أصدر مركز دراسات الوحدة العربية، كتاب “اسرائيل دولة بلا هوية”، لمؤلفيّه بالشراكة الكاتب الدكتور عقل صلاح والاسير الكاتب كميل ابو حنيش، وهو من تقديم الأسير القائد أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. والكتاب يلغي ادعاء “إسرائيل” أنها دولة بهوية وطنية من خلال تحطيم أسـطورة أن فلسطين هي أرض “إسرائيل” والوطـن التاريخـي للشـعب اليهودي.
وقال الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأسير أحمد سعدات، في تقديمه للكتاب “إن هذا الكتاب يعتبر محاولة جادة لسبر غور المجتمع الصهيوني الذي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني، وقراءة تناقضاته الملموسة، دون الاكتفاء بإسقاط الخصائص المشتركة للتجمعات اليهودية، ومعاينة الفرضيات التي طرحتها الحركة الصهيونية بدءاً في اعتبار اليهود شعباً وأمة بالمعنى السياسي تراودهم الأمل والحلم بالعودة إلى أرض الميعاد وإحياء تراثها القومي، مروراً بأن هذه الدولة ستُشكّل مصدر إلهام للعودة للحضارة الأوروبية التي انطلقت من رحم اليهودية في مواجهة حضارة الشرق البربرية، وصولاً إلى توقعات هرتزل القائد المؤسس للحركة الصهيونية ” بأن الدولة ستُشكّل آلة جبارة لعهد اليهود لصهر يهود الشتات في أمة عصرية تحيي تراثها القديم وتغنيه في دولة ديمقراطية وعلمانية بامتياز لها هوية، والحل الجذري للمسألة اليهودية ومعاناة اليهود بشكل عام”.
ويصف سعدات هذا الكتاب بأنه محاولة جادة لسبر غور المجتمع الصهيوني الذي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني، وقراءة تناقضاته الملموسة، من دون الاكتفاء بإسقاط الخصائص المشتركة للتجمعات اليهودية، ومعاينة الفرضيات التي طرحتها الحركة الصهيونية بدءًا في اعتبار اليهود شعبًا وأمة بالمعنى السياسي تراودهم الأمل والحلم بالعودة إلى أرض الميعاد وإحياء تراثها القومي، مرورًا بأن هذه الدولة ستُشكّل مصدر إلهام للعودة إلى الحضارة الأوروبية التي انطلقت من رحم اليهودية في مواجهة حضارة الشرق البربرية، وصولًا إلى توقعات ثيودور هرتزل، القائد المؤسس للحركة الصهيونية، “بأن الدولة ستُشكّل آلة جبارة لعهد اليهود لصهر يهود الشتات في أمة عصرية تحيي تراثها القديم وتغنيه في دولة ديمقراطية وعلمانية بامتياز لها هوية”.
وقد “دأبت دولة إسرائيل منذ تأسيسها على أراضي فلسطين العربيّة عام 1948، على ترويج مجموعة أكاذيب وسرديّات مزيّفة لتلميع صورتها وتبرير شرعيّتها كدولة؛ فعلى مدى أكثر من سبعين عامًا تقدّم إسرائيل نفسها بوصفه دولة ديمقراطيّة، قامت على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. لكنّ سياساتها الاقتلاعيّة الاستيطانيّة العنصريّة على مدى السنوات السبعين الماضية، وعملها الدؤوب على تهويد كيانها أرضًا ومجتمعًا ودولة، وضعت صورة هذه الدولة أمام مأزق تاريخيّ، فهل تسعى إسرائيل فعلًا لتكون دولة ديمقراطيّة، وهذا أمر يتنافى مع المشروع الصهيونيّ ومع سياسات التهويد الّتي تمارسها إسرائيل كلّ يوم، وهل هي فعلًا “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وهذا أمر آخر تنفيه الحقائق التاريخيّة الّتي لم تستطع دولة إسرائيل محوها، كما تنفيه ممارساتها العدوانيّة اليوميّة في مواجهة أبناء البلد الأصليّين في كامل الأراضي الفلسطينيّة”.
