الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

القرار الدولي (2254).. معوّقاته الذاتية والموضوعية

حسن النيفي *

مدخل:

جسّد القرار الدولي (2254)، منذ صدوره في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، مرجعية قانونية لدى السوريين المطالبين بالتغيير والانتقال من طور الاستبداد والحكم الفردي، إلى طور الديمقراطية ودولة القانون، سواءٌ أجاءت هذه المطالبات على مستوى الكيانات الرسمية للمعارضة، أو على المستوى الشعبي العام[1]، وذلك من خلال عملية انتقال سياسي أسماها القرار المذكور: (حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية)[2]. علمًا أن القرار المذكور قد سبقه قراران أمميان (جنيف 1حزيران 2012 – 2118 أيلول 2013 )، وكلاهما يتضمن إقرارًا بعملية انتقال سياسي تتمثّل بتشكيل هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة، تتشكّل بالتفاهم بين النظام والمعارضة، وبناءً عليه، يكون القرار (2254) مُوضّحًا لما جاء في القرارين السابقين وشاملًا لما ورد فيهما بآن معًا، وليس ناسخًا لهما، لأن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن لا تُلغى ولا ينسخ بعضها بعضًا ولا تتناقض، بل يجب تفسيرها والتعاطي معها وفقًا لمبدأ (الأثر التراكمي)، وهي نظرية معروفة في القانون الدولي[3].

وعلى الرغم من الإجماع الدولي الذي حظي به صدور القرار المذكور، حتى عند الحلفاء الدوليين الداعمين لنظام الأسد، فقد ظلّ القرار معلّق التنفيذ، بل ما تزال قيمته الفعلية لا تتجاوز الحبر الذي خُطّ به، فما هي العوامل والأسباب التي حالت دون تحوّله إلى حيّز التنفيذ؟ وهل تكفي إحالة ذلك إلى رفض نظام الأسد الانصياع للعملية السياسية وتمسّكه بالحل الأمني فحسب؟ أم يعود ذلك إلى دور الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن والداعمة لنظام الأسد؟ أم أن السبب يكمن في تناقض المصالح الدولية على الجغرافيا السورية؟ أم أن جزءًا من المشكلة يكمن في طبيعة هذا القرار الدولي كوصفة غير دقيقة لما يجري في سورية؟

الإرهاصات الأولية لمسار التفاوض قبل صدور القرار 2254:

لعل استقالة الوسيطين الأمميين (كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي) من مهامّهما تحمل في طياتها مؤشراتٍ واضحة على عقم العملية التفاوضية، إذ استقال الأول بعد ستة أشهر من تولّيه مهامّه عام 2012، ثم استقال الثاني في شهر أيار/ مايو من العام 2014، بعد أن قاد جلستين جمعتا وفدَي المعارضة والنظام، ولم تفضيا إلى أي نتيجة، ويمكن أن يكون إعلان رأس النظام في سورية ترشّحه لفترة رئاسية في حزيران/ يونيو من العام 2014 ، إيذانًا واضحًا للأخضر الابراهيمي بألّا يبقى شاهد زور على عجز الإرادة الدولية عن تنفيذ القرارات الأممية، إذ بات واضحًا آنذاك أن سير العملية التفاوضية وفقًا للمرجعيات الأممية محكوم بأحد أمرين: إما إجبار نظام الأسد على الانصياع لقرارات الأمم المتحدة من خلال تطبيق البند السابع الذي يجيز استخدام القوة، وهذا ما تتكفل كل من روسيا والصين بتعطيله في مجلس الأمن، وإما اتخاذ موقف موحد وضاغط من الدول الكبرى حيال نظام دمشق، وهذا لا يمكن تحقيقه أيضًا نتيجة تضارب المصالح بين الدول النافذة في الشأن السوري.

وعلى الرغم من العطالة التي وسمت تلك المرحلة من المفاوضات، فإن المسألة السورية ظلّت تحظى باهتمام دولي واسع، ولعلّ مبادرة فيينا التي أطلقتها (المجموعة الدولية لدعم سورية) في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2015 كانت تجسيدًا لهذا الاهتمام الدولي الذي أفضى إلى صدور القرار (2254) آنذاك، إلّا أن هذا الجهد السياسي والدبلوماسي الدولي قد تزامن مع مسارات ميدانية عسكرية، كان لها الدور الحاسم في تعطيل المساعي السياسية الدولية.

