الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الرد على مداخلة موفق زريق

 معقل زهور عدي

في البدء أود شكرك على تساؤلاتك التي تجول ببال كثيرين بلا شك دون أن تطرح وتناقش بطريقة منهجية.

التساؤل الأول: هل الرابطة اللغوية والثقافية كبنية فوقية كافية لتصنع أمة بالمعنى القومي اي قوم واحد وقومية واحدة؟

الا تعتبر الدولة / الامة من مقومات اندماج الأمة ووحدتها وتطَورها؟

وقبل أن أدخل في مفهوم القومية أود الاشارة إلى الحالة التي نحن عليها والتي تخلق نوعا من الشك والحيرة بالفعل في تناول ذلك المفهوم ومقاربته عربيا، فالقومية هي بنت القرن التاسع عشر في أوربة وخلال ذلك القرن أنجزت دول أوربية مركزية ” ألمانيا وفرنسا وايطاليا ” وحدتها القومية وأصبحت دولها متطابقة إلى حد كبير مع قومياتها, بالتالي لم تعد بحاجة للفكرة القومية بعد تحققها .

لكن لنلاحظ أن ذلك لم يشمل القارة الأوربية وكان على قوميات عديدة أن تنتظر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لتحقق دولها المستقلة ومنها دول البلقان التي خرج بعضها من عباءة الامبراطورية النمساوية المجرية وبعضها الآخر من عباءة الامبراطورية العثمانية ويمكن للمرء ملاحظة أن الفكرة القومية التي سادت أوربة في القرن التاسع عشر كانت الأساس الحقوقي النظري لرسم حدود الدول القومية الجديدة التي خرجت بعد الحرب العالمية الأولى.

تقبلت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الفكرة القومية في رسم حدود الدول الجديدة التي سبق الاشارة إليها لكنها لم تتقبل الفكرة القومية العربية بأي طريقة كانت، وقد احتجت النخب العربية خاصة الشامية خلال مؤتمر الصلح في باريس 1919 في أن بلاد الشام وقتها لم تكن أقل تحضرا من بعض دول البلقان التي اعترف بقوميتها وليس المجال هنا لمناقشة ذلك لكن يكفي القول إن وضعا سياسيا عالميا أعاق تجسد الفكرة القومية حتى بصورة جزئية وأعني بلاد الشام.

هذا الدفع إلى الوراء للفكرة القومية العربية، أنتج بعد مدة شكوكا حول تلك الفكرة التي أصبح ينظر إليها باعتبارها مرتبطة بالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولم تعد فكرة ملائمة للعصر.

لكن الواقع أعاد إحياء الفكرة القومية مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى دول قومية بعد العام 1991 , ثم أعاد ثانية الفكرة القومية مع تصادم روسيا القومية مع اوكرانيا.

ولابد أن نعترف أن الفكرة القومية التي تحققت في أوربة مازالت قائمة في أنحاء أخرى من العالم، فالأكراد لم ييأسوا من تحقيق قوميتهم، والدولة الايرانية الحالية دولة قومية توسعية بثوب مذهبي. أما الصين فرغم أن الفارق بين نظامها الاجتماعي – الاقتصادي وبين النظام الاجتماعي – الاقتصادي لتايوان أصبح واسعا بعد 79 عاما من انفصال تايوان لكنها مصممة على استعادة تايوان باعتبارها صينية غير معترفة باستقلالها.

وهناك العديد من القوميات مازالت في طور التعبير عن نفسها بدول مستقلة في آسيا مثل البلوش وافريقيا مثل الأزواديين وغيرهم.

وخلاصة ما سبق أنه لا يمكن القول إن الفكرة القومية قد انتهت على صعيد العالم مع انتهاء القرن التاسع عشر.

أما بالنسبة للقومية كرابطة فليس هناك مفهوم واحد متفق عليه مبني على أساس تحديد مكوناتها التي تستند إليها في نشأتها ووجودها.

وإذا عدنا لمنشئها الأوربي نجد مفاهيم متعددة مرتبطة بالبيئة التي نشأ فيها المفهوم، فالقومية الألمانية تعتبر اللغة أساسا للقومية، والألماني هو من يتكلم الألمانية أبا عن جد سواء كان تحت حكم هذه الدولة أو تلك، وألمانيا مهد القومية الأوربية كانت مقسمة لعشرات الدول والدويلات التي وحدتها القومية الألمانية التي أساسها اللغة والثقافة المرتبطة بها فقط بينما كان لكل دولة ودويلة نظامها الاقتصادي والإداري بمعزل عن الدول الألمانية الأخرى.