وجاء في فصلٍ من الكتاب حول “الديمقراطيّة والكولونيالية العنصريّة اليهوديّة“ ما يلي:
{ تتعارض الديمقراطيّة بالضرورة مع الكولونياليّة الاستعماريّة القائمة على الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، وفرض السيطرة الطويلة على شعب آخر واضطهاده والتحكّم في شروط حياته الطبيعيّة، وتهديد حقوقه الإنسانيّة والسياسيّة.
إنّ أيّ تحليل معقول للنظام الإسرائيليّ الّذي يأخذ في الحسبان القوانين الفاعلة على الأرض، والسكّان الخاضعين للسيطرة الإسرائيليّة، لا يستطيع أن يخلص إلى نتيجة أنّ إسرائيل هي دولة ديمقراطيّة، ناهيك أنّها ديمقراطيّة ليبراليّة[1]. فالحديث هنا عن ديمقراطيّة تستند إلى حادثة اغتصاب أرض وذبح بعض سكّانها وطرد البعض الآخر، واستبعاد لمن تبقّى من العمليّة السياسيّة نفسها[2]. فالادّعاء الزائف للدولة الاستعماريّة عمومًا، وإسرائيل على وجه الخصوص، بأنّها دولة ديمقراطيّة يعدّ ضربًا من التبجّح.
مأزق الدولة اللا دستوريّة:
إنّ غياب الدستور في إسرائيل، منح المؤسّسات الإسرائيليّة كافّة حرّيّة تجسيد المفاهيم الدينيّة الصهيونيّة على أرض الواقع ضدّ العرب الفلسطينيّين، وهي مفاهيم تتعارض مع أيّ دستور ديمقراطيّ وهذا ما تنبّه له كثير من الإسرائيليّين[3]. لقد دفعت هذه المعضلة المؤسّسات الأكاديميّة والفكريّة والثقافيّة إلى التصدّي لها ومحاولة إيجاد حلول للخروج من المأزق، والدفاع عن العنصريّة الاستعماريّة، والزعم أنّ الاستعمار لا يتعارض مع الديمقراطيّة، واستندوا بذلك إلى النموذج الديمقراطيّ للدول الاستعماريّة الأوروبيّة الّتي جمعت بين الاستعمار والديمقراطيّة، والإيحاء بأنّ مجرّد منح حقوق فرديّة للعرب يعبّر عن تطوّر للديمقراطيّة الإسرائيليّة. لكنّ معاينة الأوضاع على الأرض وما تمارسه إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين يضع علامات استفهام كبيرة على ادّعاءات كهذه.
تتعارض الديمقراطيّة بالضرورة مع الكولونياليّة الاستعماريّة القائمة على الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، وفرض السيطرة الطويلة على شعب آخر…
فما بين المطلب الدستوريّ من الدولة أن تكون دولة لجميع مواطنيها، وبين الدمج السياسيّ للدين اليهوديّ والدين الّذي خلق مع احتلال مناطق 1967 تاريخها المسيحانيّ القوميّ الخاصّ في حركة الاستعمار الاستيطانيّ لـ «حركة غوش إيمونيم»، تجد الدولة الصهيونيّة نفسها اليوم في أزمة تتمثّل بالوقوع بين الحقّ في الديمقراطيّة واستمرار الهيمنة على الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة عام 1967 وعام 1948[4]. ذلك ما عّبر عنه شارون حين قال في أواخر عام 2003: “يستحيل أن يكون هناك دولة ديمقراطيّة وفي الوقت نفسه أن تسيطر على أرض إسرائيل، إذا حاولنا الحصول على الحلم بأسره فإنّ هناك إمكانيّة أن نخسره كاملًا”. يؤكّد تصريح شارون عدم إمكان المزاوجة بين اليهوديّة والديمقراطيّة ولا سيما أنّ إسرائيل دولة محتلّة، واحتلالها ينطوي على ممارسات عنصريّة تتعارض مع أبجديّات الديمقراطيّة، وهذه الممارسات تشمل العرب في الداخل والفلسطينيّين في المناطق المحتلة عام 1967، وحتّى بعض القطاعات اليهوديّة مثل الإثيوبيّين واليهود الشرقيّين.