مسارات موازية:

1 – مسار عسكري- التدخل الروسي العسكري المباشر:

يمكن التأكيد أن عملية البدء بإفراغ القرارات الأممية من محتواها الجوهري بالتدريج، بغية الإجهاز عليها، لم تكن قائمة عبر الضغوطات السياسية التي يمارسها الحلفاء الدوليون لنظام دمشق فحسب، وأنها ليست نتيجةً لصراع مصالح الدول النافذة في الشأن السوري أيضًا، بل لعل الأهم من ذلك كله هو القوّة العسكرية المتمثلة بالحرب المباشرة التي بدأت بها روسيا منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر عام 2015، مُستهدفةً الفصائل والقوى العسكرية للجيش الحر[4]، بهدف الحدّ من وتيرة الانهيار العسكري لقوات الأسد آنذاك، ومن ثم تمكين نظام دمشق من استعادة معظم المدن والبلدات والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة العسكرية، وبالفعل قد أفضى الاستفراد الروسي العسكري في مواجهة فصائل المعارضة العسكرية، في ظل عدم تكافؤ القوة، إلى تراجع ميداني كبير، بدأ بانتكاسة نوعية تمثلت بسقوط حلب الشرقية في نهاية العام 2016، وقد أعقب ذلك اجتياح الغوطة الشرقية في شباط/ فبراير 2018 ، ثم دخلت قوات النظام مدينة درعا في أيار/ مايو من العام ذاته، وفي شباط/ فبراير عام 2020، تمكنت قوات النظام المدعومة من روسيا من استعادة السيطرة على طريق حلب – دمشق، عبر عملية عسكرية واسعة تمكّن الروس فيها من اجتياح سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان، وقسم من بلدات ريف حلب الغربي، فيما بقيت إدلب وأجزاء من أريافها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا).

ما من شك في أن التدخل العسكري الروسي قد جسّد مفصلًا حاسمًا في سيرورة القضية السورية من جهة تداعياته الكارثية التي لم تكن محصورة في الجانب الميداني والإنساني فحسب، بل من جهة الإصرار الروسي على استثمار منجزها العسكري استثمارًا سياسيًا، ولعل أبرز تلك الاستثمارات هو التأسيس لمسار تفاوضي آخر موازٍ لمسار جنيف، ونعني مسار (آستانة).

2- مسار آستانة:

انطلق مسار آستانة في بداية العام 2017، برعاية ثلاثية من روسيا وتركيا وإيران، وعُقد اللقاء الأول لهذا المسار في (23 – 24 كانون الثاني 2017)، ووُصف هذا المسار إبان تأسيسه بأنه مسار ميداني إنساني، يُعنى بمسائل وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات والمعونات الإنسانية إلى مستحقيها، كما يُعنى بكل ما من شأنه الحفاظ على الاستقرار وعدم استمرار الحرب، ولن يكون هذا المسار بديلًا تفاوضيًا للمسار الأممي، وفقًا للقائمين عليه آنذاك. إلا أن سيرورة مسار آستانة قد أفصحت عن أن ما أنتجه هذا المسار يتحدّد في أمرين اثنين:

الأول أنه بات مسارًا سياسيًا وتفاوضيًا، يراعي مصالح الدول الثلاث (روسيا، تركيا، إيران)، لا المصالح التي تتحدّد على الجغرافيا السورية فحسب، بل المصالح في أماكن أخرى من العالم أيضًا.

والثاني أن روسيا جعلت من هذا المسار غطاءً شرعيًا لمجمل أهدافها العسكرية التي تمثلت في اقتحام المدن والبلدات والقصف الجوي للمنشآت المدنية واستهداف الفصائل العسكرية لقوى المعارضة، وذلك على الرغم من أن جميع المدن والبلدات والقرى التي استهدفها الروس كانت مشمولة بما يسمى (مناطق خفض التصعيد).

3- موقف القوى الفاعلة من القرار 2254:

على الرغم من الإجماع الذي حظي به القرار الأممي المذكور إبان صدوره، فإن طريقة تعاطي كل طرف دولي مع إمكانية تنفيذه ظلّت محكومة بالمصالح المختلفة لتلك الدول.

