خلال الورشة التي أقامها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2024[1] حول تجربة الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك ودروسها، والتي تحدّث فيها كلٌّ من البروفيسور علي أحمد باسيج، أستاذ في كلية الدراسات الإسلامية- جامعة سراييفو، والبروفيسور أمير هادزيكادونيتش، أستاذ في معهد سراييفو للعلوم والتكنولوجيا؛ توقّفتُ عند ما قاله البروفيسور علي أحمد باسيج: “في عام 1992 قلنا: نضحّي بالسلام من أجل العدالة، ثم عدنا بعد أربع سنوات، وقلنا: نضحّي بالعدالة من أجل السلام“. فقد علّمتهم الحرب الدرس الأهم، وهو عودة السلام والاستقرار. وهنا نتساءل نحن السوريين: ما هي الدروس التي يمكن أن نستقيها من تجربة البوسنة والهرسك؟ بل ما الدروس التي علّمتنا إياها سنوات الحرب السورية المريرة التي استمرت 13 عامًا حتى الآن، وما زالت حبّات المسبحة تكر.
ما زلت أذكر كثيرًا من أحداث الحرب الأهلية في البوسنة جيّدًا، فقد كنّا نتابع أحداثها وتفاصيلها يوميًا، خلال النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين. لقد كان تدخّل أوروبا والولايات المتحدة، في الحرب الأهلية البوسنية، مدفوعًا بتحقيق مصالح الغرب الاستراتيجية، أكثر مما هو مدفوع بأسباب إنسانية لنصرة الطرف الأضعف وإنصافه مما ارتُكب بحقّه من قبل طرف أقوى؛ إذ كان من ضمن نهج الغرب، لتفتيت الكيانات التي كانت معادية له في المعسكر الشرقي ومن يدور في فلكه، أن يعمل من أجل تفتيت يوغوسلافيا (الاتحاد اليوغسلافي) الذي شكّل دولة من الحجم المتوسط الأدنى، بعدد سكان قارب 23 مليون نسمة سنة 1990، ولعبت تلك الدولة دورًا بارزًا بين دول (عدم الانحياز)، في إبان سنوات الحرب الباردة، ليخلق منها كيانات صغيرة، كلٌّ منها يحتاج إلى الاعتماد على جهات خارجية من أجل البقاء. ومن ثم تشكّلت منه ست دول صغيرة، هي (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، الجبل الأسود، البوسنة، ماسادونيا وإقليم كوسوفو)، ثم فرض الغرب نمطًا سياسيًا ليبراليًا على تلك البدان. حيث شجعت أوروبا والولايات المتحدة شعوبَ يوغسلافيا على المطالبة بالاستقلال، وسارعوا إلى الاعتراف بالدول التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد اليوغسلافي، كما شجّعت دولٌ إسلامية عدة -منها السعودية وباكستان وإيران وتركيا- المسلمينَ في البوسنة والهرسك على الانفصال، وقدّمت لهم بعض دولها، كالسعودية وإيران، الدعمَ المادي وزوّدتهم بالسلاح، في حين كانت روسيا مشغولة في تلك الفترة بمشكلاتها الداخلية، ولم تكن في وارد تقديم الدعم للصرب.
في سورية، كما في بلدان الربيع العربي، اندفع الغرب ليدعم ما بدا موجة ثالثة من موجات الديمقراطية في العالم، فبعد موجة أميركا اللاتينية، في ثمانينيات القرن العشرين، جاءت موجة أوروبا الشرقية في تسعينياته، ثم بدا أن الربيع العربي، في مطلع العقد الثاني في القرن الحادي والعشرين، موجة ثالثة من موجات الديمقراطية والليبرالية. غير أن تعقيدات كل ما يتعلق بالعرب قطعت الطريق على هذا التحول الديمقراطي، وانعطفت بلدانه باتجاه شتاء قارس، ولا سيّما في سورية واليمن وليبيا، ثم تبعها دولة السودان.
خلال الورشة المذكورة آنفًا، قال الدكتور علي أحمد باسيج أيضًا: “حتى العام 1987، لم يكن أحد من اليوغسلاف، على اختلاف مشاربهم، يتصور أن تحدث كل تلك الحروب والأحداث، فقد كان اليوغسلاف، على اختلاف مذاهبهم، يمتلكون جميعًا الثقافة ذاتها تقريبًا ومستوى التعليم ذاته منذ العام 1945، وكانت الأيديولوجيا الاشتراكية هي السائدة، ولم يكن ثمة عصبيات مذهبية أو قومية أو دينية بارزة، ولم يكن أحدنا يهتمّ لدِين الآخرين أو لمذهبهم، ولكن خلال خمس سنوات فقط حدث الانقلاب”.
