بكر صدقي *
ثمة مساران للتطبيع بين الحكومة التركية ونظام الأسد، أحدهما إعلامي والآخر سري يدور بين لجان من الطرفين كما نفهم من تصريحاتهما، يقوم بدور الوسيط فيه كل من روسيا والعراق.
على المسار الإعلامي رأينا تصريحات متتالية من أردوغان ووزير خارجيته تفصح عن استعجال تركي كبير مقابل تباطؤ أسدي مع اشتراطات يرتفع سقفها باطراد. في حين تحدثَ الرئيس التركي في آخر تصريحاته عن تكليفه وزير خارجيته بملف التطبيع وكأنه فقد الأمل باجتماع قريب مع الأسد كما كان يأمل، وفيما قد يشير إلى المسار الآخر «السري» الذي يكاد لا يتسرب منه شيء.
تراوحت ردود الفعل في مناطق السيطرة التركية في شمال سوريا بين الغضب والتوجس من أن «تبيعهم» تركيا لنظام الأسد مقابل التخلص من أكبر عدد من السوريين المقيمين على أراضيها بعدما تحول وجودهم إلى مشكلة لا تعرف الحكومة طريقة لحلها غير الترحيل الموصوف بـ«الطوعي».
بموازاة ما نفترض أنه مسار تفاوض سري على التفاصيل، حرص الجانب التركي على محاولة طمأنة المعارضة السورية المتعاونة معه بشأن عدم تخليه عنهم، ومن جهة أخرى تأكيد أن تركيا لن ترغم أحداً من السوريين على العودة إلى سوريا، كما قال وزير الخارجية هكان فيدان في تصريحات إعلامية قبل أيام.
أما وزير الداخلية فقد سبق وأوضح أن الترحيل يشمل فقط «المخالفين» وهي عبارة مطاطة لا تقتصر على مرتكبي مخالفات قانونية كالجرائم أو الجنح، بل تشمل كل من قد يخالف شروط الحماية المؤقتة حتى إذا كان الأمر خارج سيطرته تماماً، بسبب التعقيدات البيروقراطية أو الاضطرار للعمل بغير إجازة عمل لا يمكن الحصول عليها أصلاً أو مشكلات تتعلق بعنوان الإقامة أو السفر بين الولايات وغيرها من التعقيدات.
واجتمع رئيس جهاز الأمن الوطني “إبراهيم كالن” مع قادة الفصائل المرتبطة بتركيا في الشمال السوري ليؤكد لهم أن تركيا لن تتخلى عنهم وفق ما نقله موقع «تلفزيون سوريا» الذي يبث من الأراضي التركية.
وخرج بشار الأسد عن صمته المديد إزاء الاندفاعة التركية للتطبيع مع نظامه، فقال بمناسبة إدلائه بصوته في انتخابات «مجلس الشعب» إن على تركيا أن تتعهد بسحب قواتها العسكرية من الأراضي السورية وتساهم في محاربة الإرهاب، في خفض لشرطه السابق بشأن انسحاب تلك القوات، وفي تصعيد لشرطه السابق الذي اقتصر على وقف تركيا دعمها للمنظمات الإرهابية.
ربما يعكس هذا التذبذب في الشروط التي يعلنها نظام الأسد مدى التقدم في المفاوضات السرية أو المراوحة في المكان، إضافة إلى تعبيرها عن ارتياح النظام وعدم استعجاله، لأنه يدرك العوامل الضاغطة على الحكومة التركية التي تدفعها للاستعجال وربما لشيء من الارتجال المحفوف بمخاطر الوقوع في أخطاء قد تكون مكلفة.
