الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ثورة يوليو وإنصاف الفقراء

طلعت إسماعيل *

فى مثل هذه الأيام قبل 72 عامًا، شهدت مصر حدثًا استثنائيًا، أو قل زلزالًا سياسيًا قويًا غيّر وجه الحياة على أرض وادي النيل، وامتد تأثيره إلى محيط مصر العربي والإفريقي، وبلغ صداه قارات الدنيا الخمس، فقد كانت البلاد على موعد مع موّلد عالم جديد ظل يتشكل في أحشاء مصر منذ أن دنست أقدام الاحتلال البريطاني صعيد مصر الطاهر 1882، وقبل أن يأتيها مخاض ثورة 23 تموز/ يوليو 1952.

ظل المصريون لعشرات السنوات، يكافحون من أجل الاستقلال عن محتل غاصب، ونظام ملكي فاسد، وأحزاب سياسية تتصارع على الحكم على حساب شعب ينهشه الثلاثي الشهير «الفقر والجهل والمرض»، بينما ينعم مجتمع النصف في المئة، بثروات البلاد التي ظنوا أن معينها لا ينضب.

جاءت ثورة 23 تموز/ يوليو، بينما كانت الروح المصرية تكاد تلفظ أنفاسها، من كثرة الظلم والقهر، فرفعت شعار «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد»، وهو الشعار ذاته الذي استوحته الحشود الغاضبة في ميدان التحرير مع زلزال آخر شهدته مصر في 25 يناير 2011، فهتفت الحناجر: «ارفع رأسك فوق أنت مصري».

وفي مواجهة الثالوث البغيض، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية سارعت الثورة إلى تحديد الملكية الزراعية وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، الذين ظلوا يرزحون تحت سياط من نصّبوا أنفسهم أسيادًا على البشر، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، كما قالها عُرابي فى وجه الخديو، الذي أراد المصريين «عبيدًا» أحسانات أجداده الذين جاءوا من وراء البحار لخدمة طموحهم في الثروة والنفوذ.

لم يكن التعليم، خاصة الجامعي، متاحًا إلا لأبناء فئات محدودة من الشعب المصري، فجاءت الثورة للتوسع في بناء المدارس والجامعات، وأتاحت مجانية التعليم فرصة هائلة أمام أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة للحراك الاجتماعي الذي أتاح لعدد كبير منهم اعتلاء المناصب الكبرى التي كانت حكرًا على أبناء الباشوات والأثرياء، فجاء منهم الوزراء ورؤساء الحكومات، واعتلى قمة الهرم مصري لأول مرة منذ عهد محمد علي.

وضعت الثورة، وقائدها جمال عبدالناصر، أوجاع المصريين نصب عينيها، وفي مواجهة المرض، توسعت في بناء المستشفيات والوحدات الصحية، ووفرت الدواء المُصنع محليًا، و زادت أعداد الطلاب الملتحقين بكليات الطب، ومدارس التمريض، فكان أهالي أي نجع أو حي شعبي يتلقون علاجهم المجاني، على يد أطباء يؤمنون بدورهم لخدمة أهلهم من الفقراء والمحتاجين، ولا يفكرون في الفرار جماعات، وترك أبناء وطنهم تحت سيف العلاج لمن يدفع أكثر.

بنت الثورة ألوف الوحدات السكنية، ووفرت مئات الألوف من فرص العمل، وجعلت من شعار «صنع في مصر هدفًا» فأنشأت المصانع، وعملت على تطوير الزراعة واستصلاح أراضٍ جديدة، وساندت الفلاح على الأرض التي وهبها الله للمصريين على ضفاف النيل، ومنعت عنها الفيضانات السنوية المُدمرة للزروع والمحاصيل، فبنت السد العالي الذي جلب لها المعارك عقب تأميم قناة السويس.

تلك إطلالة يسيرة على بعض مما قدمته ثورة تموز/ يوليو للمصريين، وهي الإنجازات التي يسعى البعض لإهالة التراب عليها، وتحويلها إلى موبقات، فاعتبروا التعليم المجاني نقمة، والعدالة الاجتماعية، وتوفير المسكن وفرص العمل، والعلاج المجاني شرور، والسد العالي الذي حمى مصر من الفيضان، وأدخل الكهرباء إلى القرى والكفور البعيدة، أثم من عمل الشيطان!

وقفت مصر إلى جوار أشقائها العرب في المشرق والمغرب، وناصرت الفلسطينيين، دفاعًا عن أمنها القومي بالأساس، فاتهمها بعض قصار النظر، بخوض الحروب، وجلب الهزائم متجاهلين أن أحدًا لن يتركك تبني أعمدة قوتك في سلام، وأن معاركك الدفاعية فرضت فرضًا، ولم تكن أنت أبدًا مبادرًا بالهجوم إلا لاستعادة حق واسترداد تراب وطني.

لا يفلح شعب، إذا لم يرفع البعض الأخشاب من عيونهم، وأن يروا الحقائق وإن خالفت تصوراتهم، فما حدث على أرض المحروسة غداة 23 تموز/ يوليو 1952، سيظل تأثيره على مسيرة هذا الوطن، أكبر من أن تمحى.

* إعلامي وكاتب مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.