على إعادة تشكيل اقتصاد إسرائيل وجغرافيتها”، ومشروع التصنيع ما بين 1953- 1958 حيث ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 180%، و”مع انتهاء العقد الأول من عمرها، تمكنت إسرائيل من إنجاز ثورة صناعية سريعة ومكثفة”. لكنه يقول أيضا إن هذه “المعجزة” مبنية على الإنكار.. إنكار وجود وحقوق الفلسطينيين. ومرة أخرى يعود لتبرير هذا الإنكار.. الجريمة. فإسرائيل لم يكن لديها الوقت “للشعور بالذنب أو التعاطف. كان عدد اللاجئين (اليهود) الذين استوعبتهم إسرائيل يفوق عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين تم طردهم”.
لو أقرت إسرائيل بما حدث لما تمكنت من البقاء”!! هكذا يواصل ‘شبيط’ رحلته الخاصة في الإنكار والمراوغة، فمفاعل ديمونا خطوة خطيرة وقد يستفز سباقاً نووياً في المنطقة يؤدي إلى كارثة لن ينجو منها أحد، لكنه مع ذلك “مظلة” تحمي اليهود. “لقد منح ديمونا إسرائيل نصف قرن من الأمن النسبي، ومنح الشرق الأوسط ستاً وأربعين سنة من الاستقرار النسبي”. والمستوطنات في مناطق الـ67 خطأ فادح، لكنها رد مباشر على حربي الـ67 والـ73، فالصهيونية كانت تحتاج إلى ما يشعرها بأنها تتقدم إلى الأمام، إلى ما يؤكد أنها “مشروع توسعي” لا “مشروع تراجع”.
علامات استفهام وإجابات مضللة:
أصوات الفلسطينيين أصحاب البلاد خافتة وهامشية في كتاب ‘شبيط’، كما يمكن للمرء أن يتوقع، لكن شهادات وأصوات الإسرائيليين الذين التقاهم كثيرة ومحورية، وهي تقدم صورة مركبة عن هذا المجتمع الذي يبدو لنا من الخارج كتلة واحدة، غير أنه في الحقيقة يعيش صراعاته الداخلية وانقساماته وتحولاته المستمرة. يتحدث ‘شبيط’ عن الحياة الجنسية للشباب الإسرائيلي، وعن انتشار المخدرات، عن هوة عميقة بين الأشكناز والسفارديم، عن تفاوت طبقي اقتصادي وثقافي، وسلوك تمييزي انتهجته الدولة على الدوام لصالح اليهود الغربيين وضد اليهود الشرقيين، أفرز في المحصلة واحدة من أهم الحركات الدينية- السياسية في إسرائيل حركة “شاس”.
يطرح ذلك متجولاً في حكايات أشخاص مثل “أرييه درعي، ابن مكناس المغربية”، وزير الداخلية السابق ومؤسس “شاس”، و”غال غاباي، الصحفية من أصل مغربي”، وغيرهما. يقول ‘شبيط’: “لكي تبقى على قيد الحياة، حاولت المؤسسة صياغة شعب واحد قوي، وبناء دولة موحدة، لكن الثمن الإنساني كان باهظاً.. “لقد آذينا ملايين اليهود”. لكنه مرة أخرى يعود إلى طريقته في التبرير اللاأخلاقي فيضيف: “الحقيقة أن إسرائيل صاحبة فضل على أولئك اليهود الذين اقتلعتهم من الشرق؛ فاليهود هناك، لم يكن لهم مستقبل فعلي في بغداد الجديدة والقاهرة الجديدة ومكناس الجديدة (يقصد بعد تحرر هذه العواصم من الاستعمار وبروز أنظمة قومية). “لو أنهم ظلوا هناك لتعرضوا للفناء، لكن إجبارهم على التخلي عن هويتهم وثقافتهم عمل متهور”.
وضع ‘شبيط’ مقدمة كتابه تحت عنوان “علامات استفهام” وفيها يتساءل عن التحديات الجوهرية التي تواجه إسرائيل والصهيونية، والتحولات العميقة في المجتمع الإسرائيلي، والتهديدات الداخلية السياسية والاجتماعية، وإذا ما كان بالإمكان إنقاذ دولته التي يحب من مصير مجهول يثير القلق. وخلال صفحات كتابه الطويل، يطرح شبيط هذه التساؤلات بأشكال مختلفة في محاولة للوصول إلى إجابات.
لكن الإجابات الصادقة لا تتحقق إلا بمسعى صادق، وأين هذا المسعى من مراوغات ‘شبيط’ ومسطرته الأخلاقية المطاطة! يقول: “ما الذي حدث في وطني على مدى قرن من الزمان لنصل إلى هذه اللحظة؟ ما الذي حققناه وما هو الخطأ الذي ارتكبناه، وإلى أين نسير؟ هل توجد أسس متينة لقلقي العميق؟ هل تتعرض الدولة اليهودية لخطر حقيقي؟ هل علقنا نحن اليهود في مأساة دون أمل، أم أن بإمكاننا إعادة إحياء وإنقاذ أنفسنا والأرض التي نحب؟”.
* مهندسة وكاتبة مصرية
المصدر: عربي 21