روسيا – نظام الأسد:

على الرغم من موافقة روسيا -كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن- على القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية، فإن موقفها الفعلي من تلك القرارات تحدّده وتنتجه سياساتها على الأرض، وبناء على هذا التصوّر، تمكن الإشارة إلى أن دعم روسيا العسكري لقوات الأسد، بل حربها المباشرة على السوريين، وسياساتها الرامية إلى إعادة تعويم الأسد عربيًا ودوليًا، ودفعها باتجاه مشاريع إقليمية من شأنها اختراق الحصار وتجاوز القطيعة مع الأسد، كل ذلك كان يرمي إلى إنتاج رؤية لحلّ سياسي، وفرضها كأمر واقع، وتعتمد هذه الرؤية على المحدّدات التالية:

1 – تمكين نظام دمشق عسكريًا، بحيث يستعيد السيطرة الميدانية على كامل الجغرافيا السورية، وذلك وفقًا لمبدأ (حيازة الأرض أولًا ثم التفاوض).

2 – إجراء تعديلات دستورية، أو كتابة دستور جديد يتيح للأسد الاستمرار في السلطة، إضافة إلى حيازته صلاحيات تضمن تحكّمه في مفاصل القرار السياسي للبلاد (وهذا ما يجسّده مسار اللجنة الدستورية في الحالة الراهنة).

3 – تشكيل حكومة جديدة في سورية تضمّ بعضًا من الشخصيات المعارضة، عبر عملية انتقائية من جهة، ومن دون أن يكون لتلك الشخصيات المعارضة دورٌ محوري في إنتاج القرار السياسي. وهذه الخطوة هي البديلة عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، أي ما بات يطلق عليها (البيئة الآمنة).

4 – إجراء انتخابات تتيح للأسد الترشح، في ظل حالة أمنية تضمن لرأس النظام الحالي الفوز الساحق في الانتخابات، كما هو معتاد سابقًا.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن موسكو ترى في المصالحة بين تركيا ونظام الأسد إحدى الآليات التنفيذية التي تستطيع من خلالها تمرير رؤيتها، ولعلها بناء على هذا التصور قد دفعت منذ العام 2021 باتجاه التطبيع بين تركيا ونظام دمشق، وذلك من خلال لقاءات سابقة، كان أولها بين رؤساء مخابرات ووزراء دفاع كلٍّ من روسيا وتركيا وسورية، في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2022 ، تلاه لقاء آخر بين وزراء خارجية كلّ من روسيا وتركيا وسورية، في 10 أيار/ مايو 2023، ولكن المحادثات المشتركة قد توقفت منذ لقاء آستانة 20، المنعقد في 21 حزيران/ يونيو 2023، وذلك بسبب اشتراط نظام دمشق أن يكون الانسحاب التركي من كامل الأراضي السورية شرطًا سابقًا لأي مباحثات مشتركة بين الطرفين، ولكن المساعي الروسية بهذا المنحى ما تزال مستمرة.

وعلى أية حال، حتى لو نجح الروس في تجسير العلاقة بين دمشق وأنقرة، فإن هذا لا يعني أبدًا تجاهل الأطراف الفاعلة الأخرى التي تستطيع تعطيل أي تسوية سياسية في سورية، ونعني بذلك أميركا ثم إيران، نظرًا لنفوذهما العسكري والميداني الذي لا يقل عن نفوذ روسيا وتركيا.

تركيا – الولايات المتحدة الأميركية وتضارب الأجندات:

تزامنًا مع لقاءات المجموعة الدولية لدعم سورية في فيينا، وخلال المشاورات الدولية التي أفضت إلى صدور القرار (2254)، شهدت العلاقات التركية الأميركية تنابذًا واضحًا، تجسّد بردّة الفعل التركية على مبادرة الولايات المتحدة الأميركية للتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) ذي النزعة الانفصالية والإرث العدائي المزمن مع الحكومة التركية، بهدف محاربة تنظيم (داعش) الذي بدا يتغلغل ويمتد عسكريًا ويسيطر على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وقد بادرت واشنطن بخطوة تالية تجسّدت بتشكيل (قوات سوريا الديمقراطية) في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، الأمر الذي دفع تركيا إلى إعادة النظر في سياساتها حيال ما يجري في سورية، إذ إن خشية أنقرة من تعاظم نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي وإمكانيّة تحوّله إلى كيان متاخم لحدودها الجنوبية باتت أولوية تحتل صدارة الاهتمام التركي قبل أي مسألة أخرى. وما عزّز المخاوف التركية ليس سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على أجزاء كبيرة من شرقي سورية فحسب، بل امتدادها إلى غرب الفرات وسيطرتها على مدينة (منبج) في آب/ أغسطس 2016، بعد طرد تنظيم (داعش) منها بدعم من التحالف الدولي، الأمر الذي أسهم في تصاعد المخاوف التركية من سعي حزب الاتحاد الديمقراطي -بعد سيطرته على منبج- نحو الوصول إلى مدينة (عفرين) ذات الأغلبية السكانية الكردية، والتي كانت آنذاك تحت سيطرة (الهيئة الكردية العليا) وهي القيادة المنبثقة عن حزب الاتحاد الديمقراطي. ولمواجهة التمدّد الكردي، مُمَثلًا بقوات سوريا الديمقراطية، قامت تركيا بعدة عمليات عسكرية، بالتفاهم مع روسيا، وبالتنسيق والتعاون الميداني مع فصائل الجيش الحر، تجسّدت الأولى بعملية (درع الفرات 24 آب 2016) وأفضت إلى السيطرة على مدينتي (جرابلس – أيلول 2016)، ثم (الباب – شباط 2016)، اللتين كانتا تحت سيطرة تنظيم (داعش)، وذلك بهدف قطع الطريق أمام قوات سوريا الديمقراطية، ومنعها من الوصول إلى عفرين.