فالنظام القانونيّ في إسرائيل بما يتضمّنه من توجّهات قانونيّة ومقرّرات تشريعيّة يدعم التعصّب والتمييز العنصريّ داخل الدولة، فضلًا عن أنّ ممارسات التعصّب والتمييز العنصريّ إنّما تجرى بناءً على تطبيق القوانين ذاتها وهو يعُدّ ذلك ترجمة أمينة للصهيونيّة بوصفها أيديولوجيا عنصريّة[5].
مواطنو الدولة الاستعماريّة:
توجد في إسرائيل فئتان من المواطنين، الأولى تضمّ اليهود الّذين يتمتّعون بمواطنة بيضاء، والثانية تضمّ العرب الّذين تشبه مواطنتهم مواطنة الملوّنين في جنوب أفريقيا، الأمر الّذي يدحض الادّعاء أنّ إسرائيل هي ديمقراطيّة، وهي تعتبر نفسها أداة لخدمة يهوديّتها، أي مواطنها الأبيض، وهي بذلك شبيهة بنظام الأبارتايد الّذي سخّر الدولة لخدمة المواطن الأبيض على حساب غيره[6]. ذلك ما يؤكّده ميخائيل بن يائير المستشار القضائيّ للحكومة الإسرائيليّة بين عامي 1993 و1996 بالقول: “لقد اخترنا بحماس أن نصبح مجتمعًا كولونياليًّا ونتجاهل الاتّفاقات الدوليّة، وأقمنا نظامًا عنصريًّا في الأراضي المحتلّة”[7].
أمّا بورغ فقد عبّر عن ذلك بالقول: “إنّها دولة تحمل في داخلها عنصريّة توراتيّة مكشوفة تؤيّدها وتدعمها بصورة عمليّة حلقات نشطة وصامتة من التقليديّين المؤمنين بأنّ هذه هي اليهوديّة الصحيحة”، منبّهًا إلى أنّ ثمّة في إسرائيل طبقات ومستويات رهيبة من العنصريّة لا تختلف في جوهرها عن تلك الّتي أبادت اليهود[8]. لم يكن بورغ الوحيد الّذي شبّه هذه الممارسات بالممارسات النازيّة، فهذا أستاذ التاريخ في «الجامعة العبريّة» دانييل بلتمان صرّح بأن “دولة الاحتلال تعيد التذكير أكثر فأكثر بألمانيا عام 1933”. وفي مقابلة أجرتها «يديعوت أحرنوت» في 11 أيار/ مايو 2016 أجمع أربعة من الرؤساء السابقين لـ «المحكمة العليا» في إسرائيل على أنّ إسرائيل تشهد سيرورات مثيرة للقلق قد تؤول نتيجتها إلى نهاية النظام الديمقراطيّ فيها[9].
إنّ أخطر هذه المواقف ما صدر عن نائب رئيس الأركان الإسرائيليّ يائير غولان في خطاب ألقاه في أيّار (مايو) 2016: “إذا كان هناك شيء يخيفني في ذكرى المحرقة، فهو رؤية تحوّلات مثيرة للاشمئزاز حدثت في أوروبا عمومًا، وفي ألمانيا خصوصًا، قبل 70 و80 و90 عامًا، وإيجاد دليل لها بيننا هنا اليوم”[10].
