أحمد إبراهيم الشريف *
معرفة أين يقف المثقف من وطنه وشعبه وقرائه ومن السلطة أمر يشغل الجميع خاصة المثقفين، وغالي شكري يحدد هذه النقاط الفاصلة ويرى أن العلاقة بإسرائيل والعلاقة بالسلطة هما الخطان الرئيسيان في هذه المعادلة، يأتي ذلك في كتابه “الأرشيف السرى للثقافة المصرية” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015، وكانت طبعته الأولى قد صدرت عن دار الطليعة في بيروت عام 1975.
ورغم أن الكتاب تمت طباعته منذ قرابة الأربعين عاماً، لكنه على ذلك يظل محتفظاً بدهشته، فـ”غالي شكري” يضع “مثقفي اليمين” في خندق “المُسائلة” ويكسر التيمة الدائمة القائلة بأن اليسارين يرتكبون كل فاحشة في حق الثقافة، هو هنا يكشف أننا لم ننظر أبداً في الأرشيف السري لكبار مثقفينا الذين وقفوا على يمين الدولة يمدون أيديهم في انتظار ما تجود به “السلطة” عليهم.
في الكتاب لم يكن “غالي شكري” مدافعاً عن أحد بصورة شخصية لكنه يُدين “اليمين الثقافي” ويدافع عن “الانتماء لليسار”، يُراهن أن هناك ملفاً ممنوعاً من الفتح بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى “السلبي” الذي قصده “توفيق الحكيم في كتابه “عودة الوعي”، وعلى هذا يرى “غالي شكري أننا بحاجة إلى كل قراءة الأرشيف السري للمثقفين خاصة الذين كانت لهم علاقة بالدولة في عصري “ناصر” و”السادات” خاصة أن التفاوت بين العصرين صنع مساحة كبيرة للتنوع.
السلبية.. توفيق الحكيم:
ليست السلبية هي السمة الوحيدة التي كشف غالي شكري لدى المثقفين عنها لدى مثقفي النظام، وحظي توفيق الحكيم بالجانب الأبرز في هذا الإطار، فهو الداعية الأكبر لما سمي بـ”المستبد العادل”، ويظهر ذلك في دفاع الدولة الناصرية عنه ومنحه وسام الجمهورية ومقولة جمال عبدالناصر بأنه تأثر برواية “عودة الروح” في تفكيره وتحقيقه للثورة.
والسلبية يرصدها “غالي شكري” في رفض “الحكيم” طلب نجيب محفوظ بالتدخل لدى الرئيس للإفراج عن بعض الكتاب المقبوض عليهم، حينها قال توفيق الحكيم “يا نجيب دول بيقبضوا عليهم لأسباب ملهاش علاقة بالفكر والأدب.. دول ليهم صفتين صفة المثقف وصفة السياسي إحنا ندافع عن المثقفين، لكن الناس اللي عايزة السلطة مالنا ومالهم؟».
وتمثلت السلبية أيضاً، كما يرى غالي شكري، في الأفكار الهدامة التي تزعمها “أنيس منصور” والتي تصل لحد “العنصرية” وتغييب الشعب، فقد مثل أنيس منصور من خلال أعماله “الذين صعدوا إلى السماء” كموضوع يتوازى من حدث صعود الإنسان على القمر، ومن بعض القصص خاصة تلك التي تتحدث عن الفتاة التي ركبت معه في سيارته، واكتشف أنها من الأموات وقبرها مازال موجوداً، فكان يُسفه الأفكار الكبيرة المشغول بها العالم، ويعمل على تشويه الوعي لدى المجتمع.
العمالة.. سميح القاسم وإحسان عبد القدوس:
يصب غالي شكري جام غضبه على “أخبار اليوم” ويزعم بأنها تأسست بتمويل من المخابرات المركزية الأمريكية.. ويذهب إلى أن “الإخوان أمين” كما يطلِق عليهما كانا ينفذان أجندة أمريكية، وذلك باعتراف مصطفى أمين في التحقيقات التي انتهت بمحاكمته وإدانته، فيكتب غالي شكري، “ولم يعد سراً أن مصطفى أمين قد اعترف، في التحقيقات التي انتهت بمحاكمته وإدانته أن “دار أخبار اليوم” تملك جهازاً للمعلومات يعتمد على مصادر موثوقة محلية وأجنبية، وأن هذا الجهاز يتبادل المعلومات مع الأجهزة الأخرى المحلية والأجنبية، وكان واضحاً من التحقيق أن التنظيمات الشيوعية المصرية هدف رئيسي لهذا الجهاز، فلديه أسماء الشيوعيين ووظائفهم وأحوالهم الاجتماعية وتحركاتهم.
