الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الثاني).. الحلقة الثانية عشرة

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثانية عشرة من الجزء الثاني– بعنوان: (طريق الاشتراكية وضماناتها وأداتها).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

                                         (4)

                       طريق الاشتراكية وضماناتها وأداتها

   الاشتراكية هي الحركة التي تنتقل بالإنسان من عالم التقيد والضياع إلى عالم الحرية والوعي، ومن عالم الحصر والاستئثار إلى عالم الوفرة والمشاركة، إنها النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يقيم العدالة على الأرض ويحقق لجميع الناس، تكافؤ الفرص، ويضمن لهم حاجات العيش الكريم، ويبطل استغلال الإنسان للإنسان، واستغلال طبقة لطبقة أو شعب لشعب، ويقيم السلام على الأرض ويُجند جهد الإنسان لقهر الطبيعة ولتفجير ينابيع ثرواتها في سبيل خير الإنسان وارتقاء الإنسانية وسعادتها.

   الاشتراكية هي صورة لمجتمع مُلكية وسائل الإنتاج فيه جماعية، والعمل فيه الرابطة الموضوعية التي تربط بين الناس، الجميع يعملون، وهو يأخذ من كل إنسان حسب طاقته ويعطي لكلّ إنسان حسب عمله، ثم حسب حاجته.

   نستطيع أن نستمر طويلا في سرد تعاريف الاشتراكية ووصف المجتمع الاشتراكي، وفي رسم الغايات الكبرى والأهداف العظمة التي يهدف إليها النضال الاشتراكي، ولكننا إذا ما وقفنا على التعريف وعلى الشرح النظري للتطبيقات والأهداف، فإننا نبقى دوماً في حدود الكلام والآمال. والتبشير بالاشتراكية قد خرج- منذ الأيام التي عاش فيها ماركس- عن حدود الأفكار والآمال، ليربط بين المطالب الاشتراكية وبين الحركة العمالية، بين الاشتراكية وبين حركات شعبية تصعد في التاريخ. ولقد أعطى ماركس والاشتراكيون من المفكرين المعاصرين لماركس، مفهوماً للتطور الاجتماعي والتاريخ. إلا أن مسير التاريخ الإنساني الحديث في درب الاشتراكية لم يأتِ تصديقاً لنبوءات ماركس (من حيث تفاصيلها) إلا في مراحل وحدود. ومازالت الاشتراكية بحاجة لوعي شامل يتجدد كل يوم، وما زالت بحاجة لضمانات جديدة، لتجعل من النضال في سبيل الاشتراكية عملية تحرير وتقدم دائمين للإنسان. فهناك اليوم حركات وأحزاب كثيرة تسمي نفسها اشتراكية، وهناك نظم وحكومات عديدة تعلن أنها اشتراكية، وتقول بتحقيق تلك الأهداف التي عددناها، كلها أو بعضها، أو تقول بتحقيق ما هو أكثر وأبعد منها، هذا على ما بين هذه النظم وهذه الحركات من اختلاف وتعارض، سواء في الفهم والتخطيط أو في الشكل والتطبيق.

   ونحن نشهد في هذا العصر، رغم كل ذلك الميراث الضخم في التفكير الاشتراكي، نظماً استبدادية وفردية بل ونظماً متخلفة أو محافظة تُعارض الطبقة العاملة، تسمي نفسها اشتراكية، أو تقول بأنها تعمل لنحو من الاشتراكية. فالاشتراكية- التي هي مطالب الإنسان الثوري في التحرر الكلي- هل تُسخَّر كما سُخِرت الديمقراطية من قبل، لتكون أداة دهمائية (ديماغوجية) في الدعاية والتضليل؟