إنّ توسيع الديمقراطيّة قد يقود إلى مساواة كاملة بين العرب واليهود، وهو أمر لا تتحمّله الهويّة اليهوديّة العنصريّة الّتي تقوم على مفهوم النفي الثقافيّ والوجوديّ معًا[11]. وقد تزايدت الشعارات العنصريّة ضدّ العرب مؤخّرًا حيث أطلق ليبرمان شعارًا لحملة حزبه لانتخابات الكنيست سنة 2015: “أرئيل لإسرائيل وأمّ الفحم للفلسطينيّين”، وفي بيان له سنة 2014 اقترح تقديم حوافز اقتصاديّة لعرب الداخل لتشجيعهم على مغادرة البلاد.
أمّا نتنياهو فقد بنى نجاحه الانتخابيّ سنة 2015 على التحريض على العرب بقوله: “العرب يتدفّقون إلى صناديق الاقتراع بأعدادهم الكبيرة”، أمّا وزيرة الثقافة ميري ريفيف، وبهدف التحكّم بالحيّز الثقافيّ النقديّ الفلسطينيّ وحدود حرّيّته، طرحت «قانون الولاء في الثقافة» الّذي يهدف إلى تغيير طريقة منح وزارة الثقافة، بحيث يمكّن هذا التعديل من سحب التمويل من أيّ جهة تمسّ بعلم الدولة أو أحد رموزها[12].
دولة بلا هويّة:
يمتاز المشهد السياسيّ والحزبيّ في إسرائيل بديناميّة وتفاعلات كثيرة، ذلك يرجع في الأساس إلى التركيبة الفئويّة/ الإثنيّة للمجتمع الإسرائيليّ، إضافة إلى التناقض بين طابع الدولة وبين وجود أقلّيّة عربيّة- فلسطينيّة كبيرة فيها، وكذلك بسبب حالة الصراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ والإسرائيليّ- العربيّ، ومأزق الحلّ المستعصي الّذي يدفع نحو التفتيش عن حلول متجاوزًا ذلك إلى نموّ قوىً جديدة تدفع في اتّجاه حلول متقاربة[13].
يتبيّن ممّا سبق أنّ ثمّة إشكاليّة في صعوبة الجمع بين اليهوديّة والصهيونيّة والديمقراطيّة، فاليهوديّة كما رأينا تتناقض مع الصهيونيّة بوصفها تنطلق من رؤية علمانيّة وقوميّة، والصهيونيّة واليهوديّة تتناقضان مع الديمقراطيّة، فالأولى لكونها عقيدة دينيّة، والثانية لكونها فكرة استيطانيّة عنصريّة، وفي إسرائيل الراهنة يستحيل فصل الدين عن الدولة لأنّها صنيعة الصهيونيّة الّتي قامت على الجمع بين الدينيّ والزمنيّ في منطلقاتها الأساسيّة، وبهذا فإنّ محاولة الجمع بين يهوديّة الدولة وديمقراطيّتها في إطار قوميّ يهوديّ جعلت من إسرائيل دولة لا هي صهيونيّة فعلًا ولا هي يهوديّة أو ديمقراطيّة كذلك، إنّها دولة بلا هويّة[14].}.
محاور الكتاب:
وبالاطلاع على محاور الكتاب ومحاكته للمجتمع الكولونيالي الصهيوني الناشئ بعد أكثر من سبعة عقود، يرى سعدات أن الكتاب وضع علامة استفهام على هوية الدولة وكل الفرضيات التي تحدث عنها هرتزل، إلا فرضية واحدة، وهي الدور الوظيفي الإمبريالي الذي لعبته على مدار وجودها ولا تزال تؤديه بامتياز، والذي يُشكّل المصدر الوحيد لقوتها واستمرارها.