لقد شكّل تأجيج المشاعر القومية المقترنة بالدينية والمذهبية أداةَ تفجير للاتحاد اليوغسلافي، وكان مصدر ذلك التأجيج قيادات محلية بازغة طامعة بتسنّم مراكز قيادية في جماعاتها، فكان تأجيج المشاعر القومية والدينية الحصانَ الذي يمكن امتطاؤه. أما من ناحية عموم الناس، فاليوغسلافيون الذين واجهوا صعوبات في عيشهم قبل 1990 كانوا طامحين إلى التغيير، مدفوعين “بالحلم”، أو بالوهم، بأنّ الليبرالية على الطريقة الغربية -وهي التي لا يعلمون عنها سوى نتف من أخبار براقة- ستجلب الرفاه لهم جميعًا، وبدأت المشاعر القومية والدينية الكامنة، وقد كانت خامدة أيام الحكم الشيوعي السابق، تلقى استجابة متصاعدة بين الأقوام. فاجتمعت مطامح القيادات المحلية، مع رغبة الناس بالتغيير، مغذية المشاعر القومية والدينية التي تعرّف كل طرف بالتضاد مع الآخر، وأدى اجتماع هذه العوامل إلى تأجيج مطالب الاستقلال بصبغة قومية ودينية.
الحدث الرئيس الذي شكّل مفرقًا وقادحًا في تأجيج المشاعر القومية الملتحمة مع الدينية والمذهبية والنزعة الاستقلالية، وأدى بالتالي إلى نشوب الحرب في البوسنة، هو إجراء انتخابات محلية سنة 1991، على مستوى الكيانات المكوّنة للاتحاد اليوغسلافي، قبل إجراء انتخابات على المستوى المركزي اليوغسلافي أولًا، وقبل إنشاء سلطة مركزية جديدة منتخبة، تعقب سلطة يوغوسلافيا السابقة، إذ أدى ذلك إلى تأجيج المشاعر القومية الانفصالية، بتشجيعٍ من الغرب، فبعد الانتخابات غيّرت الأحزاب السياسية المحلية التي فازت بالانتخابات برامجها، فصارت مؤيدة للانفصال ومؤيدة للاستقلال، في حين كان بناء سلطة مركزية يوغسلافية منتخبة أولًا سيقوّي اتجاهات البقاء في الاتحاد اليوغسلافي على أسس جديدة يُتفق عليها.
كان الواقع في سورية قبل 2011 مختلفًا، فقد بدأ تراجع الفكر القومي واليساري منذ سبعينيات القرن العشرين، الذي كان مسيطرًا بين خمسينيات القرن العشرين وستينياته، مقابل نمو الانتماءات الدينية والطائفية والقبلية والمحلية، ووصلت ذروتها سنة 2010، ولكنها كانت ممنوعة من الظهور، وكان النظام يقمع أي تعبير عنها. ونشأ نوع من الاستقطاب في سورية تعود بداياته لانقلاب آذار 1963 الذي جاء إلى السلطة بمجموعة من صغار الضباط من ناصريين وبعثيين، وبعد صراعات وتصفيات انتهت السلطة بيد الضباط من الأقليات، وخاصة من العلويين، الذين حكموا تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي، وبعد صراعات فيما بينهم انتهت السلطة الى يد ضابط فرد من بينهم (حافظ أسد) سنة 1970. وقد اتخذت السلطة طابعًا طائفيًا، ونتيجة إحساس السلطة بنقص الشرعية، وأنهم مغتصبو سلطة وثروة ومكانة اجتماعية، فقد أحاط الحكّام الجدد أنفسهم بسور من الأمن والجيش من أبناء جلدتهم، وأقاموا نظامًا أمنيًا قمعيًا، وكانت ممارسات الحكام الجدد تغذي عمليًا المشاعر الدينية، وقد انفجر الصراع في سورية في أكثر من مناسبة، بدءًا من أحداث حماة في نيسان 1964، ثم خلال الفترة بين 1977 و 1982، التي شهدت صدامًا بين الطليعة المقاتلة والنظام ووقعت أحداث دامية على مدى خمس سنوات 1977 – 1982، من بينها أحداث مدرسة المدفعية في حلب، وأحداث حماة في شباط 1982. ولكن الظروف لم تكن مواتية لأن يحقق أي تحرّك منها نجاحًا وانتشارًا، على أن نار التمذهب والتطييف بقيت جمرًا يتّقد تحت الرماد. وقد خلق هذا الوضع أساسًا يغذي نمو التمذهب في سورية، في وقتٍ بات يتسم بالفراغ السياسي والفكري، بعد تراجع الفكر القومي واليساري والاجتماعي. وقد تغذّى هذا التمذهب والتطييف بالبترو-دولار، بأشكال وأساليب مختلفة، سواء عبر إنفاق مباشر، وخصوصًا من السعودية، أو من خلال تأثر مئات آلاف السوريين الذين عملوا في دول الخليج.
لذا، لم يكن مفاجئًا أن يتخذ الحراك الشعبي المعارض الذي انطلق في آذار 2011 ضدّ سلطة الأسد طابعًا مذهبيًا لينًا في انطلاقته الأولى، وقد عمل النظام على تقوية الطابع المذهبي الطائفي للصراع، ظنًا منه أن هذا الأمر سيشتت أعداءه ويخدم بقاءه، وصبّ تدخّل إيران والميليشيات التابعة لها، مثل حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراق وفاطميون وزينبيون من باكستان وأفغانستان، الزيتَ على نار التمذهب والتطييف. ولاقت الميول الطائفية المعارضة مساعي النظام وحلفائه في منتصف الطريق، فتحولت الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية. لقد كان التمذهب والتطييف هو القنبلة التي حولت الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية.