وقد لقيت الحركات القومية الأوربية في البداية الكثير من الاستخفاف، وكان السياسي النمساوي الشهير مترنيخ يهزأ بفكرة الوحدة الايطالية ويقول: ” لا رابطة تربط مختلف الأقطار في ايطاليا غير التسمية الجغرافية ” .

يرى الفيلسوف الألماني فيخته أن ” كل الذين يتكلمون بالألمانية يكونون أمة واحدة ” وهو في خطبه يخاطب الأمة الألمانية دون أن يلتفت إلى التجزئة التي أصابتها من جراء ” أنانية الملوك والأمراء ودسائس الدول الأجنبية الطامعة. “

وقد كانت اللغة الواحدة القاعدة التي شكلت القوميات وحدود الدول في كل من بولونيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وألبانيا ويوغوسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وذلك منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر.

وفي عملية تفكك الدولة العثمانية انفصلت جميع الشعوب التي لا تتكلم التركية، وكذلك تم انفصال الشعوب عن الامبراطورية النمساوية المجرية باعتبارها تمايزها اللغوي.

لكن لماذا لم تحرز القومية العربية تلك القوة الدافعة الكفيلة بتوحيد بعض الدول العربية على الأقل خلال كل الفترة السابقة.

في البداية ثمة فرق بين الرابطة الطبيعية كما في العائلة والقبيلة وبين الرابطة الأعلى تطورا في الوعي الانساني كرابطة القومية التي تحددها اللغة والثقافة، بالتالي فهناك علاقة بين درجة تطور المجتمع وبين وعي ذلك المجتمع لتلك الرابطة، وغني عن القول أن الشعوب العربية كانت على درجة من التخلف الحضاري عند انفصالها عن الدولة العثمانية هذه واحدة.

الثانية وهي الأهم: أن كل حلقات التطور السياسي في المنطقة العربية منذ العام 1918 عند سيطرة الدول الغربية الكولونيالية على المشرق العربي وحتى الآن كانت ومازالت محكومة بتلك الهيمنة ولم تخرج عنها سوى بشكل الأعلام والأناشيد الوطنية. والمحاولة الوحيدة للخروج عن الهيمنة الغربية وأعني بها وحدة مصر وسورية والمرحلة الناصرية تم تحطيمها كما تم تحطيم المملكة العربية السورية عام 1920 .

إن أية قراءة للتاريخ الحديث لسورية والمشرق العربي تغفل التأثير العميق للهيمنة المباشرة وغير المباشرة للدول الكبرى لا يمكن أن تسمح باستخراج نتائج واقعية لتطور هذه المنطقة بما في ذلك فاعلية الفكرة القومية في الواقع العربي.

أخيرا: فمهما كانت الفكرة صائبة وواقعية وتقدمية فإن تأثيرها في الواقع مرتبط بقوة حاملها الاجتماعي، فالسيف مهما كان حادا لن يفعل شيئا إذا لم تحمله يد قوية.

ثانيا: الدولة ليست شرطا لوجود القومية وكما سبق فإن ألمانيا مهد الفكرة القومية كانت مقسمة إلى عشرات الدول والدويلات، بل إن الفكرة القومية جاءت من أجل توحيدها في دولة واحدة، وكذلك إيطاليا. أما الأمة فهي الجماعة البشرية موضوع القومية.

ثالثا : بالنسبة للروابط العصبوية القبلية والطائفية فهي فاعلة في مجتمعنا بالتأكيد , لكن ذلك يحدث في زمن التدهور العام , وليست الرابطة القومية وحدها التي تراجعت بفعل ذلك التدهور بل الرابطة الوطنية أيضا , ومثلما لا ينبغي الحكم على الرابطة الوطنية من خلال مرحلة زمنية كهذه , لا ينبغي الحكم أيضا على الرابطة العربية من خلال مرحلة الضعف والتدهور الراهنة , والشعوب والأمم تمر بمثل تلك المراحل , لكن الأمم الحية لا تستكين ولا تستسلم , ولاشك أن للنخب دورا في مواجهة النزعات القبلية والطائفية والعصبوية , وفي إبقاء الأهداف الوطنية والقومية حية في قلب الشعوب .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.