وعلى المستوى الداخلي، تتسع تناقضات الهويات والصراعات الإثنية بين المجموعات السكانية التي تم تجميعها في فلسطين سواء تلك التي دفعها الحماس وهربت من المجازر التي مورست بحقها في دول أوروبا الشرقية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أو الجرائم التي مارستها ألمانيا النازية بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية. أما علمانيتها التي جاءت متناقضة بسبب المرتكز الديني الذي أسست عليه الحركة الصهيونية الأم مؤسسة الدولة، فهي تعيش اليوم في حالة حصار بفعل التناقض الذي يتسع بين التيار الديني والعلماني. وبطبيعة الحال، فإن ديمقراطيتها فرضية غير منطقية لا يبررها الأساس الديني للحركة الصهيونية أو الاستعمار الاستيطاني وكذلك دورها الحضاري الاستعماري بامتياز والمجسّد في الحروب البربرية التي شنّتها على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، والدور التخريبي الذي تلعبه في العديد من البلدان الذي يشكّل مصدر قلق ليس فقط لشعوب الشرق بل، وأيضاً للعالم أجمع.
ولعل أبرز الاستخلاصات التي وصل إليها هذا الكتاب هو أن العامل الموحد للمجتمع الصهيوني بات الإحساس المشترك بالخطر الذي يجري تضخيمه من خلال مؤسسات الدولة. هذا العامل الذي جعل مؤسسة الجيش والأمن بشكل عام مصدر إجماع من كل السكان المستوطنين اليهود.
ويبيّن سعدات أن الكتاب يستند إلى معلومات ومصادر في أغلبها قدمها باحثون ومؤرخون إسرائيليون واتسمت بالنزاهة وبالاستناد إلى منهج علمي رصين، بعضهم مناهضون للصهيونية وآخرون من اعتبروا بأن الصهيونية استنفذت أغراضها بإقامة الدولة والذين يصنفون بأكاديميي مرحلة ما بعد الصهيونية، فضلاً عن النقاشات الدائرة داخل الدولة ومؤسساتها، وبين الأقطاب المتناقضة في محاور التناقضات التي يختزنها المجتمع الصهيوني القائم، الأمر الذي يكسب الكتاب طابعه الموضوعي ومنهجه العلمي الرصين، بعيدًا عن تذويب الحقائق ويجعل استخلاصاتها ملامسة أو أقرب إلى الصواب.
ويختم سعدات بالقول إن شعبنا هو أحوج ما يكون إلى التوسّع في هذا النوع من الإنتاج الفكري المواكب للتغيرات التي تحدث في الجهة الأخرى من جبهة الصراع الذي يخوضه شعبنا من أجل الحرية والانعتاق والعيش بكرامة أسوة بالشعوب والأمم.
يأتي كتاب “إسرائيل: كدولة بلا هوية” في خمسة فصول وملخص للكتاب ومقدمة وتقديم وخاتمة. وهو يتناول موضوعًا شائكًا، وهو هوية دولة “إسرائيل”، فهوية الدولة تعتبر الدعامة الأساسية الأولى لشرعيتها، و”إسرائيل” لا تملك هوية واضحة ومحددة فهل هويتها يهودية أم ديمقراطية أم قومية أم غير ذلك. فالإشكالية الرئيسة للكتاب تتمحور حول محاولة “إسرائيل” سنّ القوانين التي تهدف إلى تحديد الهوية الإسرائيلية بالهوية اليهودية أي يهودية الدولة، ومطالبة الفلسطينيين والعالم الاعتراف بيهوديتها، وقد تجلّى ذلك في سنّ قانون القومية من قبل الكنيست الإسرائيلي. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل صبغ الدولة بالهوية اليهودية يحسم ويحل أزمة هوية الدولة الإسرائيلية؟
يهدف الكتاب بصورة رئيسية إلى تقديم رؤية موضوعية حول حقيقة هوية الدولة الإسرائيلية، وهل تمتلك الدولة هوية بالمعنى والمفهوم السياسي للدولة؟
فقد انطلق الباحثان من افتراض أن “إسرائيل” دولة بلا هوية، وهذا ما يسعى الكتاب للإجابة عليه وإثباته من خلال الاعتماد على التاريخ الفلسطيني بشكل عام، والتاريخ الحديث لنشأة الحركة الصهيونية ومن بعدها “دولة إسرائيل” بشكل خاص. ومن أبرز القضايا التي تناولها الكتاب ما يلي:
أولًا؛ الهوية والدولة: فالهوية مصطلح يدل على الخصائص الذاتية التي تميّز شخصًا أو مجموعة من الأشخاص من غيرهم، وتدل الخصائص الثقافية المشتركة بين أفراد مجموعة معينة على هويتها التي تعرف بها والتي تظهر من خلال تفاعلات الحياة اليومية بين هؤلاء الأفراد.