قَدِمَ إلى البوسنة قرابة 2000 مقاتل جهادي إسلامي وسلفي، وقدّمت كرواتيا لهم تسهيلات الدخول، كما سهلت مرور المساعدات المادية وبالسلاح للبوسنيين، وذلك بدفع من أوروبا وأميركا، وكان هؤلاء الجهاديون، حسب تعبير البروفيسور علي أحمد باسيج، “مُعادِين للديمقراطية والدولة المدنية، ويريدون إقامة دولة دينية (إسلامية)، في حين كنّا نحن، والقائد عزت بيجوفيتش، نريد بناء دولة حديثة ديمقراطية علمانية، وكانوا في الواقع خليطًا من إرهابيين وجواسيس ومتعصبين”، ولكن القيادة البوسنية استطاعت إخضاعهم لسيطرتها، فلم يستطيعوا إلحاق ضرر كبير، ولكن كان لوجودهم دور سلبي بالمجمل.
في سورية، دخلت أعداد من جهاديين وسلفيين، من كل حدب وصوب، وكانت أكبر بكثير مما دخل إلى البوسنة، وجاء دخولهم ليعزز تحوّل الطابع الوطني لغالبية الفصائل التي حملت السلاح في العام الأول للانتفاضة السورية، إلى الطابع الإسلامي ثم الجهادي لبعضها، كالنصرة وأشباه النصرة، فقد تدفقت منذ 2012 أعداد كبيرة من مقاتلين إسلاميين، عرب وأجانب، إلى سورية، ممن قاتلوا في العراق وأفغانستان والشيشان ومصر وغيرها، وقد عزّز النظامُ وجود الفصائل الإسلامية ودورها، بأن أطلق سراح مئات الجهاديين السوريين الذين كان يحتجزهم في سجونه، وكان عددٌ منهم جواسيس له ولإيران، واتخذ وجود الفصائل السلفية والجهادية أبعادًا دوليةً خطيرةً، عندما سيطر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أجزاء كبيرة من العراق وسورية، مما دفع الرئيس أوباما إلى أن يعلن الحرب على التنظيم، ويعلن تشكيل تحالف دولي للقضاء على (داعش)، ويحرف اهتمام المجتمع الدولي، من التركيز على الانتقال السياسي في سورية، إلى التركيز على القضاء على هذا الخطر الإرهابي الداهم.
لعب الفاعلون الخارجيون دورًا حاسمًا في إيقاف الحرب في البوسنة، ولعب وقوع البوسنة في أوروبا دورًا رئيسًا في اندفاع أوروبا والولايات المتحددة لوضع حدّ عاجل للحرب. في حين لم يتوفر هذا العامل لسورية، بل لعب وقوعها في الشرق الأوسط، الملعون من الغرب، ووقوعها إلى جانب إسرائيل، دورًا في ترك الحرب تمضي كي تُدمّر ما تبقّى من سورية وتلتهم أبناءها، وكي تسهم في فوضى الشرق الأوسط. ولعل القول الشهير الذي يُنسب إلى هنري كيسنجر ينطبق على الحالة السورية، إذ قال: “ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحلّ أي مشكلة في العالم، بل عليها أن تديرها بما يخدم المصالح الأميركية”. يضاف إلى ذلك أن أفكار “الفوضى الخلاقة” التي نظّرت لها مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية في عهد جورج بوش الابن، كونداليزا رايس، لا يمكن أن تكون صوتًا نشازًا، بل هي تعبير عن أحد أنماط السياسة الأميركية ومناهجها ومدارسها.
لم تكن الحرب الأهلية في البوسنة حربًا بالوكالة، فقد اجتمع الفاعلون الخارجيون جميعًا على دعم طرف واحد في الصراع كان هو الأضعف، في حين لم يكن الموقف كذلك في الحرب السورية، حيث انقسم الفاعلون الخارجيون إلى أكثر من مجموعة: فداعمو المعارضة انقسموا في جبهتين، تركيا مع قطر، ثم السعودية مع الإمارات، أما داعمو النظام إيران وروسيا، فقد توافقا على برنامج موحد، أما أوروبا والولايات المتحدة فكانت لكل منها سياسته الخاصة. وقد وجدت الأطراف الخارجية في الطرف البوسني المناوئ للصرب طرفًا موحدًا منظمًا، له قيادته السياسة والعسكرية الموحدة المندمجة، فقدّموا له الدعم المادي والعسكري والسياسي والإعلامي، في حين قدّمت الدول الداعمة للمعارضة السورية مساعداتها إلى عدد كبير من الفصائل المتفرقة عن بعضها، والتي لا تخضع لأي قيادة مركزية عسكرية أو سياسية، ولها أجندات مختلفة، بل إن كل طرف من الداعمين قد دعم مجموعات متعددة، بدلًا من جمعها في مجموعة واحدة كبيرة قادرة وفاعلة، ولم يعمل على دمج القيادتين السياسية والعسكرية، فأسهم ذلك في زيادة حالة الشرذمة. وما زالت الشرذمة إلى اليوم سيّدة الموقف وعنوان المرحلة.
