(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثالثة عشرة من الجزء الثاني– بعنوان: (عندما تهدد الرأسمالية تموت الديمقراطية ويبرز العنف).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”
(5)
عندما تهدد الرأسمالية تموت الديمقراطية ويبرز العنف
تهدف الثورة الاشتراكية إلى تحرير الإنسان من الضياع وتحرير المجتمع من الاستغلال والخروج به من الصراع الدائم الذي يُسببه هذا الاستغلال. وهذا التحرير الإنساني، لا يتناول الإنسان الكادح وحده، بل يتناول كل إنسان، فالرأسمالي أيضاً يضيّع إنسانيته في استغلاله، وهو عبد للآلة التي يمتلكها، والتي أصبحت بذاتها تخلق شروطاً وحاجات لا يستطيع أن يتحكم هو بها، وهو عبدٌ للمال «الذي يجلب المال»، ويحل محل جهد الإنسان وعقله.
فالمال والآلة، من بين أدوات القسر والاستبداد الخفي اللذان يقوم عليهما المجتمع الرأسمالي، وعلة القسر هنا، أنهما في يد الأقلية وأنهما يعطيانها سلطة على المجتمع، ويعطيانها القدرة على تضييع حرية الأكثرية وعلى تزييف إرادتها. وهذه الحقيقة تثوي خلف الليبرالية البورجوازية وخلف جميع مظاهرها في البرلمان والحكم وأجهزة الموظفين والبوليس.
عندما صعدت البورجوازية إلى السلطة، رفعت معها شعار الليبرالية، الحريات العامة والحرية الاقتصادية، وأقامت نوعاً من التوازن في المجتمع وفي الدولة، يضمن للرأسمالي أن يوسع استثماراته، على أنها إنعاش لاقتصاد الوطن وزيادة لثروة الأمة، ويضمن له جميع وسائل السلطة والاستئثار، ويضمن للعامل أن يعيش قوت يومه، ويضمن للجميع حق التصويت في الانتخابات، هذا ما دامت البورجوازية واثقة من قوتها وسلطتها، ومن قدرتها على أن توجه هذه الحريات لصالحها، وأن تجعل من يمارسون حرية القول، يخدمون سلطتها وبقاءها، ومن يمارسون حرية الانتخاب، ينتخبونَ غالبيةً تخضع لنفوذها.
أما عند ما يتزعزع التوازن الذي تقيمه البورجوازية (ويظل هذا التوازن دوماً واهياً في الدول المتخلفة وفي الدول الحديثة الاستقلال، لما في رأسماليتها الوطنية من تزييف واصطناع وعمالة) وعندما يهدد صعود الجماهير نحو الاشتراكية ونحو الديموقراطية السياسية والاقتصادية، مصالح الرأسمالية بشكل صريح ومكشوف، تموت عندئذ ليبرالية البورجوازي، ويبّرز طابع القسر والعنف الذي كان خفياً ليأخذ شكله العلني السافر. إنه لم يعد ذلك الاستبداد المكتوم الذي تمارسه الآلة العمياء والمال المتداول، بل هو صراع مكشوف بين العامل وبين مالك وسائل الانتاج، بين الشعب وبين مستغليه، بين الجماهير وبين السلطة المُسخرَة لمصالح الرأسمالية. وعندما يخاف الرأسمالي من صعود الشعب يجد نفسه بحاجة لسلطة وسلاح وقسر ونظام بوليسي، لا إلى برلمان وحرية وانتخابات.
كان شعار الرأسمالية عند ما صعدت في العالم: اتركوا الاستثمار حراً، واتركوا التبادل التجاري من غير قيد، إن المنافسة تولد الحركة وتقيم التوازن وتحقق الازدهار.. وكانت لها حكمتها المأثورة «اتركوا الناس يعملون واتركوا الأشياء تمر»؛ هذا هو شعار الليبرالية، المذهب الحر في الاقتصاد.