ثانيًا؛ التناقض في مركبات الهوية الإسرائيلية: ينبع التناقض في مركبات الهوية الإسرائيلية اليهودية- الصهيونية- القومية- الديمقراطية- من المكوّنات والمنطلقات والخلفيات التي ينطلق منها كل مركب، الأمر الذي يعني أن المزاوجة بين كل مفهومين أو الجمع بينهم جميعًا ينطوي على خلل بنيوي وأزمات كامنة وأخرى ظاهرة على صعيد الفكر والممارسة، والإشكالية الأساس من بين هذه المركبات تتلخص في العلاقة بين اليهودية والصهيونية.
ثالثًا؛ النزاعات والتصدعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي: يكشف تاريخ الدولة العبرية وحاضرها عن تصدعات وانقسامات حادة وعميقة، الأمر الذي يجعل من فكرة الهوية المتجانسة مسألة تحتاج إلى بحث معمق، وتضع علامة استفهام كبيرة حول المزاعم الصهيونية في نجاحها في خلق القومية اليهودية الديمقراطية.
رابعًا؛ الهدف من يهودية الدولة الإسرائيلية: لقد مرت اليهودية بثلاث مراحل، الأولى المرحلة التوراتية، التي تعج بالتناقضات والخرافات التعددية مع المعتقدات التي استمر كتابتها قرابة ألفي عام إلى أن وصلت إلى قمة تعفنها وانحطاطها، وبدلاً من تطويعها لاستيعاب تغيرات العصور، ذهبت إلى جهة اليمين وتقوقعت ودخلت المرحلة الثانية الكمونية – بما تنطوي عليه من تطرف وعنصرية وشوفونية وعداء لكل الشعوب، ونزاعات أكثر خرافية حتى بات التلمود هو أهم من التوراة رغم أنه شارح لها. ومع توالي القرون والأحداث اتجهت اليهودية التلمودية نحو اليمين مرة أخرى، وبدأت بظهور المرحلة القبالية، وهي المرحلة التي تعيشها اليوم، حيث لم يعد الحديث عن شعب “إسرائيل” بأنه شعب الله المختار، وإنما هو ذاته الشعب الذي يسكن فيه الإله، وهي مرحلة الحلولية بحيث تعززت هذه الحالة بعد الهولوكوست حيث ساد اعتقاد له ما يبرره في أوساط اليهود بأن الله تخلى عن شعب “إسرائيل” بهذا وأن الإله قد مات وبات الشعب هو الإله.
خامسًا؛ “إسرائيل” إلى أين؟: تشكّل ثنائية الحرب والسلام السؤال الأبرز حول مستقبل الدولة الصهيونية، وطوال أكثر من سبعة عقود خاضت “إسرائيل” عشرات الحروب والعمليات العدوانية على الفلسطينيين والدول العربية المجاورة. وفي ذات الوقت قدمت رؤيتها للسلام مع العرب من منطلق الإخضاع والهيمنة القائمة على أساس الردع والقوة العسكرية. فـ”إسرائيل” بوصفها دولة استيطانية توسعية تنتمي إلى نمط الدول الاستعمارية العدوانية محكومة لطبيعتها العدوانية العنصرية، تبقى فكرة الحرب تشغل حيزًا مهمًا في تفكيرها السياسي والاستراتيجي.