كانت أجندات الدول الداعمة للبوسنيين أجندات موحدة بأهدافها وأدواتها، وتتمثل بمساعدتهم على الاستقلال، وردع الصربيين المتفوقين بالعدد والعتاد. وبالمقابل، لم يكن للدول الداعمة للمعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، الأجندة ذاتها، فقد انقسمت بين جبهتين، تركيا وقطر من جانب، والسعودية والإمارات من جانب آخر، وقد خشيت كل من السعودية والإمارات من سيطرة تيار الإسلام السياسي على السلطة في سورية، في حال سقوط الأسد ونظامه. من جهة البوسنيين، كان هدفهم موحدًا، وهو الحصول على الاستقلال ووضع حد للحرب الأهلية، وحمايتهم من تفوّق الصرب الذين يريدون الاحتفاظ بوحدة البلاد واستمرار سيطرتهم، في حين لم يكن للانتفاضة السورية برنامج موحد يقبله الجميع، بغض النظر عن بعض الوثائق التي أعلنها المجلس الوطني ومؤتمر القاهرة، ففي الواقع، كان للفصائل التي أصبحت صاحبة الكلمة العليا في الصراع، أجندات متباينة متناقضة متعارضة، تموج بين بناء دولة حديثة بنظام ديمقراطي، وبين بناء دولة دينية قروسطية.
من حيث ملاحقة مجرمي حرب، كان المجتمع الدولي أكثر فاعلية في حرب البوسنة، مقارنة بالحرب السورية، لكنه لم يتخذ ما يكفي من إجراءات، إذ عُقدت محاكمات لعدد قليل منهم، وتُرك عدد كبير من المجرمين بعيدين من الملاحقة والمحاسبة، في حين لم يستطع المجتمع الدولي توحيد كلمته لملاحقة مجرمي الحرب السورية، مع أن أعمالهم كانت أفظع بكثير، وذلك بسبب الفيتو الروسي والفيتو الصيني. وعلى الرغم من ذلك، تفيد تجربة حرب البوسنة وتجارب حروب أهلية أخرى أنه من غير الممكن التوسع في ملاحقة كل من ارتكب جريمة في سياق تحقيق العدالة الانتقالية، لأنها ستشكل موضوعًا جديدًا للصراع يمنع الوصول إلى عودة السلم الأهلي. لكن تجربة حرب البوسنة وحروب أهلية أخرى تبيّن أنه من الضرورة توثيق جرائم الحرب، ومتابعة الجهد لإحضار كبار مجرمي الحرب إلى العدالة الدولية. وتبين تجربة محاكمات بعض من ارتكبوا جرائم حرب في سورية، في بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، أهمية التوثيق وضرورته.
من جانب آخر، بينت تجربة حرب البوسنة أن ما حققته محكمة جرائم الحرب، بالرغم من ملاحقتها وإدانتها لعدد قليل من مجرمي الحرب، كان محدودًا قياسًا بمن ارتكبوا جرائم حرب، ومع ذلك تبقى المحكمة مهمّة، فلا يجوز إهمالها، ومن الضروري توثيق جرائم الحرب. غير أن محكمة جرائم الحرب وإجراءات العدالة الانتقالية ليست هي التي تحقّق السلم المجتمعي، ففي النهاية، لن يكون بالإمكان محاكمة وإدانة كل من ارتكب فعلًا يستحقّ المحاكمة والإدانة، فالعدد سيكون كبيرًا، مع اختلاف حجوم أفعالهم، ممّا يمنع أي مصالحة وطنية، ثم سيحتج كثيرون بأنهم تلقّوا الأوامر، فضلًا عن أنه لم يسبق في أي حرب أهلية أو دولية محاكمة وإدانة جميع من ارتكبوا أفعالًا تستحق العقاب، فحتى في الحرب العالمية الثانية، التي أدت إلى موت نحو 60 مليون إنسان، فقد أدين بضع مئات من القادة النازيين فقط، ومن ثم لا بد من إدانة كبار من أعطوا الأوامر، كي لا يبقى كبار مجرمي الحرب طلقاء. وفي هذا السياق، تنبثق مسائل مهمة: ماذا عن مصير أغنياء الحرب الذين اغتنوا، عبر النهب والاختطاف وصناعة المخدرات والاتجار بها؟ هل تمكن محاكمتهم ومحاسبتهم؟ أم أنهم سيُتركون كي يغدوا سادة المجتمع الجدد؟ وإذا تُركوا، فأيّ مجتمع سيُنتجون حينها؟ وكيف سيتمّ البناء بأيدي من أدمنوا الهدم؟!
على الرغم من انتصار المجتمع الدولي للطرف البوسني ضدّ الصربي، فإنه حافظ على موقفٍ متوازنٍ نوعًا ما، وقدّم، بل فرضَ حلًا متوازنًا نوعًا ما، إذ لم يكن يميل لصالح أي طرف بالكامل، وقد نصّت اتفاقية دايتون على تقسيم البوسنة والهرسك إلى جزأين هما: فدرالية البوسنة والهرسك، بنسبة 51 بالمئة من مساحة الدولة، وجمهورية صرب البوسنة، بنسبة 49 بالمئة. وكان دافع المجتمع الدولي لفعل ذلك هو معرفته أنه لا يمكن أن يُبنى السلام المجتمعي على القاعدة الصفرية، Zero-Sum-Game أي أن يكون طرف رابح كل شيء، وطرف خاسر كل شيء.