ويضيف غالي شكري في كتابه، من المؤكد أن الحقائب الأربع التي سربها مصطفى أمين- باعترافه- إلى شقيقه التوأم في لندن عن طريق السفارة الأمريكية في القاهرة، لم تكن تحتوي على رسائل غرامية..” ذروة القُبح أن تكون دار ثقافية تمارس دور التجسس والعاملة ليس للنظام بل للآخر المعادي، فهنا لم تكن هذه المؤسسة أكثر من نقطة ارتباط معلوماتي للأمريكي، الذي يعمل جاهداً على ضرب كل ما هو وطني وقومي.
بل وصل الأمر لـ”غالي شكري” أن رأى أن “الإخوان أمين” استغلا عباس محمود العقاد الذي لم يكن مأجوراً في اعتقاداته، وفتحا له أبواب مؤسسة فرانكلين ومكتب الاستعلامات الأمريكي وأصبحا همزة الوصل بين العقاد والأجهزة الأمريكية، ويضيف “كان العقاد طاقة ضخمة، وكان مؤمناً بما يقول، ليس مأجوراً في معتقداته، ولكن هذه “المعتقدات” وجدت هوى لدى التوأمين فأسسا “المختار” لزكى عبد القادر، وأصبحا همزة الوصل بين العقاد والأجهزة الأمريكية.
كما يؤكد غالي شكري في كتابه أن الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس أول من استجاب لدعوة إقامة علاقات طبيعية مع الاحتلال الصهيوني، حين نشر في عدد “الأهرام” 1974 مقالًا رأى أن “كسينجر” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق صديق ويدير حوارًا بمنطق الاعتراف والصلح مع إسرائيل مُغفلًا وجود المقاومة الفلسطينية، بل وصل به الأمر إلى إدانة هذه المقاومة واتهامها بالإرهاب وقتل المدنيين.
ويقف غالي شكري كثيراً عند “البيان” الذي تم توقيعه من الكُتاب العرب واليهود مواطني إسرائيل وتوجهوا به إلى شعوب المنطقة والعالم للعمل، على حد قولهم، “معاً وبصورة فردية على إيقاف جميع أعمال الإرهاب والعنف نهائيًا ضد النساء والأطفال، خاصة ضد السكان المدنيين عامة”، ويصل البيان إلى الرسالة الحقيقية التي يقصدها وهي إدانة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني والدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، وقد وقّع على البيان كل من حنا إبراهيم، وعصام العباسي، وسالم جيران، ونزيه خير، وسميح القاسم، الذي عاد وسحب توقيعه على البيان بعد أن أدانه مواطنه الشاعر الفلسطيني توفيق زياد.
وسناء حسن المصرية الأمريكية التي ذهبت إلى إسرائيل تحمل أرشيفاً مهماً استولت عليه من مؤسسة الأهرام كما ذكر غالي شكري والتي تقريباً تورط الجميع معها، ذهبت إلى إسرائيل كي تخبرهم لستُ وحدي التي ترحب بإسرائيل بل لدي العديد من الكتاب والمثقفين المصريين.
الانقلابيون.. الحكيم وصالح جودت:
لم يستخدم غالي شكري لفظة الانقلاب، لكنها اللفظة الوحيدة المعبرة عما فعله كل من توفيق الحكيم وصالح جودت، فتوفيق الحكيم الذي كان محسوباً على عبدالناصر والذي كتب “عودة الروح”، وكتب في عهد السادات “عودة الوعي” والذي يصف فيها جمال عبدالناصر بأبشع التهم والخطايا.
بينما صالح جودت الذي كان معروفاً عنه أنه يكره ناصر كتب تحت تأثير العرض المغري من أمير كويتي كتاباً في مدح عبدالناصر والأدهى على حد زعم، غالي شكري، أنه سجل الكتاب على “أشرطة كاسيت” قبل أن يعود وينقلب مرة ثانية على “ناصر” لصالح السادات.
أما الكاتب العراقي الكبير محمد مهدى الجواهري فمن خلال أزمته والتي تُمثل شخصيته جزءاً منها عانى الأمَرين أثناء زيارته لمصر في بداية السبعينيات ويكشف “غالي شكري” كيف تم التآمر عليه من وزارة الثقافة ومن رئاسة الجمهورية نفسها، التي وعدته ثم تخلت عنه.
* كاتب وباحث مصري
المصدر: اليوم السابع