   لقد قيل الشيء الكثير عن الأوجه المتعددة وعن الطرق المختلفة للاشتراكية، وقيل الشيء الكثير أيضاً عما تفرضه الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بكل حزب وكل دولة، وعما تُمليه المرحلة التاريخية التي يمر بها كل شعب وتمر بها كل أمة، من مواقف وخطط وخطوات وأفكار. هذه أشياء أصبحت في حكم المُسلمات، ولكن اختلاف الظروف والمراحل، لا يعطي لأي حزب أو حركة، ولا يبرر لأي فرد أو سلطة حاكمة، حق الأخذ بما يشاؤون من أفكار ونظريات، أو من حلول وتطبيقات، ويقولون هذه هي اشتراكيتنا الخاصة بنا، وهذا هو النظام الذي نبتكره لأنفسنا وللإنسانية، من غير الاعتماد على وجهة نظر واضحة، ومن غير الاستناد إلى تحليل لظروف المجتمع والمرحلة التي يعيشها لكي يربطون به وجهة نظرهم هذه بواقع تطور المفاهيم الإنسانية والمجتمعات البشرية. ان للاشتراكية مقومات ترسخت عبر التاريخ، من خلال تطور الوعي والأفكار، خلال اصطراع المصالح والطبقات والنظريات خلال تجارب وتطبيقات وحروب وثورات وانتصارات ومآسِ وانتكاسات. فهناك حقيقة اصبحت بديهية بالنسبة للتفكير الاشتراكي وللنضال والتطبيق الاشتراكيين، وهي أن الاشتراكية لا تنفصل عن الطبقة العاملة، وعن صعود هذه الطبقة في التاريخ؛ يُهيئ لها تطور فكري واقتصادي وتكنيكي واجتماعي، ويقودها وينظمها وعي ثوري.

   قلنا عند التعريف، إن الاشتراكية صورة لمجتمع العمل فيه هو الرابطة الموضوعية التي تؤلف بين الناس، ولكن شريطة أن لا يتسخر هذا العمل لمصلحة فئة حاكمة أو طبقة اجتماعية مسيطرة. هذه الاشتراكية إنما تتحقق بصعود الطبقة العاملة في التاريخ، وباتساع قاعدتها المترافق بتطور اجتماعي واقتصادي ملائم، وبتفتح وعيها على مصالحها، وبتقدم النضال والتنظيم الثوريين، لترى الطبقة العاملة مصالحها في تعارض مع مصالح المستغلين ومع كل استغلال وطغيان، وفي التقاء مع المصلحة الإنسانية ومع تقدم الإنسان وتحرره.

   إن الغاية الاشتراكية لا تنفصل عن ذلك التشكل الثوري الصاعد العمال، فهي لا بد أن تتحقق بتوحيد نضال العمال مع نضال جميع الناس الذين يربِطون مصيرهم بمصير الطبقة العاملة، مع جميع الذين يجدون في تحرير العامل الزراعي من عبودية الأرض وفي تحرير العامل الصناعي من عبودية الآلة، وفي تحرر المجتمع كله من تسلط رأس المال ومن كل تسلط يقيد حرية الإنسان أو يضيع إنسانيته، قضية لهم يعملون من أجلها ويناضلون في سبيلها ويجدون فيها تحقيقاً لإنسانيتهم وكرامتهم فلا يحيدون عن طريقها أو ينحرفون. هذه الاشتراكية لا يمكن أن تُمنح للعمال والشعب عامة على شكل هدية أو منحة تصدر بها إرادة سلطة حاكمة، بل لا بد للاشتراكية من أن تجنيها الطبقة العاملة بتكامل وعيها ونضالها؛ فالنضال في سبيل الاشتراكية عملية تحرير وتقدم دائمين للإنسان. فهناك اليوم حركات وأحزاب كثيرة تسمي نفسها اشتراكية، وهناك نظم وحكومات عديدة تدّعي أنها اشتراكية، وتقول بتحقيق تلك الأهداف التي عدّدناها، كلها أو بعضها، أو تقول بتحقيق ما هو أكثر وأبعد منها؛ هذا على ما بين هذه النظم وهذه الحركات من اختلاف وتعارض، سواء في الفهم والتخطيط أو في الشكل والتطبيق.

   لقد قيل الشيء الكثير عن الاوجه المتعددة وعن الطرق المختلفة للاشتراكية- كما ذكرنا- وقيل الشيء الكثير أيضاً عما تفرضه الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بكل حزب وكل دولة، وقيل الكثير عما تُمليه المرحلة التاريخية التي يمر بها كل شعب وتمر بها كل أمة، من مواقف وخطط وخطوات وافكار هذه أشياء أصبحت في حكم المسلمات، ولكن اختلاف الظروف واختلاف المراحل، لا يُعطي لأي حزب أو أي حركة، ولا لأي فرد أو سلطة حاكمة، حق الأخذ بما يشاؤون من أفكار ونظريات، أو من حلول وتطبيقات ثم الزعم أن هذه هي اشتراكيتنا الخاصة بنا، وهذا هو النظام الذي نبتكره لأمتنا وللإنسانية، من غير الاعتماد على وجهة نظر واضحة ومن غير الاستناد إلى تحليل لظروف المجتمع والمرحلة، يربطون به وجهة نظرهم هذه بواقع تطور المفاهيم الإنسانية والمجتمعات البشرية. إن للاشتراكية مقومات ترسخت عبر التاريخ، من خلال تطور الوعي والأفكار. فالاشتراكية تتفتح عنها عبقرية مُفكر يصوغ لها دستورها وملامحها، ولا تُقرَر بتشريعات وتنظيمات تضعها سلطة حاكمة، بل تنشأ وتتكون من خلال النضال الشعبي الطويل، الذي يصعد صعوداً شاقاً في طريق بناء حكم الشعب وفي طريق بناء المجتمع الاشتراكي.

   إن عملية النضال هذه ضرورية، فهي التي تفّتح التفكير الاشتراكي وهي التي تكوّن الأداة الصحيحة لتحقيق الثورة الاجتماعية ولتطبيق الاشتراكية.

   هذا هو طريق الاشتراكية، إذا أردنا من الاشتراكية ذلك النظام الاجتماعي الذي يصل بالإنسان إلى إنسانيته الكاملة وإلى حريته السوية، ولم نُرد لها أن تدخل في مغامرة من تلك المغامرات الخطرة التي تنتهي بالإنسان إلى أن يخلق لنفسه قيوداً جديدة وعبودية جديدة، ولم نُرد لها أيضاً أن تلبس زيّاً ليس بزيها أو ان يقوم عليها من كان بعيداً عنها ومن لا تلتقي معها مصالحه وأخلاقه.

   إن الإنسان الذي يناضل مع الآخرين في سبيل مجتمع اشتراكي، والذي يريد من النظام الاشتراكي أن يسير به في طريق الحرية والكرامة، هذا الإنسان ليس ضرباً من التجريد، بل هو ذلك الإنسان العامل الذي يُبدل نفسه وهو يُبدل العالم، الذى يصنع نفسه وهو يعمل، وهو الذي يكون غايته ووسيلته وهو يناضل؛ فحريته ليست شيئاً يُعطى له من فوق، بل هي شيء ينمو في نفسه وحياته، إنها في مشاركته والتزامه مشاركة هي بذاتها خلق وقوة، والتزام بمشروع بعيد المدى، هو مشروع النضال ومشروع الثورة ومشروع البناء.

   تسير الإنسانية في طريق حضارة جديدة تستند على العمل والتكنيك. والمجتمع الامريكي والمجتمع السوفياتي على بُعد ما بين بنيان نظاميها، يخطوان خطوات واسعة ومتشابهة في طريق هذه الحضارة. الا أن التطور الصناعي الكبير والتقدم التكنيكي الهائل، لا يكونان لخير الإنسانية وحريتها، ما لم تجعل منها كذلك، إرادة إنسانية واعية، ونظام واضح المعالم يحمل مثل هذه الضمانة في تفاصيل تكوينه كلها.

   إن هذه الحضارة الجديدة، مهما ارتقت بالإنسان في أجواء الفضاء، فإنها ما زالت تحمل في طياتها ضياعات جديدة للإنسان، وامكانيات لارهابات جديدة واستبدادات جديدة. فأمام استبدادات عهود الإقطاع التي انتفضت عليها الثورات البورجوازية، وأمام استبدادات الاستعمار التي ثارت في وجهها الحركات القومية التحررية، وأمام التشويهات والضياعات التي أدخلتها على الإنسانية عهود التسلط الرأسمالي، أمام كل هذا نجد اليوم في الشرق والغرب، نماذج جديدة لاستبدادات الأنظمة البيروقراطية الحديثة التي تقوم على حكم طبقة جديدة من رجال السلطة ورجال التكنيك، والتي تُدخل- هي أيضاً- على حياة الإنسانية ضياعات جديدة وتشويهات من نوع جديد. وإن مخاطر تسلط مثل هذه الطبقة الجديدة، يزداد ويتفاقم، في الدول التي تحررت حديثاً، والتي لم يتكون فيها وعي شعبي واضح المعالم والاتجاهات، وتنظيم عمالي وشعبي وثوروي يرعى مكاسب التحرر ويحمي النهضة والتقدم.