وفي البوسنة، أجبرت قوات الناتو الصرب على القبول، وما زلت أذكر شدة القصف الذي تعرض له الصرب، فالأوروبيون والأميركان هم من حقق الخسارة للصرب، ولكنهم عند صناعة الحل صاغوا حلًا متوازنًا نسبيًا. أما في الحالة السورية، فقد تغاضى الغرب عن تدخّل روسيا في أيلول 2015، لتقلب المعادلة لصالح النظام، الذي أبدى تشددًا وتطرفًا في شروطه، ورفض فتح أي باب لأي حل سياسي، حتى في أكثر لحظاته ضعفًا، ثم قالوا للمعارضة أنتم الخاسرون، وعليكم أن تقبلوا هذه النتيجة.
استقرّت اللعبة الدولية على إيجاد حلٍّ في البوسنة، وفرضته بالقوة، لكنها لم تستقر بعدُ على حلّ خاص بسورية، فما زالت إيران وروسيا، اللتان تدعمان النظام، تصران على أن يحصل النظام على كل شيء، بحجة أن المعارضة قد خسرت الحرب، أما أوروبا والولايات المتحدة، فقد اتخذتا موقفًا رافضًا لشروط روسيا وإيران رفضًا سلبيًا، من دون أي فعل إيجابي للوصول إلى حل، أما الموقف العربي فهو غير واضح، فالسعودية والإمارات أيّدتا بقاء الأسد ونظامه، خشية سيطرة الإسلام السياسي على الحكم في سورية، وسارتا خطوات في تطبيع علاقاتهما معه، وقدّمتا وعودًا له شريطة ابتعاده، ولو نسبيًا، عن إيران، وانفتاحه أمام حل سياسي يُشرك المعارضة في السلطة، وفق القرار الأممي 2254، ولكن سرعان ما اكتشفت الدولتان أن نظام الأسد غير قادر، بل غير راغب، ولم يلتزم بتنفيذ أيّ من الوعود التي تعهّد بها. وفي الوقت ذاته تخشى الدولتان من انهيار النظام، مما يخلق كثيرًا من المخاطر.
المعضلة باتت في سورية أنّ معارضة الأسد ونظامه لم تستطع أن تشكل بديلًا فعليًا للنظام يكون مقبولًا من الغرب، سواء من حيث البرنامج أو من حيث التنظيم، فباتت قناعة الأوساط الدولية والإقليمية والعربية الفاعلة أن سقوط النظام يُهدّد بالفوضى في سورية، ودرس ليبيا قريب، وفي الوقت ذاته يُصرّ النظام وداعموه على استسلام المعارضة لشروط النظام وإعادة تأهيله، مع أن الجميع يعلم أنه، بعد الجرائم التي ارتُكبت في الحرب، لا يمكن بناء السلام المجتمعي مع بقاء نظام ما قبل 2011 كما كان، فكيف الحال مع شروط وظروف أسوأ مما كان 2011! أي أن فرض شروط النظام وداعميه لشكل الحل في سورية سيُبقي النار تحت الرماد، لأن السلطة الباقية ستكون دومًا بحاجة إلى الدعم الخارجي، وتحديدًا إيران، وسيكون هناك نوع من الانتداب الإيراني لسورية، تحت غطاء دعم الأسد ونظامه، وهذا ما يحصل الآن. ومن ثم فإن الانتقال السياسي شرطٌ أساس لتحقيق الاستقرار، غير أن شروط الانتقال السياسي ما تزال غير متوفرة.
من خلال فهم تجربة حرب البوسنة، يتبيّن أن استعادة السلم الأهلي توجب فرض حلول اجتماعية عبر المجتمع السوري ذاته، وعبر التوافقات بين السوريين أنفسهم للتوصل إلى حلول وسط، وقد نقل محمود بادنجكي، قول الأخضر الإبراهيمي لمجموعة من أفراد المعارضة في القاهرة في أيلول 2012: “الخطر القادم أكبر بكثير من الماضي … القضيّة في أيديكم أنتم، وهناك من يقول غير ما توافقون عليه…. لبنان استمرّ في الحرب 15 عامًا، وحاول المجتمع الدوليّ بكافّة الطرق، فلم ينجح، ثم أتى الحلّ بأيديهم”. وحين عجز البوسنيون والصرب والكروات عن التوصل إلى توافقات فيما بينهم، مع إصرار أوروبي وأميركي على وضع حد للحرب في هذا البلد الأوروبي، قاموا بفرض حل عليهم في دايتون، فلم يكن الوسيط الأميركي ريتشارد هولبروك مجرد وسيط، بل كان يفرض شروطه على الجميع، وكان قد أحضر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 ممثلين بوسنيين وصرب وكروات، إلى قاعدة عسكرية قرب مدينة دايتون في الولايات المتحدة، إضافة إلى وجود ممثلين عن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، وقال للطرفين “اتفقوا، وإلّا..”، وأوصلهم إلى اتفاقٍ خلال 21 يومًا فقط من المفاوضات، أما في سورية فقد وضعوا وسيطًا أمميًا لا يملك أي صلاحيات. وها قد مضى عشر سنوات وعدد من جولات المفاوضات، إضافة إلى مساري آستانة وسوتشي الروسيين، دون إحراز أيّ تقدّم. والمبعوثان الأمميان اللذان احترما نفسيهما (عنان والإبراهيمي) استقالا، عندما لمسا أن الولايات المتحدة وروسيا لا تريدان وضع حد للصراع، في حين استمر كلٌّ من ديمستورا وخلفه بيدرسون في مهمتهما لسنوات، من دون أي إنجاز، مستمتعين بالرواتب العالية التي يتقاضونها. ومما يُذكر في هذا السياق ما نُقل عن الإبراهيمي، خلال مفاوضات جنيف بين المعارضة والنظام مطلع 2014 لوفد المعارضة المفاوض، وهو قوله إنه لن يقبل بالكذب على الشعب السوري، ولن يقبل بالاستمرار في المماطلة، وليس مستعدًا لإهدار الوقت، والسوريون يذبحون، وقوله: “لن أقبل أن أتاجر بدم الشعب السوري، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمّل المسؤولية، ويخرج من هذه المفاوضات بنتيجة، أما أنا فلن أتحمل المسؤولية”. وكان يضع مسؤولية فشل المفاوضات على الروس والأمريكان.
