الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أهم معوّقات انخراط الشباب السوري في الشأن العام (1 – 2)

د- عبد الله تركماني

السياسة – في أحد تعريفاتها – هي الاهتمام بالشأن العام، وكان إقصاؤها، طوال خمسة عقود في سورية، هو إلغاء لهذا الشأن وتشجيع لثقافة اللامبالاة والانكفاء على الذات، بل دفع نحو التطرف بأشكاله المختلفة.

وفي الواقع تقف أمام هكذا مقاربات عقبات عديدة، لعل أبرزها هو عدم توفر الإحصائيات والدراسات الميدانية المتنوعة المصادر، بما يجعل السير في مثل هذه الأبحاث محفوفاً بالمخاطر، لأننا صرنا أمام كتلة بشرية ضخمة تفتقد إلى التجربة وتحمل ذاكرة ضئيلة، كتلة غير قادرة على إدراك حقيقة أنها أداة التغيير الفعلي، ضائعة بين سياسة الإملاء التي ظلت تُمَارَسُ عليها طوال أكثر من 40 سنة، وبين دورها المفترض من أجل الخروج نحو آفاق أرحب.

  وبداية لا يمكن القول: إنّ فئة الشباب في سورية، التي تتجاوز الـ 65 % من عدد السكان، تمتلك صفات مشتركة، فإذا كان عامل السن يوحدها، فإنّ عشرات الاختلافات تفرقها، كالحالة الاقتصادية والوضع التعليمي والجنس وسواها.

إنّ المجتمع السوري الحالي هو مجتمع يافع عمرياً، فأكثر من 60 % من أفراده ولدوا بعد العام 1980، وما يزيد على 80 % من المواطنين السوريين لم يعرفوا، طوال حياتهم، حكماً آخر سوى حكم حزب البعث في سورية.

وتلعب عوامل عديدة في تشكيل الوعي السياسي عند الشباب السوري، بعضها ذاتي خاص بالفرد كالجنس والذكاء والخبرات الذاتية والوضع النفسي، وبعضها موضوعي قائم منذ ولادة الفرد كالفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والانتماء الجغرافي (ريفي، مديني)، وبعضها الآخر موضوعي بحكم طبيعة المجتمع والمناخ العام السائد فيه، وتعتبر هذه الأخيرة الأهم بالطبع كوننا نتحدث عن الإطار العام الناظم لتشكيل الوعي السياسي، والذي يحدد بالضرورة حدود العوامل الذاتية، ويغير أو يعدل من المحددات الموضوعية القائمة لحظة الولادة.

      وخلافاً لما هو سائد في جميع بلدان العالم كان النشاط الشبابي السوري مرتبط بالمنظمات والهيئات الرسمية المنضوية تحت لواء الحزب الواحد، المسيطر نظرياً على مسارات الحياة السياسية والثقافية، حيث لا تجد حراكاً شبابياً منفصلاً عن الرقابة المباشرة أو غير المباشرة. من هنا كانت طموحات الأجيال الناشئة، في ظل نظام شمولي الرؤية وأحادي التنظير، مقتصرة على التوجهات العامة والتطلعات المحدودة بأطر ضيقة الأفق يشدها اليأس ويثقلها هاجس الحاضر ومسؤوليات المستقبل.

لذلك لا يستطيع المرء أن يحكم في مسألة هل في سورية عزوف للشباب عن السياسة أم نوع من إضراب عن السياسة أم نوع من لامبالاة؟  ذلك لأنّ المشاركة السياسية تفترض الحرية والمواطنية والمساواة وتكافؤ الفرص، وهي العناصر التي كانت غائبة عن الواقع السوري. فبين البطالة والاستيعاب السياسي وغياب الحريات الديموقراطية عاش شباب سورية أزمتي الحاضر والمستقبل، وضرورات العصر التي تفرض انتقالاً من مناخ النظام التسلطي الذي يصادر المجتمع إلى مناخ جديد منفتح على المستقبل.

أهم التحديات التي تواجه الشباب السوري اليوم

أبرزت السنوات الثلاثة عشرة للحراك الشعبي أنّ التحدي الأساسي للشباب السوري يكمن في افتقاره إلى الخبرة والإعداد الملائم للمشاركة في عملية التحوّل المجتمعي والبناء المستقبلي. وهكذا تعددت معوّقات انخراط الشباب السوري في الشأن العام، ويأتي في مقدمتها الإطار السياسي العام، الناتج عن: (النظام الأمني، حالة الطوارئ، غياب الحياة الحزبية السليمة، ضعف دور المعارضة)، والمنظومة التربوية، ووسائل الإعلام والوضع الثقافي، والنقابات والاتحادات، والعائلة السورية، والعمل ومصادر دخل الشباب. والتي مازالت أكثرها قائمة لدى شباب اليوم، فيما عدا بعض من اطلعوا على تجارب شباب دول اللجوء.