   فالنظام السوفياتي، رغم ان الثورة التي أوصلت إليه تستند إلى نظرية تقول بأكبر مشروع عالمي لتحرير الإنسان ظهر حتى الآن، ورغم استنادها إلى حزب وطني كبير كان يقود بالفعل طبقة شعبية وعمالية واسعة، ورغم اغتنائه من تجارب طويلة في النضال الفكري والسياسي والعمالي في روسيا نفسها وفي أوروبا كلها، فهو لأنه لم يضع حرية الإنسان موضع التكوين والبناء منذ البداية، بل جعلها مشروعاً مؤجلاً، وبرر لنفسه اتباع مختلف الوسائل، استطاع أن يسيطر فيه- أي على تلك التجربة الاشتراكية- حكم فردي ستاليني يستند إلى طبقة بيروقراطية وأسلوب استبدادي وبوليسي، وما لبث هذا الحكم أن انخرط في طريق من التطبيق الاشتراكي نسي فيه، الهدف الأصلي للاشتراكية، هذا الهدف يرمي إلى خلق الشروط التي تحقق الحرية الكلية للإنسان. وكاد هذا النظام أن يشوه وجه الإنسان، فبعد أن كان الهدف الذي ترمي إليه الشيوعية يقوم على مبدأ أن «الإنسان هو أثمن رأس مال في العالم»، وأن «الإنسان هو أرفع ما يتطلع إليه الإنسان»، أصبح الإنسان بذاته وسيلة، وأصبحت النظرية هي أيضاً وسيلة وأداة، وأصبح تقديس الفرد واستمرار سلطة الفرد هما القضية وهما طابع الحكم. وقد يجد البعض تبريراً لنظام ستالين الإرهابي، في كل ما كان يحيط بالاتحاد السوفياتي وبنظامه الاشتراكي الناشئ من أخطار؛ وقد نجد له اليوم تبريراً فى أنه استطاع إنشاء دولة قوية عظيمة، ولكن هل هناك اليوم من حكم استبدادي أو استغلالي إلا ويجد لنفسه التبريرات? فأمام التذرع بمخاطر الغزو الاستعماري الرأسمالي يتذرع الجانب الآخر بمخاطر الغزو الشيوعي والإرهاب الشيوعي.

   والعهد الستاليني قد تقدم بروسيا السوفياتية، وجعل منها دولة قوية عظيمة، ولكنه أثر تأثيراً سلبياً في مشروع الاشتراكية العالمي، وأعطى للمجتمعات الرأسمالية الغربية مبررات للبقاء وفرصاً للاستمرار والتطور، حسب أشكال جديدة لم يضعها المشروع الاشتراكي العالمي في تقديراته.

   إن النظم الاستبدادية القديمة لم تكن تعدُ الإنسان بشيء، فهي تريد أن تفرض استمرار سلطة والمحافظة على وضع، ووجه الخطر في بعض الأنظمة الاستبدادية الحديثة، أنها تدعي العمل لخير الإنسان وفي سبيل العدالة والحرية، وهي إذا ما سلبت الإنسان اليوم بعض الحريات، فلِتَرُدها إليه في المستقبل حرية كاملة وعدالة ليس بعدها عدالة. ولكن ما هي الضمانة عندما لا يكون هناك من إرادة جماهيرية تتفتح وتصعد، وعندما لا يعود هناك من نضال ولا مشاركة وعندما يسلم كل شيء لطبقه جديدة من رجال السلطة ورجال التكنيك يملكون من وسائل الترغيب والإرهاب معاً ما لم تملكه سلطة من قبل؛ ما هي الضمانة عندما يصبح دوام سلطة هذه الطبقة واستمرار نفوذهما هما المطلب والغاية؟

   إن ضمانة الإنسانية لا تكتفي بوعد يلقى به إلى المستقبل، ولو أن الوعد والغاية لا بد منها لكل حركة ثورية؛ فالضمانة الإنسانية، لا بد من أن تترسخ مقوماتها منذ البداية، ولا بد من أن توضع في كل خطوة تخطوها الحركة الثورية وفي كل عمل تعمله وفي كل لحظة من لحظات الثورة والحكم الثوري.

   الإنسان الذي يؤمن بالثورة الاشتراكية، يبرر لنفسه العنف، لا لأنه يريد العنف في ذاته، بل لأن القوى الرجعية ولأن الفئات التي تملك الثروات والامتيازات، لا تتنازل عن اوضاعها وعن امتيازاتها إلا بالإكراه والقسر؛ إلا أن الإنسان الثوري لا يبرر للحكم الذي يقوم باسم الثورة أن يمارس الإرهاب وأن يُطبق الأساليب البوليسية على الشعب، ولا تبرر لهذا الحكم أن يكذب ولا أن يموه الحقائق على الشعب، لأن تطبيق هذه الأساليب إذا ما دل على شيء فإنما يدل على بُعد هذا الحكم عن الجماهير التي يدعي تمثيلها وعلى خوفه من هذه الجماهير أو على عدم نضج الوعي والتنظيم الثوريين فيه على الاقل.

   إن المجتمع الاشتراكي يُنحت نحتاً من قبل سلطة حاكمة، بل هو حصيلة وعي ونضال، وهو تفتح حر. والإنسان الذي يبرر لنفسه الكذب والنفاق مرة ومرات، يصبح كذاباً منافقاً، مهما تكن الغاية التي يعمل لها، ومهما تكن المبررات التي يبرر بها سلوكه، سامية ورفيعة.

   إن الديمقراطية (أي حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب) وأن الاشتراكية (أي تَحقُق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والمشاركة الجماعية في الثروات والعمل) ليستا وعوداً ومُثُلاً. إن للديمقراطية وللاشتراكية شروطاً لا بد من أن تتحقق في كل عمل ديمقراطي واشتراكي وفي كل حركة ديمقراطية اشتراكية منذ بدايتها وفي كل خطوة تخطوها. عندما ثارت البورجوازية في أوربا في وجه السلطة المطلقة وفي وجه الإقطاع، نادت بالديمقراطية. وجاءت البورجوازية إلى الحكم فأقامت شروطاً اجتماعية وسياسية واقتصادية تضمن لها استمرار سيطرتها وتوسيع مجالات استغلالها، وظلت الديمقراطية وعداً، بينما حلت عبودية الآلة ورأس المال محل عبودية الأرض وسلطة الأمير المُطلق. وجاءت الحركة الاشتراكية تنقُد البورجوازية وتثور في وجهها، واعدةً بأن تحقق الشروط الموضوعية التي تجعل الديمقراطية وتجعل العدالة والحرية أموراً واقعية في حياة الناس. وكانت الضمانة الكبرى التي تحملها الحركة الاشتراكية أنها لا تستند إلى مجرد وعود نظرية وآمال إنسانية، وأنها لا تعتمد على طبقة متميزة أو فئة مُختارة، بل هي رسالة طبقة شعبية واسعة هي الطبقة العاملة، طبقة يرتبط تكوينها ومصلحتها، بالتطور الإنساني وبالتقدم، هذه الطبقة قد فقدت كل شيء إلا قدرتها على أن تتضامن وتتنظم، وهي قد عانت كل حروب الظلم والاستغلال، وشعورها بهذا الظلم هو الذي يدفعها دفعاً حثيثاً في طريق التنظيم والتمرد، فهي تثور ضد كل ضروب الظلم والاستغلال تطالب بكل شيء، لنفسها وللإنسانية جميعها.

   فالاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية إذا انسجمت مع نفسها ونشأتها وأهدافها. إنها تبدأ من الشعب، من طبقاته العمالية الواسعة، وهى تتكون في قلب الشعب، وتنهض بنضاله، وتتحقق بثورته الواعية المنظمة التي في تعارض تعرف أهدافها ومراميها، فالتنظيم الثوري الذي يبدأ من القاعدة الشعبية ويصعد بها في طريق النضال والثورة والحكم الثوري المستمر، هذا التنظيم هو الضمانة التي أرادت الاشتراكية أن تحملها في تكوينها، وهي التي ما زالت مُطالبة بالاستناد عليها. إلا أن الحركة الاشتراكية قد تعثرت هي أيضاً وأصابتها التشويهات والانحرافات، وقامت باسمها أيضاً استبدادات، عندما اكتفت بالوعد وتخلت عن ضماناتها الأساسية، من حيث أنها مشروع طويل في النضال، يصنع نفسه ويصنع طريقه ويصنع أداته وقيادته.

   ولكن الاشتراكية، بالرغم من كل ما أصابها من تشويهات، وما وقف في سبيلها من عثرات، مازالت وحدها أمل الانسانية، وما زالت بحكم نشأتها الشعبية، تحمل إمكانية التجدد وامكانية بداية جديدة، فهي بنت العصر الحديث وهي في سياق التاريخ الصاعد، وهي وليدة الجهد والفكر والعمل.

   اليوم نعرف، ومن خلال التجارب الإنسانية الكثيرة، أن إنهاء عهود الاقطاع، وأن الإجهاز على سلطة رأس المال، لا يكفيان لتحرير الإنسان، فهناك عبوديات أخرى قد تنشأ فى ظل النظم التي تأتي على آثار النظام الرأسمالي وفي اعقابه أيضاً. ولا بد لنا عندما نحدد الأهداف، من أن نجد الأداة التي هي ضمانة الوصول إلى هذه الأهداف. إن تكوين الأداة الثورية العمالية التي تضمن التطبيق الاشتراكي، هو الأساس الذي لا يمكن أن تقوم بدونه حركة اشتراكية ولا يمكن أن تتحقق بدونه ثورة اشتراكية أو حكم اشتراكي.

   عندما اندلعت الفتنة في هنغاريا عام ١٩٥٦، وجدت الحكومة التي تبني الاشتراكية نفسها أمام معارضة عمالية ثائرة ومستعدة لممارسة الإضراب والعنف ضد استبداد الدولة، ووجدت المدرعات السوفياتية (مدرعات الدولة الأم التي تحمي البناء الاشتراكي في العالم) نفسها أمام عمال هنغاريين يحملون في وجهها السلاح. كانت القضية الاشتراكية هناك، تُعاني تناقضاً هائلاً: حكومة اشتراكية في تعارض مع تكوين المجتمع الاشتراكي، دولة عمالية في حرب مع العمال؛ وكانت علّة التناقض أن النظام الاشتراكي في هنغاريا لم ينبت من القاعدة الشعبية وأن ذلك الحكم الاشتراكي لم يأت تمثيلاً حراً لإرادة شعبية واعية، كما أنه لم يصدر عن ثورة فعلية، بل فُرض من فوق، بعد ظروف حرب عالمية وفُرض تحت رقابة ودعم خارجيين، واستند في الداخل على سلطة بيروقراطية بوليسية، جعلته ينغلق على نفسه معزولاً عن الشعب، بعيداً عن أن يكون تعبيراً عن إرادة القوى العمالية الواعية المنظمة، وعن إرادة بقية القوى الثورية التي تربط مصيرها دائماً بمصير الطبقة العاملة.

   فالاشتراكية اذن، لكي تكون ذلك المشروع الكبير في تحرير الإنسان، لا بد لها من أن تحمل ضمانات أخرى فوق الحلول الاقتصادية، بل إن الحلول الاقتصادية لكي تتطور بالمجتمع وتتقدم بحريته وإنسانيته ووعيه لا بد لها من أن ترتبط بتلك الضمانات.

   فكيف يمكن أن نقيم مثل هذه الضمانات، في الحركة الاشتراكية الشعبية في الوطن العربي؟

   ما هي الدروس التي أخذناها عن التجربة التي مررنا بها أيام وحدة القطرين، وعن التجارب التي مررنا بها بعد الانفصال، وما هو الموقف الذي يمكن أن نتخذه من التجربة التي نتابع خطواتها في الجمهورية العربية المتحدة؟

   ما هو الأثر الذي يمكن أن تُحدثه في تخطيطنا وتفكيرنا، تجارب النضال الاشتراكي في الوطن العربي، وتجربة ثورة الجزائر بوجه خاص؟

   ثم ما هو مدى تأثرنا بالتجارب الاشتراكية العملية والنظرية والنضالية التي جرت وتجري في العالم، وما هو موقفنا منها، وكيف نتفاعل معها ونفيد منها؟

   هذه موضوعات لا بد من أن تنصب الجهود على بحثها ومناقشتها للوصول منها إلى إعطاء محتوى واضح للطريق التي يسير فيها نضال الشعب العربي للوصول إلى مجتمع اشتراكي عربي موحد.

……………………………..

يتبع.. الحلقة الثالثة عشرة بعنوان: (عندما تهدد الرأسمالية تموت الديمقراطية ويبرز العنف).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.