وُضعت البوسنة بموجب اتفاقية دايتون تحت نوع من الوصاية الدولية، وتمت عملية نشر قوات حفظ السلام الدولية. وفوّضت الاتفاقية مجموعة واسعة من المنظمات الدولية بمراقبة مكونات الاتفاقية والإشراف عليها وتنفيذها. كانت قوة التنفيذ التي يقودها حلف الناتو مسؤولة عن تنفيذ الجوانب العسكرية للاتفاقية، وانتشرت في 20 كانون الأول/ ديسمبر عام 1995، لتتولى قيادة قوات الحماية التابعة للأمم المتحدة. وكلّفت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بتنظيم أول انتخابات حرة عام 1996. وما زال البوسنيون يعانون تبعات كثير من الجوانب الضعيفة في اتفاق دايتون. وما لم يتوافق السوريون فيما بينهم، فسيفرض الآخرون عليهم رؤيتهم، رغم أن كثيرًا من المحللين السوريين وغير السوريين باتوا مقتنعين، مع عجز السوريين على التوافق، بفرض مثل هذه الوصاية. وفي الوقت ذاته، لا يمكن للسوريين الاستغناء عن مساعدة الدول الإقليمية والعربية، سواء في تحقيق الاستقرار السياسي واستتباب الأمن أو في إعادة الإعمار المادي والمجتمعي. وقد بيّنت تجربة حرب البوسنة أن التوافق بين السوريين يتطلب اعتراف كل طرف بما اقترفه، كخطوة لا بدّ منها للقبول المتبادل والتوافق، كما تبين، في حال التوافق، ضرورة “طمر” أماكن الجرائم كي تنساها الأجيال القادمة، وإلا فسيبقى جمر نار الانتقام تحت الرماد لأجيال مقبلة، غير أن طمر هذه الأماكن لا يكون قبل تحقيق التوافقات، ووصول كل طرف إلى نوعٍ من الرضى الذي يجعله مستعدًا للتجاوز.
في حرب البوسنة، وهي جزء من يوغوسلافيا التي سيطر فيها نظام سياسي يُقيّد حركة المجتمع ومبادرات المواطنين، بانتظار ما يسقط من أعلى من قرارات وتوجيهات، لم يكن للمجتمع المدني وللمواطن العادي تقاليد للعمل المدني السياسي والاجتماعي، وعندما انفجر المعسكر الشرقي وأفسح المجال أمام حركة الفرد والمجتمع؛ اندفع الجميع بخبراتهم المحدودة إلى العمل، وضمن أجواء الشحن الطائفي، كان من السهل حشد المواطنين خلف قادةٍ أجادوا التعبئة الطائفية والمذهبية، فاستأثر هؤلاء القادة بمصاير الحرب، وكانت الصراعات توجّهها مطامع القادة وتصوراتهم الشخصية إلى حدّ بعيد.
وفي سورية، لم يختلف الأمر كثيرًا، سوى أن المعارضة السورية لم تكن طرفًا موحدًا، بل أطرافًا، فكانت النتائج سيئة إلى حد الكارثة. وهنا يبرز تفعيل دور المواطن السوري، وتفعيل الشارع السوري ليكون شارعًا فعالًا مؤثرًا، يراقب ما يفعله القادة، ويشكّل قوة ضغط عليهم، تلزمهم بالتمسك بما يحقق مصلحة المواطنين على نحو عريض، فلا تترك التوافقات والتسويات بيد أمراء الحرب وحدهم، ولا شكّ في أن هذا يتطلب تفعيل أدوار المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وانطلاق المبادرة من الأسفل، والانتظام في مؤسسات كي يكون للسوريين كلمة ودور في حاضرهم ومستقبلهم. وليس على الشارع السوري انتظار المبادرات أن تأتي من أعلى، فليس لمن تسنّموا القيادات من قبلُ مصلحة في إيجاد حل يضمن مستقبل سورية، بقدر ما يضمن مصلحتهم في صياغة حلول تحقق مصالحهم الخاصة. وعادةً ما يكون الناس العاديون قادرين على الاتفاق، في حين يؤدي تدخل ذوي المصالح الأنانية من القادة السياسيين والروحيين إلى التلاعب، ويصبح الوصول إلى توافقات أمرًا معقدًا.
