يمان دابقي *
ليس مصادفةً أن نشهد موجة تصعيد جديدة ضد اللاجئين السوريين في مناطق جغرافية متفرّقة بتوقيتٍ واحدٍ معاً، بهدف إجبارهم على العودة إلى سورية، في وقت تُسارع فيه الدول المنخرطة في الصراع لتصفية القضية السورية، وتعويم بشّار الأسد، وعودة العلاقات معه، متجاهلين جذور الصراع ومسبّباته والعوامل التي أدّت إلى تفاقم الأعباء الأمنية والاجتماعية.
حملات الترحيل، في تركيا، بنسخها المتعدّدة تحت ما تسمّى العودة الطوعية للسوريين، مستمرّة منذ أكثر من عامين، وبات معروفاً أنّ هذا الملفّ دخل البازار الانتخابي السياسي بين الأحزاب المعارضة والحكومة، ولم تعُد خافيةً على أحد من المتابعين لشؤون اللاجئين الممارسات والانتهاكات التي ترافقت مع تلك الحملات من القائمين عليها. المفارقة هنا أنّ الحكومة تبنّت هذه الحملات تحت غطاء مكافحة الهجرة غير الشرعية، وذهبت لتُظهر كل شهر بيانات وأرقاماً عن أعداد السوريين المرحّلين إلى الشمال السوري، مع التأكيد على كلمة “طوعية”. لكننا دائماً ما نكون أمام عدّة روايات، كالتي ذاعت، أخيراً، في أحداث قيصري، والأنباء التي تواردت إلى الإعلام عن ترحيل عائلة من ستة أفراد من ولاية قيصري، بعد تقديمهم شكوى رسمية ضد المعتدين العنصريين، ليأتي النفي من دائرة الهجرة على الفور عبر بيان رسمي، وبين هذا وذاك يجري تمييع الحقائق والتغطية عليها بأحداث آنية بغية توجيه الجمهور نحوها وإغراقهم بالتفصيل، مع استمرار الترحيل القسري شهرياً.
هذا تفصيل صغير جدّاً عن آلية التعامل بملف اللاجئين في تركيا، والتي تعكس خللاً واضحاً في القانون وعدم توفير بيئة اجتماعية وقانونية، وعدم وجود إرادة سياسية من جميع الأحزاب لتسوية أوضاع اللاجئين، لسببٍ بسيطٍ هو وجود قناعة مشتركة تميل إلى إعادتهم إلى سورية، الأمر الذي استغلّه العنصريون، ولعبوا على وتره لإشعال كرة النار لإحداث الضرّر بالشعبين السوري والتركي، كما شهدنا قبل أسابيع، وهو ما تسبّب بإثارة الرعب بين السوريين في كل المحافظات التركية، ودفع بعضهم للعودة إلى سورية، سواء إلى مناطق النظام أو الشمال السوري.
وبينما كنا نراقب هذه التطورات، تأتي الأخبار المتواترة من مصر والأردن وأربيل عن تضييق حكومتي البلدين (وحكومة إقليم كردستان العراق) على اللاجئين السوريين، تحت ذرائع وعراقيل كثيرة، كتوقيف تجديد الإقامات السياحية، وغرامات مالية، بغرض جعلهم يكرهون العيش فيها، والدفع بهم نحو عودة “اضطرارية”. مع ذلك، تبقى مصر والأردن أخف وطأة أمام واقع الجحيم في لبنان، والذي ظهر في آخر صرعاته ما سمعناها على لسان زعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي ترك كل مصائب لبنان ووضع عقله بالطلبة السوريين، مطلقاً تصريحات عجيبة غريبة، خاطب بها وزير التربية عباس الحلبي وطالبه بطرد أي طالب سوري من المدرسة إذا لم يكن يحمل الإقامة! لكم أن تتخيّلوا هذا التصعيد الذي تزامن مع نبأ وفاة اللاجئ السوري أحمد الحللي في فرع فلسطين الأسد بعدما رحلته السلطات اللبنانية إلى سورية، مع عدم معرفة مصير 126 سورياً جرى تسليمهم بالطريقة نفسها، ولم يُعرف مصيرهم بعد، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
أحمد الحللي هو الضحية الذي وقع بأيدي السلطات اللبنانية أخيراً، وقد لا يكون الأخير، مع شهيّة الحكومة للتصعيد والتضييق على اللاجئين. ومهما تحدّثنا عن واقع السوريين هناك نكاد لا ننتهي، فالحال كما هو منذ سنوات: مداهمات واعتقالات بالجملة، وطرد اللاجئين من المخيّمات، وتعنيف وترهيب وعنصرية من مليشيات محليّة تُمارس عملها تحت غطاء الأحزاب والقانون، كالذي حدث في العام الماضي، حينما جالت تلك المليشيات شوارع بيروت بـ”الماتورات”، واعتدت على محال السوريين، حتى المخيّمات لم تسلم من أيديهم بالدهس والحرق، حتى وصل الأمر إلى تنسيق مباشر وفتح خطوط تواصل بين بعض الأحزاب مع بشّار الأسد لوضع رؤية وخطط وبرامج لترحيل السوريين، وأيضاً تحت ما بات يسمّى “برنامجاً طوعياً” على غرار ما تقوم به تركيا. وليس ببعيد أن ينطلق هذا البرنامج في الأردن ومصر وأربيل، بعد الانتهاء من ذريعة الإقامات.
واقع الأمر، ما يجري لملف اللاجئين في دول اللجوء في البلدان العربية ليس له وصف أو مبرّرات كما تدعي الحكومات، كل ما هنالك أنه ملفٌّ بات باباً للارتزاق الدولي، وملفٌ انتخابي بين الأحزاب، ومصبٌّ لفشل السياسيين في إدارة بلدانهم على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، حتى وصل الأمر إلى إطلاق حملات تحريضية في تركيا ولبنان من منظمّات مجتمع مدني تدعو إلى ترحيل السوريين بذريعة التغيير الديمغرافي، أي أنّ السوريين أصبحوا سبباً في مصائب الكون والطبيعة وتغيير العرق واللون. يحدث ذلك كله أمام أعين المجتمع الدولي الذي اكتفى بالمراقبة وتقديم بعض الأموال هنا وهناك لإسكات الحكومات، كي لا يتكرّر سيناريو 2015 في اللجوء الكبير، متجاهلين ومتعامين عن كل الأسباب التي قادت السوريين إلى الخروج من وطنهم، بل على العكس ذهبت دول أوروبية إلى إرسال بعثات إلى سورية ولبنان من أجل تحديد مناطق “آمنة” في سورية قد تُعدّ، في نظرهم، آمنة تمهيداً لترحيل السوريين إليها؟
أمام هذا الواقع المشحون برياح العنصرية والتصعيد وتفعيل مسار التطبيع بين تلك الحكومات مع النظام السوري، أصبح مصير اللاجئين السوريين مجهولاً، لا حلول ولا وجهة ولا قدرة على التحرّك أو حتى وجود من يطالب بحقوقهم كجهات سورية فاعلة أو لوبي سوري يمتلك التأثير على صنّاع القرار، حتى بتنا نشاهد نتائج البؤس السوري باستسلام بعضهم إلى واقعهم المرير. وبالتالي بدأوا ببيع منازلهم وممتلكاتهم للبحث عن وجهة وبيئة أخريين، تحترمان الإنسانية وتُقدّران حق السوريين بالعيش في أي بقعة من هذا الكون.
أمام هذا كله، لا بد من التأكيد على بعض الحقائق: أولاً: أنّ أس مشكلة السوريين في بلاد اللجوء، كتركيا ولبنان ومصر والأردن وأربيل، ليست فقط في عدم وجود قانون يضمن حقهم بصفتهم لاجئين، بل في أنّ تلك البلدان لا تتوفر فيها إرادة سياسية وقانونية لقوننة وضع اللاجئين واستيعابهم، كتركيا مثلاً: هل يُعقل أنّ ثلاثة ملايين سوري لم تنجح الحكومة باستيعابهم وترتيب وضعهم القانوني ضمن تعداد سكاني يصل إلى 82 مليون نسمة؟ بالطبع لا، هي ليست عاجزة، لكنها لا تريد.
ثانياً: وهو أيضاً متعلّق بجذر المشكلة، خروج ملفّ اللاجئين من أيدي المجتمع الدولي، عبر مقامرة دولية وسياسية جرت مع تلك الحكومات، وتسليم رقابنا للوزارات الداخلية ودوائر الهجرة، مقابل تقديم بعض الأموال والمنح ومنع السوريين من الوصول إلى دولهم، وهو الأمر الذي جعل من ملف اللاجئين دكّاناً للشحاذة وأداة ابتزاز دولية بين الأحزاب والدول مع المجتمع الدولي لجني أكبر قدر ممكن من الأموال، والتي باتت تُسرَق من دون رقيب أو حسيب.
ثالثاً: عدم وجود جهة دولية رقابية لمراقبة الحكومات ومحاسبتها في ملف اللاجئين، جعل من تلك الدول تسنّ قوانين وتُسخّر أخرى بما يتناسب مع مصالحها المحليّة والدولية، بمعنى أن تلك الدول أصبحت لا تتعامل مع السوريين وفق القوانين الدولية أو قوانين حقوق الإنسان الخاصة بمناطق النزاعات، بل تعاطت مع الملفّ وفق دستورها المحلّي، واختارت ما يناسبها للتضيق على اللاجئين.
رابعاً: تسييس الملف دولياً جعل من السوريين ورقة مساومة بين الدول المنخرطة في الصراع ومحطّة لمقايضات جانبية، حيث تنظُر بعض الدول إلى الجموع السورية الكبيرة لديها ورقة ضغط وابتزاز على دولة أخرى، بغية مصالح خاصة تحدُث على حساب مصير السوريين، وهذه بحد ذاتها جريمة كبرى وكارثة لا يشعر بها إلّا من اضطُرّ للنزوح أكثر من مرة.
خامساً: غياب وجود النصير السوري من مؤسّسات وكيانات رسمية معارضة، سواء في سورية أو في دول أوروبا، قاد إلى تعاظم المظالم بحق السوريين، بل إن دولاً استخدمت تلك المؤسسات لتمرير أجندتها، كي لا تكون هي الجهة الرسمية المعرّضة للاصطدام مع السوريين.
أخيراً: يمكن القول إنّ السوريين ليسوا بخير في كل مناطق وجودهم، وبدأت مشاعر البؤس والقلق والمظالم تتعاظم، لا سيما بعد الحديث عن المصالحة بين أنقرة ودمشق، وإنْ لا يحمل هذا المسار في طياته مقوّمات نجاحه، بسبب تعقيد الملفات وتضارب المصالح بين الدول. ولكن بمجرّد طرح الملف خلف الكواليس فهو كافٍ لإثارة بركان من الخوف والقلق عند ملايين السوريين والذين باتوا يشعرون بأنهم أمام صفقة أخيرة لبيعهم ضمن البازار الدولي وتصفية قضيتهم على حساب مصالح الدول الضامنة والتي ادعت نصرتهم وحمايتهم منذ العام 2011.
معضلة اللاجئين السوريين معروفة لدى الجميع وحلّها معلوم أيضاً، طبّقوا قرار مجلس الأمن 2254، نضمن لكم عودة السوريين دفعة واحدة من دون رجعة إليكم، حينها سنترككم لمصائبكم ونراقب كيف ستعالجونها من دون وجود السوريين؟
* صحفي سوري
المصدر: العربي الجديد