بالتزامن مع سعي تركيا إلى تحصين الجبهات القتالية في مدن وبلدات شمال غرب سورية المتاخمة لجبهات قوات سوريا الديمقراطية، كانت العلاقات التركية الروسية تمضي في تنامٍ واضح، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، وذلك بمقابل تنابذ تركي أميركي لم يحل دونه كونُ تركيا عضوًا في حلف الناتو، وقد أفضى التفاهم المستمر بين موسكو وأنقرة إلى قيام تركيا بعملية عسكرية أسمتها (غصن الزيتون – آذار/ مارس 2018)، أفضت إلى طرد القوات الكردية من مدينة عفرين، وإخضاعها لسيطرة الجيش الوطني بالتنسيق مع الحكومة التركية.

يمكن التأكيد أن تضارب المصالح الأميركية التركية على الأرض السورية قد جسّد منعطفًا خطيرًا في سيرورة المواجهة بين نظام الأسد وقوى الثورة، إذ إن كلًّا من واشنطن وأنقرة تلتقيان في مسألة واحدة، وهي أن مصلحة الشعب السوري قد انزاحت عن حيّز اهتمام الدولتين اللتين أصبح حضورهما فاعلًا في إدارة الأزمة أكثر من كونه مساهمة لإيجاد الحلول، فواشنطن بات هدفها محاربة تنظيم (داعش) عبر التحالف الدولي الذي شكلته، بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية، بالتوازي مع أولوية أنقرة المتمثلة بمحاربة مشتقات حزب العمال الكردستاني في سورية، بالتنسيق مع الجيش الوطني، وكلا الطرفين -أميركا وتركيا- يعدّ معاركه حربًا على الإرهاب، علمًا أن الإرهاب الذي مارسه نظام الأسد بحق السوريين، وما يزال، يفوق أي شكل من أشكال الإرهاب الأخرى، بل يمكن أن يكون هو الجذر الذي تنامت عليه وتغذّت منه شتى أشكال الإرهاب وتنويعاته.

ما من شك أن إزاحة المصلحة الوطنية السورية عن صدارة أولويات الدول ذات النفوذ والانتشار على الجغرافية السورية قد جعل من الأرض السورية مسرحًا لصراع دولي من جهة، وأسهم في تحويل بعض القوى المحلّية إلى كيانات تقاتل بالوكالة عن موكّليها الخارجيين من جهة أخرى، بعيدًا عمّا تقتضيه المصلحة الوطنية من أولويات، الأمر الذي أتاح المجال لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين بالاستفراد بحربهم وتنكيلهم بالسوريين، فضلًا عن تمكين قوات الأسد من استعادة السيطرة على العديد من المدن والبلدات والقرى، ما أدّى إلى موجات متتالية من تهجير ونزوح للسكان المدنيين، تركت خلفها تداعياتٍ إنسانيةً كارثية.

لعل هزيمة تنظيم داعش -وفقًا لواشنطن- لم تُحدث أيّ تغيير في الاستراتيجية الأميركية حيال القضية السورية التي لم ترتق إلى صدارة أولويات واشنطن، بل تبقى جزءًا مُلحقًا بالموقف الأميركي من إيران، ولعل موقف الإدارة الأميركية الراهن من نظام دمشق، والمتمثل في (المراهنة على تغيير سلوك النظام وليس إزالته)، يؤكّد أن الموقف الأميركي من قضايا الإرهاب وتصنيفاته يخضع لمسارات السياسة المتغيّرة والمصالح وليس للمعايير الناظمة لحقوق الإنسان. وتكاد تجليات هذا الموقف الانتقائي، المحكوم بالمصالح النفعية المباشرة، تتكرر حيال القرارات الأممية ومدى الالتزام بتنفيذها، ليس في سورية فحسب، بل في أي مكان من العالم.