وعلى الرغم من عودة ما يقارب 780 ألف لاجئ في البوسنة والهرسك، فقد أنتجت الحرب تغييرات كبيرة في التركيبة السكانية للبوسنة والهرسك، إضافة إلى أن بعض المناطق داخل البوسنة والهرسك أصبحت ذات تنوع اثني قليل، مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، فمن كانت بيوتهم تقع في أحياء ذات غالبية مغايرة دينيًا ومذهبيًا، فضّلوا استمرار السكن في محيطهم المتجانس. والفارق هنا عن التجربة السورية هو أن امتداد الفترة الزمنية (أكثر من 13 سنة حتى الآن) يخلق حقائق على الأرض، أدّت إلى ولادة ونمو أجيال لا تعرف عن مجتمع أهاليهم السابق سوى ما يذكره الأهل من أخبار وذكريات، إضافة إلى أن حجم التهجير قد شمل أكثر من خمسة ملايين نزحوا داخل سورية، وأكثر من خمسة ملايين آخرين لجؤوا إلى دول الجوار ودول قريبة، وهناك أكثر من مليون آخرين لجؤوا إلى دول بعيدة، في أوروبا وأستراليا وأميركا، أي إن أكثر من نصف سكان سورية هم اليوم خارج ديارهم. وبهذا تكون المهمة أصعب وأعلى تكلفة بكثير. وتبيّن تجربة حرب البوسنة، وكذلك تجارب حروب أخرى، أنّ تعويض عدد كبير من المواطنين العائدين الذين أصابتهم خسائر كبيرة في أرزاقهم وممتلكاتهم سيكون محدودًا، وأن البحث عن مساعدات وموارد من أجل إعادة الإعمار سيعوّض خسائرهم على نحو غير مباشر.
اعتقد البوسنيون أن اتفاق دايتون الذي وضع حدًا للحرب هو اتفاق مؤقت، وتساهلوا في بعض جوانب الاتفاق غير المناسبة، ظنًا منهم أنهم قادرون فيما بعد، حين تهدأ الأجواء، على إعادة التفاوض وتعديل تلك الشروط بأفضل منها، غير أن الوقائع بينت أن ما اعتقدوه اتفاقًا مؤقتًا قد غدا اتفاقًا طويل الأمد، بسبب صعوبة التوصل إلى توافق على التعديلات. ولذلك من الضروري أن يتعلم السوريون هذا الدرس، وأن يحرصوا على أن يكون الاتفاق مناسبًا للمستقبل من مختلف الجوانب، لأن تعديله سيكون صعبًا جدًا، بما يعني ضرورة الاهتمام بمحتوى الاتفاق المؤقت وتبعاته المستقبلية.
ولعلّ من أهمّ جوانب الاتفاق أن ينصّ الدستور ونصوص الحريات العامة فيه على أن يُعطى الناس قدرة على الحركة والتنظيم والتعبير وإنتاج قواعد انتخابات نزيهة، بما يمنع السلطة من التحكّم المطلق في كل شيء، وأن يُضبط نظام عمل البرلمان وآليات اتخاذ القرار فيه، بحيث يكون برلمانًا حقيقيًا فعالًا، وليس ديكورًا، كما هو مجلس الشعب السوري، وبحيث لا تستطيع أي أقلية تعطيله، فمنح أي أقلية حق الفيتو المعطل سيُعطل البرلمان، وسيخلق منبرًا للمزاودات وتلاعب السياسيين (تجربة الثلث المعطل البائسة في لبنان)، وأن تُضمن في الوقت ذاته حقوق الأقليات، التي يضمنها الدستور وتضمنها القوانين والممارسة الفعلية التي تعكس النيات، والأهم أن يكون النظام الجديد نظامًا برلمانيًا، وأن يُتجنب النظام الرئاسي الذي اكتوت سورية به عدة عقود، كما تكتوي تونس الآن بالنظام شبه الرئاسي.
لم تشكل إعادة هيكلة الجيش والأمن في البوسنة معضلة كبيرة، والسبب هو وجود قوات أممية تولّت تنفيذ اتفاق دايتون، وضمنت إعادة هيكلة الجيش والأمن بسهولة. أما في سورية فإن إعادة هيكلة الجيش والأمن والميليشيات تشكّل عقدة العقد، فمن جهة النظام، يتسم جيش النظام بسيطرة الضباط العلويين على قياداته، إضافة إلى الصبغة العلوية لبعض الوحدات العسكرية المهمة، وقد ارتبط القتل والتشريد والدمار المادي والمجازر باسم هذا الجيش، وباسم الميليشيات الطائفية التي تشكلت في سورية وجُلبت إليها، وبالرغم من أن النظام سعى لتشكيل ميليشيات دفاع وطني من بقية الطوائف، فإن المليشيات التي كانت فعالة هي هذه الميليشيات الطائفية، خاصة أن معظم الميليشيات التي جاءت من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان هي ميليشيات طائفية شيعية. ومن ثم يشكّل إخراج الميليشيات الأجنبية وحل الميليشيات المحلية ومعالجة آثار إعادة هيكلة الجيش تحدّيًا حقيقيًا في حال التوافق على إعادة هيكلته، والتحدي الأكبر هو خلق مجموعة من الظروف والشروط التي تُقنع العلويين بالتخلي عن الدور المسيطر على الجيش والأمن الذي يمتلكونه الآن، أما من ناحية فصائل المعارضة، فإن تشرذم الفصائل وعدم وجود قيادة لها يخلق تحديًا كبيرًا أمام الوصول إلى اتفاق، مع وجود هذا العدد الكبير من قادة الفصائل. وفي هذا الصدد، على تركيا، كونها الدولة الوحيدة التي تملك سيطرة على فصائل المعارضة المسلحة، أن تلعب دورًا أساسيًا في اجتماع قادة الفصائل على توافق محدد، وحتى في حال التوافق، ستشكل الأعداد الكبيرة الفائضة من كلا الطرفين عن حاجة سورية من حملة السلاح تحديًا حقيقيًا لتأمين فرص عمل لهم، وبدون ذلك لن يتخلّوا عن السلاح.