إذ لا شكَّ أنّ لتشظي الإطار السياسي في سورية نسقان مترابطان من الأسباب: أولهما، يتصل بالتأخر التاريخي للمجتمع السوري بوجه عام، تأخر يتجلى في صلابة البنى والتشكيلات والعلاقات الاجتماعية المغلقة، ما قبل الوطنية، ويتكثف في المجال الأيديولوجي – السياسي. وقد أُعيد إنتاج هذه البنى والتشكيلات والعلاقات في المجال السياسي، فتحولت الأحزاب السياسية الحديثة إلى عشائر سياسية أو طوائف سياسية مغلقة ومتنابذة، كل واحد منها هو ” الملة الناجية “. وثانيهما، يتصل بتدمير الفئات الاجتماعية الحديثة، وانهيار الفئات الوسطى التي تؤلف أكثرية الشعب، نتيجة تخريب بنى الإنتاج الاجتماعي، ولا سيما الاقتصاد والثقافة والتربية والسياسة.

إذ إنه خلال عقود تحكّم نظام الاستبداد جرى تقزيم الحياة السياسية، لتقوم تدريجياً على حزب واحد ولاعب واحد وسيطرة أحادية وشاملة على كل مقوّمات ونشاطات الحياة المجتمعية والمدنية والإعلامية وغيرها، دون منافسة أو رقابة على ما يجري، خاصة مع وجود المادة الثامنة من دستور عام 1973 التي أكدت على أنّ ” حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب في خدمة الأمة العربية “.

لقد فطن القيّمون على السلطة إلى أهمية جيل الشباب وإمكانية تحوّله إلى ذخيرة متقدة للعمل السياسي، وانطلاقاً من هذا ” الوعي ” تبنت النخبة السياسية الحاكمة أسلوباً أكثر تركيزاً على القطاع الشبابي، وذلك ليس ما صرحت به عن رغبة في استثمار هذا القطاع بما يحقق مصالح المجتمع واستقطابه بما يفيد مسيرة بناء وطن فقط، وإنما كان الهدف الأكبر والأعمق يتمثل في تلافي ما عدته هذه النخبة بأنها هفوات من سبقها، والتي أتاحت للجيل الشاب، بمختلف مشاربه السياسية، أن يكون له دور مؤثر في المشهد السياسي. فابتدأ العمل الحثيث على إلغاء كل مظاهر التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي في الأوساط الطلابية، التي كانت متنوعة ومرتبطة بالميول السياسية المختلفة وحتى بالانتماءات الاجتماعية المتعددة، من دون أن يكون لها طابع صدامي ولا تكاملي. وكامن نتيجة ذلك انتشار ظاهرة اللامبالاة بين صفوف الشباب السوري، مقترنة بضمور أو تلاشي مفهوم الشأن العام والمصلحة العامة.

إنّ غياب الشباب عن المشهد السياسي ما هو إلا التعبير الأكثر وضوحاً عن غياب المشهد السياسي ذاته، وقد جاءت أزمة الثمانينات من القرن المنصرم لتلغي السياسة من الساحة السورية، بحيث لا يبقى في الميدان غير السلطة ومن يدور في فلكها.  وما قامت به السلطة من أجل تغييب السياسة عن المجتمع دونه قوانين الطوارئ ومصادرة الحريات، ومنظمات قطاعية تتولى التأطير الفكري والضبط، وتواكب المواطن الفرد وتنمّط وعيه وسلوكه، تتكئ على آليات دعائية شاملة تؤازرها، عند الضرورة، أجهزة قمعية عديدة تعمل في شرايين المجتمع مراقبةً وتصنيفاً وتأديباً. وهذه العوامل مجتمعة، تعبّد طريق الرشد والصلاح للمواطن ” القاصر ” وتحشره حكماً عضواً في قالب كشفي أو نقابي أو جماهيري، أو ترفعه متطوعاً في ميليشيات السلطة، وتجعل من الذاتية مرضاً مُخجلاً خارج المألوف، ومن السؤال ملف اتهام، لتقود المجتمع الصاغر إلى ” الوطنية ” والمجاهرة بثوابتها حقائق لا يرقى إليها الشك، بحيث يتلمس عفوياً وتلفه القناعة بتماهي القضية الوطنية والنظام، فهي ” جوهره وعلة وجوده “، وهو ” صنوها وغاية تحقيقها “، وما قائده إلا بطلها، وما شخصيته إلا أسطورتها الحية.

وفي الواقع ارتاح النظام الأمني لحال السكون التي كانت طافية على سطح المجتمع، فهو لا يبغي تأييد المواطنين الضمني العميق، ولا يأبه بشعورهم الدفين، بل توخى مظاهر الولاء العلني. فالمهم، في المحصلة، بروز هيبة السلطة وانقياد الناس لها، إذ إنّ الخوف (والخضوع الناجم عنه)، والانضمام العفوي، أجدى وأفعل من القناعة والمبادئ، التي قد تتحول إلى طموحات وخطر مساءلة. وعليه، يستسيغ نهج الاستبداد سكوت الجماعة وانطوائية الفرد المسحوق في شخصيته، وإلا تكفلت الغرف المظلمة التابعة لأدواته بتقويم الاعوجاج وإعادة الشاكي إلى دائرة الصمت و” التأهيل “.

فعلى امتداد 47 سنة هيمن نمط من الأجهزة الأخطبوطية على الحياة السياسية والتعليمية والحزبية والثقافية وغيرها، بحيث تم ابتلاع المجتمع العام والمظاهر الأولية للمجتمع المدني، إضافة إلى قضم الدولة التي – والحال كذلك – أُرغمت على إخلاء الساحة لـ ” الدولة الأمنية “، مقابل ” أمن الدولة “. وجدير بالإشارة إلى أنّ الدولة الأمنية المذكورة، إذ اكتسبت شحماً ولحماً كثيفين عازلين، فإنها راحت تصوغ شعارها المركزي على النحو التالي: يجب أن يُفسَدَ من لم يُفسَدْ بعد، بحيث يصير الجميع ملوثين مدانين تحت الطلب! وحين يتعلم الأطفال هتافات الصراخ، ويصفقون بإيقاع أجوف وشعارات لا يفهمونها، يُرجَّحُ أن يصلوا إلى إحدى حالتين: شباب مشوّه بعيد عن العلم وروح المبادرة والفعل، أو شباب يحمي نفسه بالنفاق يومياً.

وقد أدمجت حالة الطوارئ المستمرة منذ سنة 1963 في نظام أيديولوجي وسياسي يستنبط تنظيماته وشرعيته، وحتى ما ينسبه إلى القائمين عليه من فضائل، من الردِّ على الأخطار الخطابية المختلفة كلياً عن الأخطار الفعلية، بل هي بالفعل عائق خطر أمام الإدراك الواقعي لهذه الأخطار.

أما الحياة الحزبية فهي مشوهة، فقد لعبت الأحزاب السياسية، على اختلاف مواقعها وانتماءاتها، دوراً سلبياً في حياة أفرادها، إذ إنّ الشعارات الكبيرة، وتقديس الجماعة لدرجة إلغاء أي قيمة للفرد تجاهها، حوّل الأفراد إلى دمى، وأنتج – في المآل الأخير – تشوهات على صعيد الفرد والجماعة في آن معاً.

وكي لا نكون متحاملين، نود الإشارة إلى أنّ فقدان الحرية وتعميم الخوف ومصادرة السياسة وحرمان التكوينات الاجتماعية الناشئة، بما فيها الشباب، من إيجاد تعبيراتها السياسية المناسبة وهيمنة سلطة الدولة المطلقة على الحيّز العام، أصابت بجمودها وتخشبها كل أطياف الحركة السياسية والثقافية السورية. فمعظم أحزاب المعارضة لا تزال أسيرة الماضي وخطابه، وهي مصابة بترهل الأشخاص والأفكار، مقطوعة عن هموم الشباب ومشكلاتهم. كذلك هي حال الحركة الثقافية والفكرية، إذ تعاني نقصاً فاضحاً في القادمين الجدد، والمواهب والطاقات الشابة توأد في مهدها، نتيجة غياب أطر الرعاية والتأهيل الثقافي المستقلة وفقدان قنوات التعبير الحرة.