والرأسمالية في بلادنا، وإن لم تكن تحمل أية أصالة أو بناء جذري في أرض الوطن (إذ هي نشأت وتكونت كسمسارة وعميلة للرساميل والشركات الأجنبية) وقد وجدت نفسها في البداية مضطرة لأن تحتمي وراء واجهة من الديمقراطية والبرلمانية، كي تحافظ على حريتها في الاستثمار والتبادل. وتسربت الى الحركات البورجوازية الوطنية، وكان لها الدور الأول في توجيه الحكم والسيطرة على الأجهزة السياسية الحاكمة، منذ بداية العهد الاستقلالي. لقد ناضل الشعب وضحى كثيراً ليحصل على الاستقلال، ولكن الرأسمالية هي التي جاءت تخص نفسها بثمار الاستقلال، بعد أن تكونت رساميلها، من الاحتكار والتواطؤ أيام الحرب العالمية الثانية. وبعد الاستقلال استمرت سياستها الاقتصادية في التوسع والامتداد، سواء في الداخل أو في الارتباطات الخارجية، منطلقة من تكوينها الأساسي كسمسارة ووسيطة للاحتكارات الاجنبية.
ومع ذلك كله، فقد استطاعت هذه الرأسمالية (المسماة بالوطنية)، بعد أن توفرت لها شروط السيطرة على الأجهزة العليا للحكم وعلى توجيه السياسة الاقتصادية لمصالحها، استطاعت أن تمتد وتتسع وأن تتلاءم مع أشواط من التطور في البلاد. ولكنها ظلت دوماً بحكم جشعها وتكوينها العميل بعيدة عن أن تُرسخ قاعدة وطنية لاقتصادها، وعن أن تتجاوب في شيء مع الحاجات والضرورات التي أخذت تنمو وتتكون عند الطبقات الشعبية. فكان لا بد إذن من أن يتزعزع بسرعة التوازن السياسي الذي خلقته هذه الطبقة الواهيةَ التكوين. وعندما وجدت نفسها أمام يقظة الجماهير، وأمام الحاجات المُلحة للشعب، راحت تدور من حولها وتتآمر عليها بمختلف الوسائل ولتُقيم ضرباً من التوازن عن طريق الأجهزة السياسية والحكم، لتفرض استمرار نفوذها وسيطرتها، ولتوفر لنفسها حماية بوليسية ضد الشعب.
وكان هناك برلمان وانتخابات، ولكن الرأسمالية المتحالفة مع العشائرية والاقطاع استطاعت أن تجعل من البرلمان ومن الحكم، في أكثر الظروف، تكويناً مغلقاً تستأثر به. وكانت قادرة دوماً على تزييف إرادة الشعب- بصورة مباشرة أو غير مباشرة- وعلى استغلال سلطتها وسلطات الدولة وسلطان المال وجميع ظروف التخلف (من جهل وعشائرية وطائفية واقليمية) لتفرض نفوذها، وكانت القوانين السائدة تساعدها على مثل هذا التزييف، وعندما كانت تعوزها الوسائل، كانت تعمد إلى التزييف المباشر (كما حدث مثلاً في انتخابات عام ١٩٤٧، عندما قامت سلطات الدولة بتزوير الانتخابات في دمشق بشكل سافر).
إن الطبقة البورجوازية، عندما تقول بالليبرالية والحرية، إنما تُقيم ليبراليتها على نوع من التزوير للديموقراطية ولإرادة الجماهير في كل مكان، فهي تقول بحكم الشعب وهي التي تملك جميع وسائل السلطة والنفوذ والمال، التي تجعل الحكم خاضعاً لها ولزبانيتها. ولكنها تقدم للشعب بالمقابل، بعض التعويضات، وتحت الضغط الشعبي، تستسلم إلى بعض التنازلات، وإلى ترضيات وتحالفات مع بعض من القوى المعارضة لها، ويبقى استبدادها على هذه الصورة خفياً يلعب من وراء ستار، لما تملكه من وسائل التوجيه والتأثير، ولما تستطيع تسخيره لمصالحها من قوى.