وكما باتت القضية السورية جزءًا تاليًا للمواجهة الأميركية الإيرانية، فإن موقف الحكومة التركية من نظام الأسد -كذلك- بات محكومًا بالمواجهة بين أنقرة وحزب الاتحاد الديمقراطي بأجنحته وملحقاته المختلفة في سورية من جهة، ومدى قدرة نظام الأسد على المساهمة في إجهاض مشروع (قسد) الرامي إلى تأسيس كيان كردي لا ترى فيه تركيا سوى مصدر تهديد لأمنها القومي من جهة أخرى، أمّا موقف أنقرة من تطبيق القرارات الأممية، وخاصة القرار (2254)، فيمكن الإشارة إلى أن ثمة قبولًا أوليًا بالتفسير الروسي لفحوى القرار المذكور.

O المعوّقات الذاتية والموضوعية للقرار (2254):

1 – معوقات ذاتية:

لقد قدّمت قوى المعارضة في سورية، بكل أشكالها، قضيتها في المحافل الدولية على أنها قضية شعب انتفض محتجًّا على نظام سياسي مستبدّ، مطالبًا باستعادة حقوقه التي اغتصبها نظام الحكم عبر تجاوزه للدستور والقوانين المنبثقة عنه، فالتشخيص الحقيقي لفحوى المشكلة السورية إذًا يتجسّد بأمرين: وجود الحاكم المستبد، والتجاوز على الدستور والقانون. وبناء على هذا التشخيص، جاءت الوصفة الأممية المتمثلة بالقرارات الدولية التي تقرّ بوجوب حوار تفاوضي بين النظام والمعارضة، يُفضي إلى شراكة فعلية، وهذا ما يجسّده التفسير الحقيقي لمفهوم (هيئة حكم انتقالي تتأسس بالتفاهم بين الطرفين)، إلّا أن هذا التصوّر الأممي لم يجد سبيله إلى التطبيق، فيما بقي نظام الأسد مستمرًّا في إصراره على الحلّ الأمني معتمدًا على مزيد من العنف للإجهاز على خصومه السياسيين، فهل يُكتفى في هذه الحالة بالقول: إن الحاكم المستبد في دمشق لم يمتثل للحل الأممي، أم يوجب علينا العودة إلى مقاربةٍ أخرى لطبيعة المشكلة؟

صدر القرار ( 2254 ) في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أي بعد مرور سنواتٍ كان نظام الأسد قد ارتكب خلالها جرائم فظيعة بحق السوريين، تمثلت باستخدامه سلاح الطيران ورمي البراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين منذ منتصف العام 2012، وتتالت باستخدام السلاح الكيمياوي في الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس عام 2013، فضلًا عن وسائل القتل الجماعي الأخرى، ومنها القتل الجماعي للمعتقلين والمعتقلات داخل السجون، ولعل هذه الممارسات لا يمكن تصنيفها سوى أنها جرائم إبادة ضد الإنسانية، وليست إجراءً وقائيًا لمجرد ردع الخصم السياسي، وبناء عليه فإن الاستمرار في التعاطي مع ما يحدث في سورية على أنه (استبداد سياسي) هو تقزيم للمشكلة، بل تمييع لجوهر قضية السوريين، ذلك أن من يقوم بفعل الإبادة الجماعية هو مجرم حرب، ينبغي أن يُحاكم أمام العدالة، لا أن يجري التفاوض معه، وكذلك كان من المفترض آنذاك إيجاد مسار حقوقي يطالب الجهات الأممية بمحاكمة المجرم، وليس القبول بالتفاوض معه واعتباره شريكًا سياسيًا. ولا حاجة لتكرار الإشارة إلى أن العديد من الشعارات التي ردّدها النظام وموالوه، نحو (الأسد أو نحرق البلد، الأسد إلى الأبد، الأسد أو لا أحد)، لا تعدو كونها مجرّد شعارات دعائية، بل قرائن دالّة على نهج الإبادة الأسدي، تدعمها مجمل الوقائع على الأرض[5].

