الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ورطة حلف شمال الأطلسي

ياسمين عبد اللطيف زرد *

في المقال الذي كتبه (ستيفن والت Stephen Walt)، الكاتب للعمود الصحفي في مجلة فورين بوليسي وأستاذ روبرت ورينيه بيلفر للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد، يطرح أنه عندما تصل أي مؤسسة (جامعة، أو شركة، أو مركز أبحاث، أو حتى زوجين) إلى الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسها، من المتوقع أن نستمع لسلسلة من الإنجازات التي تحققت طوال هذا العمر الطويل، ومن المُحتم أن قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن ليست استثناءً لذلك.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الورطة التي يواجهها حلف الناتو الآن. إذ ازدادت فرص عودة دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، ويظل فيكتور أوربان في المجر قوة مدمرة، والجانبان الأوروبي والأمريكي منقسمان بشأن حرب إسرائيل وحماس، الصين، تنظيم التقنيات الرقمية، وطريقة مساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا.

قد يقول البعض إن هذا ليس بالأمر الجديد. فلقد واجه التحالف أزمات خطيرة طوال تاريخه. مثلًا، كانت الخلافات حول العقيدة العسكرية (خاصة دور الأسلحة النووية) سببًا في توتر التحالف طيلة فترة الحرب الباردة، كذلك عارضت ألمانيا وفرنسا علنًا قرار إدارة بوش بغزو العراق في عام 2003، وقد اشتكى كل رئيس أمريكي، من دوايت آيزنهاور إلى ترامب، من ميل أوروبا إلى الاستفادة المجانية من الحماية الأمريكية. إذاً يمكن القول إن مشاكل اليوم هي نفسها تقريبًا.

إلا أن الوضع اليوم داخل الحلف يختلف بشكل ملحوظ عن تلك التوترات السابقة، إذ العوامل التي تهدد مستقبل الناتو تتجاوز الميول الشخصية للقادة (ترامب أو مارين لوبان). الواقع أن وجهات نظرهم والقبول المتزايد لها هي العوامل الحقيقية.

بعبارة أوضح، الدول تشكل تحالفات في المقام الأول لمعالجة التهديدات المشتركة، وعندما تم تشكيل حلف شمال الأطلسي في عام 1949، بدا أن الاتحاد السوفييتي يشكل تهديدًا لأعضائه الأوروبيين. وكان من المنطقي أن تلتزم الولايات المتحدة بالدفاع عنهم والحفاظ على وجود عسكري كبير هناك. لكن تلك الأيام ولّت. لقد انتهى الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، ولم تعد روسيا قادرة على غزو القارة الأوروبية وإخضاعها. صحيح أنها تشن حربا- غير شرعية- في أوكرانيا وقد تهدد ذات يوم دول البلطيق الصغيرة، لكن فكرة أن الجيش الروسي يعتزم شن حرب على بولندا والتوجه إلى القناة الإنجليزية هي فكرة مثيرة للضحك. فالجيش المنشغل بمواجهة أوكرانيا- الأصغر والأضعف- ليس على وشك أن يتحول إلى التوسع الإقليمي، حتى ولو كان فلاديمير بوتين يحمل مثل هذه الطموحات.

في الوقت نفسه، الصين منافس للولايات المتحدة، وأكبر دولة تجارية في العالم. أصبحت حصة آسيا في الاقتصاد العالمي (54%) أكبر كثيرًا من حصة أوروبا (17%)، كما أن مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي أعلى أيضًا. ولهذا السبب، ولأسباب بنيوية بحتة، تحظى آسيا بحصة أكبر من اهتمام الولايات المتحدة اليوم، بينما تحظى أوروبا بحصة أقل. هذا لا يعني أن أوروبا لم تعد ذات أهمية على الإطلاق، لكنها لم تعد تحتل مركز الصدارة بين المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.

بمجرد تفكك الاتحاد السوفييتي، توصلت الدول الأعضاء في الحلف لمبررات ومهام جديدة مع مرور السنين. لكن المشكلة هي أن معظم هذه المساعي الجديدة لم تنجح بشكل جيد. فالتوقعات بأن توسعة حلف شمال الأطلسي سيؤدي إلى أوروبا «كاملة وحرة وتنعم بالسلام» تبدو جوفاء إلى حد ما اليوم، خاصة مع اندلاع حرب وحشية في أوكرانيا وتجمد العلاقات مع روسيا بشكل عميق. ورغم احتشاد أعضاء الناتو خلف الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر- مستشهدين بالمادة الخامسة للمرة الأولى والوحيدة- لكن الجهود اللاحقة التي بذلها الحلف فيما يسمى ببناء الدولة في أفغانستان كانت فاشلة وباهظة الثمن. كذلك لم يكن التدخل الأنجلو- فرنسي- أمريكى المشترك في ليبيا في عام 2011 عملية تابعة للحلف، لكنه كان مثالًا واضحًا للتعاون الأمني ​​عبر الأطلسي، وكانت النتيجة دولة فاشلة أخرى. وإذا كان الناتو ساعد أوكرانيا على النجاة من الغزو الروسي والدفاع عن معظم أراضيها، ولكن من غير المرجح أن تنتهي الحرب بانتصار واضح يحتفي به الحلف. لذا، وبالنظر لهذا السجل الحافل، يمكن أن نفهم السبب وراء تزايد الشكوك حول قيمته.

أخيرًا، لم تعد الكليشيهات المألوفة حول القيم المشتركة والتضامن عبر الأطلسي يتردد صداها بقوة كما كانت ذات يوم، وخاصة بين الأجيال الشابة. إذ النسبة المئوية للأمريكيين والأمريكيات من أصل أوروبي آخذة في الانخفاض، مما يؤدي إلى تآكل الروابط العاطفية مع «البلد الأم»، وأحداث مثل الحرب العالمية الثانية، وسقوط جدار برلين هي تاريخ قديم للمواطنين والمواطنات الذين بلغوا سن الرشد وقت الحرب على الإرهاب أو الأزمة المالية عام 2008، وأصبح يتركز وعيهم السياسي على تغير المناخ أكثر من التركيز على سياسات القوة. لذلك ليس من المستغرب أن يكون الشباب الأمريكيون أقل اقتناعًا بمزاعم (الاستثنائية الأمريكية) وأقل ميلًا إلى دعم دور أممي نشط. لا يبشر أي من هذا بالخير بالنسبة للشراكات الأمنية التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على قيام الولايات المتحدة بدور المستجيب الأول كلما ظهرت مشكلة.

ليس معنى ما سبق أن حلف شمال الأطلسي سوف ينهار، حتى لو أصبح ترامب رئيسًا مرة أخرى، واكتسب المزيد من الشعبويين السلطة في أوروبا. لكن هناك قوى بنيوية تعمل على التباعد بين أوروبا والولايات المتحدة تدريجياً، وسوف تستمر هذه الاتجاهات بصرف النظر عما يحدث في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، أو في أوكرانيا، أو في أوروبا ذاتها. لذا، السؤال المهم الوحيد هو إلى أي مدى قد يصل هذا التباعد.

……………..

النص الأصلي

ـــــــــــــــــــــ

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.