فالرأسمالية في الغرب لها خططها البعيدة، فهي تبني سلطتها من خلال سياسة في البناء تقوم لصالحها ولصالح استمرار نفوذها. أما الرأسمالية في بلادنا المتخلفة والحديثة التكوين في بنائها الاقتصادي الصناعي فهي لا تفكر حتى بالعمل البعيد المدى وهي لا تريد ان تتنازل أو أن تتزحزح عن سلطتها وتسلُطها قيد أنملة، إنها تريد أن يكون الحكم لخدمة مصالحها وحدها. إن لها وسائلها غير المباشرة في شراء كبار الموظفين وفي شراء المثقفين والمختصين بالدراسات الاقتصادية، ولها وسائلها في تعميم الخُلق البورجوازي النفعي والوصولي عند الكثيرين، وهي بالمقابل دوماً خائفة، تريد أن تثرى وأن تربح ربحاً فورياً وسريعاً، مستقبلها دائماً محدود في سنوات قليلة، ومشاريعها تقوم على الإنتاج الذي يتلاءم مع هذه الخطة في الكسب السريع، إنها كاللص الخائف الذي يدخل البيت ويريد أن يحمل منه بسرعة أثمن ما يمكن أن تقع عليه يده. ولهذا فان الطبقة الرأسمالية هنا لم تتمسك بالديمقراطية البورجوازية، الليبرالية الاقتصادية والسياسية، بل كانت تتآمر عليها دوماً، كلما وجدت أن صعود الشعب وتفتح الوعي ودخول قوى جديدة إلى مسرح النضال السياسي، بدأ يُهدد طرفاً من مصالحها واستغلالها.
لقد توالت الانقلابات العسكرية في هذا البلد، وكانت تأتي وكأنها تعبير عن نقمة الشعب على استبداد الطبقة البورجوازية وخياناتها وآثامها وتزييفها للحكم ولإرادة الشعب. ولكن الطبقة الرأسمالية كانت تعرف دوماً كيف تتحالف مع البيروقراطية العسكرية وكيف تُغريها بالاستبداد، لتُنكل بالقوى الشعبية الصاعدة، وعرفت كيف تُهيء لانهيارها، لترُد الاعتبار لنفسها وللأجهزة السياسية التي تعمل بإرادتها وبوحي من مصالحها.
وهكذا فإن حكم حسني الزعيم وحكم أديب الشيشكلي، كانا سبيلاً من سبل التفجير الكاذب للنقمة الشعبية، وكانا سبيلاً لرد الاعتبار للطبقة البورجوازية التي أخذت تهوي. وكانت سياسة الاستعمار دوماً وراء هذه الخطط.
ولكن جماهير الشعب التي تفتَحَ وعيها من خلال الصراع الطبقي، والتي عرفت من معاناتها اليومية ما تقوم عليه الديمقراطية البورجوازية من زيف وتمويه، والتي عرفت كيف تسلطت الرأسمالية على الحكم والبرلمانات، وخبِرَت ما في ليبرالية البورجوازية من استبداد فعلي ومن استئثار ومن تضييع لحرية الإنسان، إن هذه الجماهير نهضت تناضل ضد هذا التزييف، ونهضت تطالب بديمقراطية شعبية وبربط الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية، وأخذت تكافح في سبيل إلغاء الاستغلال، وإزالة تسلط الرأسمالية على الحكم وعلى البرلمانات..