وبالتالي يمكن التأكيد أن مضمون القرار (2254) يتضمن رؤية ربما تناسب إصلاح ذات البين بين خصمَين يتصارعان سياسيًا، ولكنه لا يصلح أن يكون حلّا لحرب استئصال ومواجهة وجودية بين طغمة إبادية وشعب أعزل.

2 – دور المبعوثين الدوليين:

اختراقات ديمستورا وتجزئة الحل الأممي:

تولّى ستيفان ديمستورا مهامه كوسيط دولي خلفًا للأخضر الابراهيمي في حزيران/ يونيو 2014، وربما كان مدفوعًا لتحقيق اختراق لحالة الجمود في العملية التفاوضية، ولكنه في الوقت ذاته كان يدرك أن العملية السياسية تخضع بطريقة مباشرة لنفوذ الدول ذات القوة المتحكّمة على الأرض، وكذلك يدرك أن تنفيذ أي قرار دولي إنما هو محكوم بالآليات التي يعتمدها مجلس الأمن، وهذه الآليات بدورها لا تخضع لمنطق ومعايير الحق، بقدر ما تتحكّم فيها مصالح الدول صاحبة النفوذ الأقوى، ولعله من الطبيعي -والحال كذلك- أن تكون أية محاولة للاختراق تتجه نحو الطرف الأكثر هشاشة والأقل قوّةً، ونعني بذلك المعارضة السورية المتمثلة بهيئة التفاوض التي اتّسمت بتعدّد المنصات ذات التوجّهات والولاءات المختلفة، وضمن هذا السياق، طرح ديمستورا فكرة (السلال الأربع)، في اللقاء الرابع من جلسات جنيف بتاريخ 23 شباط/ فبراير 2017: هيئة الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، الإرهاب (نزولًا عند رغبة نظام الأسد).

وكان واضحًا أن الهدف من وراء فكرة السلال الأربع -فضلًا عن تجزئة القرارات الأممية- هو تحاشي أو تجاوز فكرة (هيئة الحكم الانتقالي) التي تجسّد الجذر الأساسي في العملية السياسية، وذلك إذعانًا لرفض كل من نظام الأسد وروسيا لمبدأ الانتقال السياسي، وقد برّر ديمستورا اقتراحه المذكور بأن هذا التقسيم هو عمل إجرائي يُعنى بالجانب التنظيمي من عملية التفاوض فحسب، ولا يهدف إلى أي تغيير في فحوى قرارات الشرعية الدولية.

من جهتها فقد وافقت هيئة التفاوض على مقترح ديمستورا، مُبَرِّرةً موافقتها بأن التفاوض سوف يكون حول جميع السلال بوتيرة واحدة، وأن التقدّم في جانب لا يعني تجاوز الجوانب الأخرى، وذلك وفقًا لمبدأ: (الاتفاق على كل شيء، أو لا شيء)، علمًا ان التبرير المذكور لهيئة التفاوض هو تبرير إعلامي محض، ولا يحمل في طيّاته أي قدرة على الإقناع، فضلًا عن عدم وجود أي ضمانة خطية له ولا يستند إلى أي وثيقة رسمية ذات مرجعية أممية، إنما هو فقط وعد شفهي من ديمستورا لا أكثر.

لقد أفلح الروس، عبر الوسيط ديمستورا، في تنحية مفهوم الانتقال السياسي من خلال الدفع باتجاه البحث في مسألة الدستور، تزامنًا مع إزاحة بند (هيئة الحكم الانتقالي)، وقد تبلور تكريس هذه الإزاحة في مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه روسيا في أواخر العام 2019، الذي اختزل القضية السورية بخلاف حول الدستور فحسب، ولعلّ هذا ما جعل مسار اللجنة الدستورية -على الرغم من مآلاتها المُعطَّلة- هو النشاط الوحيد في عملية التفاوض.

3 – دور المعارضة:

على الرغم من وجود كيان سياسي تصدّر تمثيل الثورة السورية في المحافل الدولية، فإن عملية التفاوض لم تكن منوطة به وحده، بل بكيان آخر يُدعى (هيئة التفاوض)[6]، وهو يضم عدّة منصّات، تتبع كل واحدة منها توجهًا سياسيًا ليس بعيدًا عن المؤثرات الإقليمية والدولية، الأمر الذي وسم الطرف المفاوض باسم المعارضة بالتشظي والهشاشة وعدم الانسجام في المواقف، نتيجة التبعية الإقليمية أو الخارجية لكل منصة أو طرف، بل يمكن الذهاب إلى أن تلك التبعية للخارج قد أفرغت الدور التفاوضي من محتواه الوطني، وحوّلته إلى دور وظيفي يخضع لمصالح الدول الراعية أكثر مما يراعي المصلحة الوطنية السورية.