فمن جهة أولى لم تشهد الأسواق التركية تحسناً في مستويات التضخم، بل شهد الشهران الأخيران تصاعداً جديداً مقلقاً فيها، بعد مرور أكثر من 14 شهراً على برنامج وزير المالية “محمد شمشك” الذي من المفترض أن هدفه الأول هو خفض مستوى التضخم وتحقيق استقرار لسعر صرف الليرة التركية أمام العملات الصعبة، وهو ما استمر أيضاً في الهبوط وإن ببطء شديد قياساً إلى السنوات السابقة. كما أن قرارات رفع الأجور والرواتب في القطاع العام، وبالأخص الرواتب التقاعدية، قد خيبت الآمال وباتت تؤثر بصورة جدية على شعبية السلطة، الأمر الذي تجلى بوضوح في نتائج الانتخابات المحلية وفي استطلاعات الرأي التي تلتها.
وتصاعدت موجات العنف ضد السوريين بصورة باتت تهدد السلم الاجتماعي وتمنح قوى المعارضة مزيداً من الأفضلية في تجاذباتها مع السلطة، بخاصة بعدما تمكنت الأولى من اجتذاب الثانية إلى خطها بشأن وجوب ترحيل اللاجئين السوريين بواسطة التفاوض مع نظام الأسد. كما أن تحالف السلطة مع حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي ليس في أفضل أحواله، على رغم محاولة أردوغان موازنة مشكلاته غير المعلنة مع بهجلي بالاستجابة لمبادرة زعيم حزب الشعب الجمهوري بفتح حوار بين الخصمين المزمنين.
وقبل يومين نشرت يومية «T 24» الإلكترونية حواراً سياسياً شاملاً مع رئيس حزب النصر أوميد أوزاغ الذي اشتهر بعدائه للسوريين وغيرهم من النازحين من بلدان الصراعات الدامية كالعراق وأفغانستان وغيرهما. قال أوزداغ المتحدر من عائلة مهاجرين من مقاطعة داغستان إنه يمكن تحقيق عودة آمنة للسوريين المقيمين في تركيا بعد أن يصدر نظام الأسد عفواً عاماً عن معارضيه في المجموعات المسلحة أو الكيانات السياسية.
يذكرنا اقتراح أوزداغ بشأن العفو العام بما أشاعته بعض الصفحات الموالية لنظام الأسد على وسائل التواصل الاجتماعي، في إطار «تغطيتها» اليومية لمسار التطبيع التركي مع النظام، من قرب صدور عفو رئاسي يكون «الأوسع والأشمل في تاريخ سوريا» على حد تعبير تلك الصفحات.
الواقع أن نظام الأسد الذي سبق وأجرى «مصالحات» مع قادة بعض فصائل محافظة درعا الجنوبية في العام 2018، بإشراف روسي، لن يضيره في شيء تكرار هذه التجربة مع فصائل الشمال، ليتكفل الطيران الروسي بضرب الفصائل التي قد ترفض المصالحة. وقبل أقل من سنتين قام أحد أبرز قادة فصائل الجنوب المتصالحة المدعو أحمد العودة بزيارة إلى تركيا، قالت وسائل إعلام سورية معارضة إن الهدف منها هو نقل تجربته إلى السلطات الأمنية التركية للاستفادة منها في تقرير مصير فصائل الشمال السوري التابعة لتركيا استعداداً لتقدم عملية التطبيع بين تركيا ونظام الأسد.
نظام الأسد الذي لا يملك الموارد البشرية والاقتصادية لاستلام «التركة التركية» سواء فيما خص استعادة مناطق السيطرة التركية أو استقبال قسم كبير من السوريين المقيمين في تركيا، لا شيء يمنعه من إصدار عفو عن معارضين تائبين وفصائل متصالحة، بضغط تركي، في إطار «إجراءاته» المتسارعة، في الأشهر الماضية من السنة الحالية، التي يريد تقديمها على أنها «الحل السياسي» أو مرحلة انتقالية نحوه، آملاً من ذلك أن يطوي المجتمع الدولي قرارات مجلس الأمن التي تنص على «الانتقال السياسي».
من المحتمل أن عملية التطبيع ستحتاج إلى وقت أطول بكثير مما يظن الجانب التركي ويأمل، وستتوقف على عوامل كثيرة متشابكة محلية وإقليمية ودولية، في الوقت الذي يضيق فيه الوقت أمام الحكومة التركية قبل الاستحقاقات السياسية الداخلية القادمة.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي