الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من كان ليصدق ما يحدث بأمريكا؟!

من كان ليصدق ما يحدث بأمريكا؟! – محمد المنشاوي

محمد المنشاوي *

كتبتُ هذا المقال من مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن، كنت أحضر المؤتمر العام للحزب الجمهوري، حيث يتم الإعلان رسمياً عن ترشيح دونالد ترامب رئيساً، وجي دي فانس، نائباً، على بطاقة الحزب الجمهوري لانتخابات 5 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. خلال أيام المؤتمر، تحدثتُ مع مئات المشاركين والمشاركات من مختلف الولايات الأمريكية. خرجتُ من هذا المؤتمر مندهشاً، بل مصدوماً، مما آل إليه حال الديمقراطية الأمريكية، ومما ينتظرها في المستقبل القريب.

  • • •

من كان ليُصدق أنه وقبل ثلاثة أعوام ونصف العام، أن نشهد محاولة انقلاب سياسي في الولايات المتحدة؟! ذهلتُ كما ذهل الشعب الأمريكي مما شاهدناه يحدث يوم 6 كانون الثاني/ يناير 2021. لم يعرف التاريخ الأمريكي المُمتد على مدى 250 عاماً يوماً واحداً بقوة وجسامة ما شهده مبنى الكابيتول، من اقتحام المئات من أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب لجلسة مجلسي النواب والشيوخ المشتركة للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية 2020، والتي انتهت بفوز الرئيس الديمقراطي الجديد، آنذاك، جو بايدن.

على عكس الأزمات الخطيرة التي عرفتها أمريكا في العقود الأخيرة، ضربت أحداث 6 كانون الثاني/ يناير الديمقراطية الأمريكية في قلبها مع رفض رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها، بل تمادى وأكد أنها مزورة بدون أن يقدم دليلاً ملموساً على ذلك، رغم رفض عشرات المحاكم المختلفة ادعاءات الرئيس السابق ترامب. يزيد من خطورة الموضوع إيمان عشرات الملايين من أنصاره الجمهوريين حتى الآن أن الانتخابات سُرقت منه.

  • • •

من كان ليُصدق أن ترامب سيترشح للمرة الثالثة علي التوالي؟! لقد عاد ترامب مرشحاً رئاسياً للمرة الثالثة ساعياً لدخول البيت الأبيض لفترة حكم ثانية، واكتسح في طريقه كل المرشحين الجمهوريين ممن هاجموه واعتبروه عبئاً على الحزب الجمهوري، وأن هناك حاجة لطي صفحته بصورة كاملة. تحدثَ كل أعداء ترامب السابقين داخل المعسكر الجمهوري في مؤتمر الحزب، وقدموا جميعهم فروض الولاء والطاعة لترامب بعدما اتهمه منافسوه الجمهوريون بالتهور والجهل والسقوط الأخلاقي وإحداث الفوضى، إلا أن الحزب أظهر وحدة نادرة خلف ترامب.

من كان ليُصدق أن الأمريكيين والأمريكيات سيضطرون للاختيار بين مرشحين؛ أحدهما، من جانب، رجل مسن تخطى الثمانين ويريد أن يحكم حتى الــ86 من العمر رغم تدهور قدراته العقلية والذهنية بصورة لا يمكن توقيفها، ومن جانب آخر، مرشح مُدان جنائياً بـ34 تهمة وينتظر أن يتم الحكم عليه خلال أسابيع؟!

من كان ليُصدق أن العالم سيشهد مرشحاً رئاسياً يسعى لقيادة أمريكا والعالم ولا يستطيع أن يُكمل جملة، ويرتبك ويخلط أسماء الرؤساء والدول، بما يسبب إحراجاً كبيراً لمنظومة الحكم الأمريكية؟!

من كان ليُصدق أن بايدن سيُصمم على التمسك بالترشح في حالة غريبة من العناد الجيلي، على الرغم من الأداء الكارثي له في المناظرة الرئاسية أمام ترامب قبل نهاية الشهر الماضي؟!

على مدى الأسابيع الثلاثة الأخيرة، سعى بايدن بكل الطرق الممكنة إلى استرجاع الثقة التي فقدها بين ملايين الأمريكيين والأمريكيات ممن شاهدوا المناظرة، إلا أن جهوده لم يُكتب لها النجاح كما تُظهر استطلاعات الرأي. ثم من كان ليُصدق عجز الحزب الديمقراطي عن الضغط على بايدن لينسحب من السباق حفظاً لماء الوجه؟!

ومن كان ليُصدق أن الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، الذي اختار بايدن نائباً له، وتسبب في وصوله للبيت الأبيض، سيقف عاجزاً رغم إيمانه باستحالة انتصاره على ترامب، ومع إدراكه حجم التدهور الذهني الذي يضرب بايدن؟!

  • • •

من كان ليُصدق أن رئيساً سابقاً، ومرشحاً متقدماً في سباق انتخابات العام الرئاسية، يمكن أن يُغتال بطريقة بسيطة وغير مكلفة؟! كيف لشاب عشريني من العمر يحمل بندقية قنص نصف آلية أن يصعد لأعلى مبنى لا يبعد عن منصة يتحدث منها ترامب بأقل من مائة متر، متخطياً كل الحواجز الأمنية والترتيبات المسبقة والتي تحدث بطريقة روتينية؟! نجا ترامب من الموت بمعجزة حيث تحرك للنظر إلى إحدى اللوحات أثناء خطابه، وهو ما أدى فقط أن تصيب الرصاصة جزءاً من أذنه اليمنى!

من كان ليُصدق أنه- وخلال ساعات- عقب إطلاق النار عليه، يصل إلى ملايين الأمريكيين والأمريكيات رسائل إلكترونية من حملة الرئيس ترامب يقول فيها «شكراً للجميع على صلواتكم أمس، فالله وحده هو الذي منع حدوث ما لا يمكن تصوره. لن نخاف، وبدلاً من ذلك سنبقى متحدين في وجه الشر. صلواتنا وحبنا للضحايا الآخرين وعائلاتهم. نصلي من أجل شفاء الجرحى، ونحمل في قلوبنا ذكرى المواطن الذي قتل بشكل فظيع».

ثم أضاف ترامب «أنا حقاً أحب بلدنا، وأحبكم جميعاً، وأتطلع إلى التحدث إلى أمتنا العظيمة هذا الأسبوع من ولاية ويسكونسن. تذكروا هذا: معاً سنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». ثم أرسلت الحملة رسالة أخرى بتوقيعه جاء فيها «لن أستسلم أبدا».

من كان ليُصدق أن صورة ترامب الأيقونية وهو يرفع قبضة يده اليمنى بإشارة التحدي والانتصار بينما وجهه ملطخ بالدماء وينزف من جهة أذنه اليمنى، وأفراد الخدمة السرية يسحبونه بسرعة، ستكون صورة العام وصورة حملة إعادة انتخابه؟!

  • • •

من كان ليُصدق أن أغلبية ضخمة من الحزب الجمهوري ممن تحدثتْ خلال أيام المؤتمر تؤمن لحد اليقين أن الدولة الأمريكية العميقة، ممثلة في أجهزة الاستخبارات ومكتب التحقيق الفيدرالي (إف. بي. أي)، هي من تقف خلف محاولة اغتيال دونالد ترامب؟!

ومن كان ليُصدق أن ترامب، الملياردير ابن الملياردير، سيختار دي جي فانس، الذي يمثل النقيض لترامب في كل شيء من نشأته المتواضعة في عائلة مفككة ضربها الجهل والفقر والإدمان؟

ومن كان ليُصدق أن يُختار ترامب، إلى حد كبير، رئيس أمريكا المستقبلي، وما يعنيه ذلك من أن يكون اسم سيدة أمريكا الأولى، أوشا تشيلوكوري، التي هاجر والداها من الهند قبل أربعة عقود.

* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.