خلاصة:

على الرغم من أنّ القرارات الأممية قد جسّدت وصفةً ربّما أضحت قاصرة أو مشلولة القدرة حيال تفاقم المأساة السورية، سواء أكان هذا القصور ناتجًا عن خلل في الرؤية التي أنتجتها أو في التشخيص الخاطئ لطبيعة نظام الأسد، أو بسبب تحكّم الإرادات الدولية وصراع المصالح، أو بسبب الآليات التنفيذية لتلك القرارات، أقول: على الرغم من جميع ذلك، هل من الصواب أن يتخلى السوريون عن المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية، أو هل الصواب في تجاوزها أو عدم الاكتراث بقيمتها؟ الجواب لا قطعًا، بل يجب التمسّك بها والمطالبة المستمرة بتنفيذها، باعتبارها إقرارًا من أعلى المرجعيات الدولية بحق السوريين في التغيير واستعادة الحقوق، ولكن في الوقت ذاته يجب التأكيد أن الاعتماد على قرارات الشرعية الدولية، دون إيجاد عوامل قوّة رافدة للمسار الأممي، قد لا يأتي بما هو مأمول، فالمطلوب -إذًا- هو العمل على إيجاد مسارات نضالية أخرى، من شأنها أن تتحوّل إلى أوراق قوّة داعمة للمسار التفاوضي، وبالنظر إلى ما هو في عداد الممكنات، يمكن الإشارة إلى مستويين اثنين:

1 – مستوى حقوقي:

تؤكّد وقائع المواجهات بين نظام الحكم والشعب السوري منذ العام 2011 أن المشكلة السورية هي ذات منشأ أو جذر حقوقي، قبل كونها صراعًا على السياسة، إذ لم يكن السوريون المطالبون بالتغيير يواجهون سلطة تحترم القانون وتحفظ حقوق المواطنين، بل واجهوا (طغمة إبادية) مارست بحقهم شتى أنواع الجرائم، واستخدمت أشدّ وسائل القتل فتكًا ووحشيةً، وقد أورثت سيرورة العنف هذه ملفات حقوقية في غاية الأهمية: (ملف المعتقلين والمغيبين، ملف التهجير القسري، القتل الجماعي، السطو على الأملاك، ملف الكيمياوي، المخدرات… )، ولعل كل قضية من القضايا المشمولة بالملفات السابقة يمكن لها أن تطيح بأي حكومة أو نظام، في حال كانت المداخل القانونية مشرعة أمامها.

ثمة جهود يبذلها ناشطون قانونيون في أكثر من بلد أوروبي وغير أوروبي، تهدف إلى ملاحقة أعضاء وشخصيات عسكرية وأمنية ثبت إجرامها بحق مواطنين سوريين، كما تسعى هذه الجهود لإيصال القضية السورية إلى معظم منابر العدالة في العالم، وقد أثمرت هذه الجهود برفع أكثر من دعوى على أشخاص ثبت تورطهم بدم السوريين، ومنهم من يمثل أمام المحاكم الدولية.

لعل قيام عدد من الناشطين السوريين بتأسيس مسار نضالي حقوقي لمواجهة نظام الإبادة الأسدي يأتي تجسيدًا لأهم الآليات الدفاعية بل أكثرها استجابةً لمعاناة السوريين من جهة، وكذلك هي الأكثر تماهيًا مع توجّهات ومطالب الثورة السورية ذات المنشأ الحقوقي في الأصل من جهة أخرى، إذ إن انتفاضة السوريين ومطالبتهم بالحريات بشتى أشكالها هي تعبير بالأصل عن حقوق جوهرية قرينة تكوينهم الإنساني، وقد اغتصبتها السلطة منذ عقود، وليست مجرّد مطالب ذات صلة بالشأن السياسي العام فحسب، فضلًا عن أن المواجهة الدامية بين نظام الأسد والسوريين، على مدى أكثر من عقد، قد عزّزت اليقين بأنها مواجهة تتخطّى تخوم السياسة، إذ إن استهداف المواطنين بوسائل دمار ذات طابع إبادي جماعي، كالطيران والسلاح الكيمياوي، أو القتل الجماعي في السجون، إنما يؤكّد المنحى الوجودي لتلك المواجهة[7].