وترجع أصول الأزمة إلى النمط الشمولي للتنظيم الاجتماعي الذي وقعت سورية ضحية له، فلكي تتكون أحزاب سياسية يجب أن يستطيع الناس الخروج من العزلة ويتمكنوا من التواصل الآمن واستكشاف المشترك فيما بينهم والتفاهم على قيم عامة يلتقون عليها، وبغياب هذا الإمكان أو ضعفه ستبقى فرصة بروز أحزاب سياسية فاعلة فرصة ضئيلة. هذه هي النقطة الحاسمة في فهم أزمة العمل السياسي، بما فيه العمل السياسي الرسمي في سورية. فبدون أحزاب سياسية حرة، سيكف الحزب الحاكم ذاته عن كونه حزباً سياسياً.

وفي الواقع تواجه سورية أزمة عامة تطال السلطة والمعارضة والمجتمع والدولة، وبداية يجب الاعتراف بأنّ المعارضة السورية ليست الجهة التي أنجبت أزمة سورية الراهنة، وأنّ الجهة التي تسببت في الأزمة ورعتها وضخمتها وحالت إلى اليوم دون حلها هي السلطة، أي أهل الحكم، الذين بنوا نظاماً يتطلب استقراره وتوازنه افتعال أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، تعينه على إدارة المجتمع، وعلى منعه من التصدي لها أو حلها، أو امتلاك أدوات تصدٍ وحل كالأحزاب والنقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني.

ويبدو لنا أنّ الجمود الراهن يقترح تحولاً من مقاربة متمحورة حول مسألة السلطة إلى مقاربة منشغلة بمشكلات المجتمع: قضايا العمل والبطالة والفقر والتعليم ودور الدين والمرأة والشباب، وبالخصوص العلاقات المذهبية والدينية والقومية، وقد يكون لتنشيط الاهتمام بالقضايا الاجتماعية، وتحوّل المعارضة اليوم نحو المجتمع ليس تنازلاً للسلطات الأمر الواقع، بل هو شيء تعطيه لنفسها ولمجتمعها. ويقتضي التحوّل تطوير خطط وأفكار ومناهج لسياسة من نوع مختلف، سياسة تهدف في مدى أبعد إلى تمكين المجتمع من إنتاج تماسك ذاتي يوهن قبضة هذه السلطات الممسكة بتلابيب المجتمع، ويدفعها إلى التغيير من تحت.

وعموماً يجد الشباب السوري نفسه اليوم في حالة تخارج مع ما يحيط به أو رفض لأغلب ما يعرض عليه، ولا يكاد يقيم وزناً لما هو موجود من أحزاب سياسية، خاصة في ظل قصور خطابها السياسي لغة ومحتوى، وعدم وجود أشكال إبداعية جديدة من الممارسة السياسية، ومع استمرار التيارات السياسية التقليدية التي تتنافس على استقطابهم.

إنّ الإطار السياسي، الموصوف أعلاه، أثّر في الاتجاهات السياسية والحياتية للشباب السوري، وفي نموهم الروحي والقيمي. والاتجاهات المتولدة عديدة، ويعتبر إحساس اللامبالاة وعدم الاكتراث الاتجاه السائد، وهو يتلازم مع حالة من التشظي على مستوى القناعات الفكرية والسياسية، أي حالة من الآراء والتصورات الشبابية التي لا يجمعها جامع. ويعبّر اتجاه اللامبالاة عن نفسه بأشكال عديدة: الرغبة في الهجرة، أو الرغبة في تحقيق المصالح الفردية بأية طريقة كانت، وبسيادة قيم استهلاكية، وحالة من التشظي الروحي والنفسي عند الشباب. كما هناك اتجاه آخر عند الشباب يبرز في تصعيد انتمائهم للعائلة أو العشيرة أو الطائفة، أو تصعيد انتمائهم للأقليات القومية المتناثرة في سورية، على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة. أما الاتجاه الديني فهو عظيم الحضور، وقد لعبت كل العوامل التي ذكرناها سابقاً في توسيع انتشاره، وهو متفاوت في حدته، بدءاً من القناعات الدينية العادية البسيطة، مروراً بالاتجاهات الدينية الإصلاحية، والاتجاهات الدينية التقليدية غير السياسية، وصولاً إلى التيارات الإسلامية السياسية، ومنها المتطرفة.

إنّ توق الشباب السوري للهجرة ظاهرة خطيرة متنامية، تدل وبشكل لا يرقى إليه الشك على مقدار الضائقة الحياتية والمعنوية التي يعاني منها الشباب، لا بل إنّ الدلالة الفاقعة على الأزمة نماذج الدول المطلوبة للهجرة. إنها الدول التي يتوافر فيها العمل، والتي يتوافر فيها قدر كبير من الاحترام لحقوق الإنسان، وهي الدول المتقدمة التي تقوم على الحق والقانون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.