والرأسمالية عندما وجدت نفسها أمام هذا الصعود الشعبي، أمام تهديد مباشر لاستمرار نفوذها ومصالحها الاستغلالية، عندما رأت قوى تتمثل في طبقة عاملة أخذت تعي مصالحها وقوتها. وأمام حركة اشتراكية تتمثل فيها مصالح الطبقات الشعبية الكادحة، وفي مواجهة هذه الظروف ماتت ليبراليتها، ماتت الديمقراطية البورجوازية، وأصبحت بحاجة لسلطة بوليسية ولنظم استبدادية تحميها، وكانت عندما يعوزها الأمر تلجأ إلى حبّك المؤامرات وإلى استعداء الرجعية العربية وإلى التحالف مع الاستعمار.
إن الكشوف الثمينة التي قُدمت للشعب، بفضح عدد من المؤامرات بدءاً من محاكمات الشهيد عدنان المالكي، إلى الكشف الأخير الذي قُدم للشعب علانية في بداية انقلاب ۲۸ آذار/ مارس، أبرزت حقيقة تكوين هذا الذي يسمونه: «الرأسمالية الوطنية» وما هي روابطها وما هي «وطنيتها»؟!
والخلاصة، إن الرأسمالي لا ينشد إلا حكم طبقته، لا يهمه إلا استمرار استغلاله وهو على استعداد للتحالف الشيطان في هذا السبيل.
إن الطبقة الرأسمالية عندما وجدت نفسها أمام تهديد الاشتراكية، انضوت حول حكم الفرد وراحت تُغريه بشتى الوسائل لضرب الحركة الشعبية الصاعدة. ولكن هذه الطبقة تحالفت مع جميع القوى، وتآمرت مع جميع المتآمرين لضرب الوحدة، عندما سار حكم الوحدة في طريقٍ مُعارضة لمصالحها. وحاولت أن تتقدم كمُنقذة بعد الانفصال، وأن تطالب الشعب بالعودة للتعقل والاستسلام لحُكمها، الذي يحقق لها النعيم والحرية، وبشرته من جديد بالديمقراطية.
إلا أن الرأسمالية في هذا القطر، وجدت نفسها بعد الانفصال أمام تيار شعبي نضجت عنده المطالب الاشتراكية أكثر من ذي قبل، وهو لا يريد عودتها ولا العودة إليها. ووجدت أن هذه المطالب قد تعززت بتجربة، وأصبحت الجماهير تتطلع من خلالها نحو آفاق أوسع، وأصبحت لها ملامح نظرية في الوحدة والديمقراطية والاشتراكية، تدلها إلى طريق العمل والنضال، فماتت الليبرالية من جديد، وراحت الرأسمالية تلعب وتتآمر، وراحت تُغري السلطات بالاستبداد والإرهاب، إنها هي التي تمسكت ومازالت تتمسك بالديكتاتورية سافرة أو خفية، إنها هي التي تنادي الأجهزة البوليسية للتدخل ضد الشعب، تحت ستار مكافحة «الناصرية»، إنها هي التي تطالب بالكبت والعنف. والاستبداد الرأسمالي الذي كان خفياً وثاوياً خلف ستار الليبرالية البورجوازية، قد أصبح بعد الانفصال صريحاً واضحاً يواجه الشعب في كل مكان.
إن ضغط الرجعية والرأسمالية هو الذي يُهدد المجتمع بالانفجار. إن الشعب ليس هو الذي يبدأ العنف، وهو لا يطلبه لذاته كعنف ولكنه عندما يكتشفه عارياً في طبيعة المُستغلين وفي طبيعة الأشياء، يضطر إلى اختيار طريق العنف، ولا يرى سبيلاً إلى التحرر إلا في تحطيم جميع القواعد التي يقوم عليها استبداد الطبقة الرأسمالية واستغلالها. وأمامنا تجارب التاريخ وأمامنا نماذج من ثورات الشعوب، تؤكد هذه الحقيقة.
……………………………..
يتبع.. الحلقة الرابعة عشرة بعنوان: (ثورة الجزائر في طريقها العربي والاشتراكي).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”