2 – مستوى تجسير الهوّة بين القوى السياسية والحراك الشعبي:

تشهد البلاد السورية حراكًا شعبيًا سلميًا يتفاوت في مستوى حضوره ونوعيته بين منطقة وأخرى، ولعل من أبرز موجات هذا الحراك ما تشهده مدينة السويداء، منذ منتصف آب/ أغسطس من العام الماضي، إذ يعيد هذا الحراك إلى الأذهان والنفوس المشاهد الأولى لحركات التظاهر، في إبان انطلاقة الثورة في آذار 2011 ، وكذلك مدن الشمال السوري التي تشهد حراكًا شعبيًا سلميًا، بين الحين والآخر، وكذلك في درعا وأماكن أخرى، إلّا أن النتائج المتوخاة من هذا الحراك بشتى أشكاله ما تزال تراوح في حيّزها الثوري، دون الانتقال إلى حيّز السياسة، أي لم يتحول المنجز الثوري إلى موقف سياسي، ولعل السبب في هذه المراوحة يكمن في غياب الروافع السياسية للحراك الثوري، بل يمكن التأكيد أن مجمل أشكال الحراك الشعبي لا تحظى بتمثيل سياسي، فهي من جهة أولى لم تفلح في إنتاج مظلة سياسية تنبثق من الحراك ذاته، ومن جهة أخرى، لم يفلح أي كيان سياسي -سواء أكان من الكيانات الرسمية للمعارضة أو سواه- في التشبيك مع قوى الحراك، بحيث يكون الحامل السياسي لنشاطها الميداني. ولعل هذا الغياب للفاعل السياسي يعدّ خللًا مزمنًا كانت له نتائجه الكارثية على حراك الثورة السورية إبان انطلاقته عام 2011، وما تزال تأثيراته باسطة ظلالها حتى اليوم.

في النتيجة، يمكن الذهاب إلى أن بقاء القرار (2254) في حيّز المسارات السياسية المُعطّلة سيجعله دون أي جدوى، ما لم يكن مُستندًا إلى عوامل قوّة أخرى تعزّز حضوره، وهذه العوامل ينبغي أن تكون ذات أثر ملموس ومؤثر في الواقع، وهذا ما يمكن العمل على إيجاده، في استثمار الحراك السلمي على الأرض، والمسار الحقوقي في منابر العدالة.

_______

هوامش:

[1] بات من الملاحظ أن كثيرًا من اللافتات التي يرفعها المتظاهرون، سواء في مدينة السويداء أو في مدن ومناطق الشمال السوري، تعدّ القرار (2254) مطلبًا جماهيريًا.

[2] المادة الرابعة من قرار مجلس الأمن رقم (2254) تاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015

https://legal-sy.org/wp-content/uploads/2021/06/S_RES_22542015_A.pdf

[3] محمد صبرا – القرار الدولي 2254 مفتاح الحل الضائع في سوريا، موقع الحرة الحدث، تاريخ النشر 6 كانون الثاني/ يناير 3023، على الرابط: https://bit.ly/4d1Xke7

[4] (الجيش الحر) هي التسمية التي كانت تطلق على الفصائل العسكرية آنذاك، وقد تحولت هذه التسمية فيما بعد إلى (الجيش الوطني) منذ 30 أيار/ مايو 2017.

[5] لمزيد من المعلومات حول مفهوم الإبادة الممنهجة لدى نظام الأسد، يمكن الرجوع إلى كتاب: الفظيع وتمثيله – مداولات في شكل سوريا المخرب وتشكلها العسير، ياسين الحاج صالح، مؤسسة دار الجديد، ط1، 2021، من الصفحة 43 – 75.

[6] تأسست هيئة التفاوض في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أثناء انعقاد مؤتمر الرياض1، وكانت تُعرف آنذاك باسم (الهيئة العليا للتفاوض)، وتضم المكونات التالية: (الائتلاف، هيئة التنسيق الوطنية، الفصائل العسكرية، مستقلون، منصتي موسكو والقاهرة) https://snc-sy.org/

[7] حسن النيفي، المواقف العربية والدولية من نظام الأسد في منظار السوريين، موقع تلفزيون سوريا، تاريخ النشر 2 تموز/ يوليو 2024، https://bit.ly/3y1B7Ot

………………..

تحميل الموضوع

__________

* شاعر وكاتب سوري

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.