لم تشكل الانتخابات في البوسنة معضلة، والسبب الرئيس وجود جهة دولية تدير الانتخابات ولم يكن الأمر مجرد مراقبة، فالمراقبة دائمًا غير مجدية. وفي سورية، لا يبدو ثمة ظروف ملائمة لأي حل قريب، وبينما ينصّ القرار الأممي 2254 على إجراء انتخابات وإنجاز دستور جديد، قد تكون الانتخابات العامة مفرقًا يحدد مصير سورية، إذ قد تسير السنوات الأربع لنصل إلى سنة 2028، عندما تستحق الانتخابات، حسب أجندة النظام الذي تعدّه المحافل الأممية السلطة الشرعية في سورية، وإن كانت شرعية منقوصة، والدستور الحالي لا يسمح للأسد بالترشح ثانية، لذا سيكون أمام الأسد طريقان، إما اللجوء إلى تعديل الدستور الحالي بموافقة مجلس الشعب الحالي، وإما أن يدفعوا اللجنة الدستورية إلى وضع دستور جديد، لكسب شرعية دولية، متمسكين بالنظام الرئاسي، وبفترتين رئاسيتين للرئيس كل فترة 7 سنوات، وحينها سيعتبرون، كما اعتبروا في انتخابات 2014، أن العدّ يبدأ من الصفر مع كل دستور جديد، وسيترشح الأسد، وسيفوز في هذه الانتخابات حتمًا، حتى لو راقبها مراقبون دوليون، فالرقابة لا تحدد النتائج، بل حتى لو تولت جهة دولية إدارتها، فإن الأسد سيربح، ذلك بأن المعارضة المشرذمة سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا، والمفلسة ماليًا، لا تملك أي برنامج، وستكون عاجزة عن الدفع بمرشح منافس قادر على الفوز. فمع ظروف تشتت المعارضة، والأمثلة الفاشلة التي قدمتها في إدارة المناطق التي سيطرت عليها، والطابع الإسلامي المسيطر عليها، لن تستطيع التوافق على رئيس قادر على المنافسة، ويبقى المخرج المناسب لسورية هو التمسك بالنظام البرلماني الذي يعطي فرصة أكبر للمجتمع أن يعبّر عن نفسه، ويدفع بناخبيه لتشكيل برلمان يملك السلطة، ويختار رئيس الوزراء ويستطيع محاسبته، ويبقى الرئيس بصلاحيات شكلية.
ختامًا، نستنتج أن السياسات التي تُبنى على مصالح طائفية واثنية ضيقة، لا تقدّم حلولًا ناجعة، وأن النفخ في المشاعر الطائفية والدينية أو القومية يتحوّل إلى أدوات تفجير للمجتمعات ويزعزع السلم المجتمعي، وأن الحرب الأهلية في البوسنة حظيت بشروط مناسبة أنتجت تدخلًا دوليًا فعالًا، في حين إن الشروط المحيطة بالحرب السورية أنتجت تدخلًا إقليميًا ودوليًا أسهم في زعزعة استقرارها. ونستنتج مرة أخرى من المقارنة أن مصالح الدول تحدد سياساتها تجاه الصراعات، وليس القيم العليا والمبادئ والأخلاق، وأن التدخل الأوروبي والأميركي في البوسنة قد كان فعالًا وصمم لوضع حد عاجل للحرب، في حين صُمم تدخلهم لإدارة استمرار الحرب السورية، مدفوعين بالخوف من الفوضى في حال سقوط الأسد، لعدم وجود بديل قادر على الإمساك بالبلاد. وبينما شكلت وحدة قوى المعارضة بالبوسنة عسكريًا وسياسيًا بديلًا يعتمد عليه بحمايتهم، نجد المعارضة السياسة السورية متشرذمة عسكريًا وسياسيًا، مع غياب برنامجها السياسي، وقد شكل تنافس الجهات الإقليمية الداعمة سببًا رئيسًا في تشرذمها، فتحولت الحرب السورية إلى حرب بالوكالة، ولم تكن الحرب البوسنية كذلك، وقد كان من حُسن طالع البوسنة أنها بعيدة عن إسرائيل ولا تعنيها. وبعد قرابة ثلاثة عقود من وضع حد للحرب البوسنية، نجد أنها ما زالت تعاني آثار تلك الحرب حتى اليوم، ولم تحقق سوى نتائج محدودة، فيما يخص المصالحة الاجتماعية، مع أنها لم تدم سوى أربع سنوات. أما في سورية، التي لم تضع فيها الحرب أوزارها بعد، فما زال المستقبل غامضًا، ومفتوحًا على سيناريوهات تراوح بين السيئ والأسوأ، وستبقى آثارها ظاهرة ومستمرة طوال عقود.
[1] ) رابط تقرير الورشة المذكورة أعلاه https://2u.pw/NC5GXGph
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة