الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سنوات فرنسا العجاف وانعكاسات حرب غزة

رياض معسعس *

رحم الله الرئيس الراحل فرانسوا ميتران الذي عندما سئل وهو على سرير الموت: “من سيأتي بعدك؟ أجاب: بعدي سيأتي جاك شيراك، وبعد شيراك أي كان” ويقصد أن زمن الزعماء الكبار سينتهي برحيل شيراك. ميتران هذا “الوحش السياسي” كما وصفه صهره اليهودي من أصل جزائري (زوج أخته) “روجيه حنان” كان رجلاً اشتراكياً كارزمياً بعيد البصر والبصيرة، فبعد شيراك كما تنبأ جاء الرئيس نيكولا ساركوزي (كان من المقربين من شيراك وخانه مع “إدوارد بالادور” المنافس، واتُهم بتلقي أموال من القذافي).

سيف الإسلام:

ففي مقابلة أجريتها خلال الحرب على ليبيا مع نجله سيف الإسلام صرح أن ساركوزي “المهرج” (كما وصفه)، تلقى أموالاً من والده وعليه أن يعيدها، وقد وقف ساركوزي وزوجته كارلا بروني أمام المحاكم الفرنسية بهذه التهمة)، وربما هذه التهمة أضرت بترشحه للرئاسة في الفترة الثانية، تبعه الاشتراكي فرانسوا هولاند، وهو من منطقة شيراك نفسها (كوريز)، (تم تأييده من قبل شيراك نكاية بساركوزي الذي خانه) لكن فترة رئاسته كانت باهتة ما أثر سلبا على الحزب الاشتراكي في الانتخابات الذي تحول إلى حزب ثانوي بعد أن كان الحزب الأول في فرنسا، (لاحقت هولاند بعض الفضائح العاطفية حيث تخلى عن أم أولاده سيغولين رويال، وجلب عشيقته الأولى فاليري تريفايلر إلى قصر الإليزيه التي خانها بدورها مع الممثلة جولي غايت التي كان يتخفى ليلاً ليذهب لملاقاتها وهو يمتطي دراجة نارية)، هولاند لم يتمكن من هزيمة المرشح إيمانويل ماكرون الذي يعتبر من اليمين الوسط، والمدعوم من آل روتشيلد حيث كان يعمل في أحد بنوكهم، وبدأ مشواره مع ساركوزي اليميني كمستشار اقتصادي، لينضم فيما بعد إلى هولاند الاشتراكي (الذي عينه كوزير للمالية )، ونجح ماكرون ليكون أصغر رئيس للجمهورية (40 سنة) ضد هولاند منذ عهد نابليون، وأن يكون ثالث رئيس يحكم فترتين رئاسيتين بعد ميتران وشيراك، بعد أن قدم نفسه كمرشح للشباب وأنشأ تيارا باسم “إلى الأمام”.

الفرنسيون بطبيعتهم يعشقون الشخصيات الكارزمية فشخصية نابليون مثلاً المنبثق كجنرال محارب من الثورة الفرنسية، والجنرال ديغول المقاوم للنازية ومؤسس الجمهورية الخامسة، لا يزالان ماثلان في أذهانهم لأنهما صنعا أمجاد فرنسا (نابليون الوحيد الذي يناديه الفرنسيون باسمه الأول نابليون ليس بلقبه بونابرت) منذ فترتي شيراك إلى اليوم تشهد فرنسا تراجعاً على المستوى الدولي وخاصة في افريقيا بعد طردها من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، واقتصادياً بتراكم الديون التي تجاوزت 3000 مليار يورو، وارتفاع الأسعار، ورفضْ شعبي لرفع سن التقاعد، مع زيادة أعداد المهاجرين غير الشرعيين، وصعود اليمين المتطرف، وهذا أخفاق لكل الحكومات المتعاقبة لقد كانت هذه الفترة فعليا فترة البقرات العجاف.

صراع الأحزاب:

إذا عدنا لفرنسا المنتصرة بدعم بريطاني أمريكي في الحرب العالمية الثانية بعد أن احتلت ألمانيا باريس، تصدَّر الحزب الشيوعي كل الأحزاب الفرنسية بسبب انخراطه في المقاومة المسلحة ضد الألمان، وسقطت كل القوى السياسية والعسكرية التي كانت تساند حكومة فيشي والماريشال بيتان المهادن لهتلر.

فبرزت الأحزاب اليسارية بشكل عام، مع صعود الجنرال ديغول كقائد عسكري للمقاومة “اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني” ومؤسس حزب “تجمع الشعب الفرنسي”، بدأت مرحلة ما يسمى بالجمهورية الرابعة التي استمرت لغاية العام 1958 بعد أن سقطت حكومة “غي موليه” اليسارية بسبب حرب الجزائر، وتسلم الجنرال ديغول الحكم وأنشأ الجمهورية الخامسة ووضع دستوراً جديداً لفرنسا، ويعتبر باني فرنسا الحديثة حيث قال في بداية حكمه: “لقد انتهى عصر فرنسا كبائعة خمور والجبن والعطور” ويقصد أن فرنسا ستكون قوة نووية، تنحى عن السلطة في العام 1968 بعد أحداث طلابية وعمالية مُدبَّرة من قِبل الولايات المتحدة حسب بعض المصادر إذ ( قام ديغول في العام 1966 بانسحاب بلاده من الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلسي، وطلب من واشنطن سحب قواتها وقواعدها من فرنسا، ورفض صراعاً محتملاً أن تكون فرنسا طرفاً في صراع حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو، كما أعلن في العام 1965 التخلي عن استخدام الدولار في التسويات الدولية والانتقال إلى معيار ذهبي واحد، وقامت فرقاطة فرنسية بنقل 750 مليون دولار إلى الولايات المتحدة واستبدلها بالذهب، حسب اتفاقية بريتون وودز، وقد خسرت الولايات المتحدة بهذه العملية حوالي 75 طناً من الذهب، وكانت سبباً في نهاية استخدام الدولار بدل الذهب كاحتياطي في المصارف المركزية، والضربة التي أزعجت الولايات المتحدة أكثر من كل ذلك هو قيام ديغول بحظر بيع الأسلحة لإسرائيل واعتبرها هي الدولة المُعتدية على البلاد العربية بعد حرب 1967) لكن ما اصطلح على تسميته بالحزب الديغولي تحول في سبعينيات القرن الماضي إلى حزب التجمع من أجل الجمهورية بقيادة جاك شيراك، وكان الحزب الأول في فرنسا، يتبعه الحزب الاشتراكي بقيادة فرانسوا ميتران، وتراجع الحزب الشيوعي الذي كان يتزعمه جورج مارشيه، ونشأ حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بزعامة جان ماري لوبن الذي سلم ابنته مارين لوبن قيادة الحزب (صديقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين).

حزب الاتحاد:

وكان التنافس قويا بين الديغوليين والاشتراكيين الذي نجحوا باستلام السلطة في العام 1981 برئاسة فرانسوا ميتران، ثم انتصر الحزب الديغولي الذي أصبح اسمه (حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية) في العام 1995 بزعامة جاك شيراك. لكن بعد شيراك وصل الحزب الديغولي إلى الحضيض مع رئاسة نيكولا ساركوزي، وانخفضت شعبية الحزب الاشتراكي مع فرانسوا هولاند، وهذا الأمر شكل فراغاً حزبياً كبيراً حاول إيمانويل ماكرون ملأه بتشكيل حزب هجين “لا يمني ولا يساري” (تجمع شركات ومصارف كبرى) تحت مسمى “إلى الأمام”، لكنها لم تسد الفراغ الذي ملأته الأحزاب المتطرفة يميناً ويساراً فبرز حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبن (الجبهة الوطنية سابقاً) كحزب مهدد بعد أن اكتسب شعبية لا يستهان بها وحقق نجاحات انتخابية أوربية ومحلية، وحزب “فرنسا الأبية” بقيادة جان لوك ميلانشون الذي استطاع أيضاً أن يحقق شعبية كبيرة ونجاحات انتخابية وخاصة في الانتخابات البرلمانية والتشريعية في فرنسا وجاهر بتأييده للقضية الفلسطينية معتبراً ما يحصل في غزة هو إبادة جماعية.

معضلة اليمين المتطرف:

في بعض الأحيان يكون نجاحك سبباً في هزيمتك، فنجاح حزب التجمع الوطني المتطرف بقيادة “غوردن بارديلا” ( 28 عاماً، ولا يمتلك حتى شهادة ثانوية، وتم تعيينه من قبل مارين لوبن كرئيس للحزب وكان مرشحاً ليكون رئيس وزراء فرنسا) بالانتخابات الأوروبية على باقي الأحزاب الفرنسية دق ناقوس الخطر، وخاصة لدى حزب الرئيس ماكرون الذي سارع بحل البرلمان لتعاد الانتخابات التشريعية بحسابات مبنية على المجهول، فاعتقاد ماكرون أنه سينجح بأغلبية مريحة تبين أن حساباته في الحقل لم تطابق حساباته في البيدر، ففي الجولة الأولى نجح اليمين المتطرف بإحراز النسبة الأعلى من الأصوات، وجاء اليسار بقيادة ميلانشون في المرتبة الثانية، بينما جاء حزب ماكرون في المرتبة الثالثة، فدق ناقوس الهلع. لكنه لم يُفلح في كسب أصوات جديدة، بل أعطى فرصة ذهبية لليسار المتطرف الذي أصبح الأول في الدورة الثانية (180 مقعداً)، وحلت الماكرونية المرتبة الثانية (168مقعداً)، بينما هزم اليمين المتطرف بتراجعه إلى المرتبة الثالثة (143 مقعداً)، وذهبت أمال “جوردان بارديلا” (الذي يسحر الفتيات بابتسامته الجذابة، وكالحرباء انتهازي من الدرجة الأولى كما وصفته صحيفة لوموند) لتسلم رئاسة الوزراء.

وأسباب إخفاق ماكرون وخسارته في هذه الانتخابات هو الاهتراء السياسي، وإخفاقه في طرح حلول للأزمات الاجتماعية، وتصاعد الاحتجاجات (احتجاجات السترات الصفراء خاصة) غلاء المعيشة، وأيضاً مواقفه من حرب غزة المؤيدة لإسرائيل، ورفضه الاعتراف بالدولة الفلسطينية (مع أن فرنسا كان لها مواقف مشرفة من قبل ديغول وشيراك وحتى ميتران الذي كان أول من استقبل الرئيس ياسر عرفات، بالنسبة للقضية الفلسطينية) إذ أن ما يشاهده المواطن الفرنسي من فظائع تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني جعلته يغير قناعاته التي كانت مبنية على حملات إعلامية مركزة وهادفة لتشويه سمعة الفلسطيني بشكل خاص، والعربي المسلم بشكل عام ووضعه في خانة الإرهاب. بينما نجح اليسار المتطرف المُدافع عن حقوق الفلسطينيين، ورفع نائبه العلم الفلسطيني في البرلمان، وصرح ميلانشون عقب فوزه فوراً أنه سيعترف بالدولة الفلسطينية، نتائج هذه الانتخابات لم تعطِ أي حزب الإمكانية للحصول على أغلبية مطلقة التي تحتاج لـ 289 مقعداً من أصل 577 مقعداً عدد مقاعد البرلمان، وهذا ما سيدفع الأطراف المختلفة إلى البحث عن تحالفات مع أحزاب أخرى أحرزت عدداً قليلاً من المقاعد في البرلمان في هذه الانتخابات ولن تظهر النتائج قبل شهر أيلول/ سبتمبر بعد أن تثبت ماكرون رئيس وزرائه “غابريل أتال” في منصبه.

المستوى الأوروبي:

وعلى المستوى الأوروبي بعد صعود اليمين المتطرف في إيطاليا وهولاندا، واليسار في بريطانيا، واليسار في فرنسا، تبدو أوروبا اليوم أكثر انقساماً من أي وقت مضى. بالنسبة لصعود اليمين المتطرف، وبالنسبة لمواقفها المتضاربة بالنسبة للقضية الفلسطينية وحرب غزة والاعتراف بدولة فلسطين. وهذا ما يُسعد روسيا، وأمريكا معاً.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.