واعتمد الباحثان على عدد من الركائز الأساسية التي انطلقت منها “إسرائيل” لتثبيت ادعائها المزعوم بحقها التاريخي في فلسطين، وتتمثل في التالي:
الركيزة الأولى: تتمحور حول استخدام “إسرائيل” المرجعية والرموز الدينية في التصور اللاهوتي اليهودي من أجل إضفاء الشرعية على الاستيطان والتي تتلخص بمقولة أرض “إسرائيل”.
الركيزة الثانية: محاولة خلق هوية جامعة للقوميات المختلفة التي هاجرت إلى “إسرائيل” من خلال استراتيجية بوتقة الصهر.
والركيزة الثالثة: قائمة على الدعم الدولي لها ابتداءً من وعد بلفور وانتهاء بوعد ترامب، من أجل تثبيت أركان دولتها في فلسطين، وتقوم هذه الركيزة على مبدأ الانحياز والتبني الدولي من قبل بريطانيا قديمًا والولايات المتحدة حديثًا من خلال تبني “إسرائيل” من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة وتحديدًا إدارة ترامب.
والركيزة الرابعة: استحضار الخطر والتهديد الخارجي المتمثل في المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وحليف المقاومة الاستراتيجي، إيران.
يلغي الكتاب ادعاء “إسرائيل” أنها دولة بهوية وطنية من خلال تحطيم أسـطورة أن فلسطين هي أرض “إسرائيل” والوطـن التاريخـي للشـعب اليهودي، مؤكدًا في طياته على أن الحركة الصهيونية قد استخدمت مصطلح أرض “إسرائيل”، وهــو مصطلح ديني في جوهره كوسيلة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وحوّلته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت فلسطين وطنًا لليهود.
وتسعى “إسرائيل” اليوم بعد سبعة عقود من تأسيسها لنزع اعتراف دولي وإقليمي بيهوديتها، على الرغم من أنها فشلت على المستوى الداخلي في تعريف من هو اليهودي، وربما يعود ذلك إلى عدد من العوامل أبرزها: الصراع القائم بين التيار العلماني المتمثل بالدولة والتيار الديني، بالإضافة إلى أنها عبارة عن دولة من المهاجرين. فهي قد احتلت أرضًا وجمعت مهاجرين من مختلف أنحاء العالم من أجناس وأعراق وهويات مختلفة من أجل رفدها بالمادة البشرية، مما خلق صعوبة بتحقيق تجانس بين فسيفساء مجتمع هذه الدولة، وهي أحد أهم الصعوبات التي واجهتها في أثناء محاولتها خلق هوية وطنية باستخدام سياسة بوتقة الصهر في ظل هذه الانتماءات المختلفة.
فالتصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي لا تزال قائمة وهي تؤثر بقوة على مكوّنات الهوية، فلم ولن تكون هناك هوية جامعة لجميع اليهود، فالصراع الديني العلماني يفرض نفسه على المجتمع الإسرائيلي، بالاضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي الذي لم يحسم، فلم يتم تقبل “إسرائيل” كدولة في الوطن العربي، وبالأخص على المستوى الشعبي، على الرغم من توقيع العديد من الدول العربية والخليجية معاهدات السلام معها، إلا أنها لا تزال جسمًا غريبًا غير مرغوب به بكونها تغتصب حقوق وأرض الشعب الفلسطيني وجزءًا من أراضي الشعوب العربية.
لقد حاول الباحثان في هذا الكتاب إثبات أن “إسرائيل” التي تأسست قبل أكثر من سبعة عقود هي دولة بلا هوية، وتم دعم هذا الافتراض بمجموعة من الحجج التاريخية والحقائق والوقائع التي تتمثل في الصراعات على المستوى الداخلي والخارجي. ومن أجل إثبات هذا الافتراض تم التطرق بداية إلى تعريف عدد من المفاهيم مثل مفهوم الهوية وهوية الدولة والمواطنة وغيرها من المفاهيم. ومن ثم انتقل الباحثان إلى معالجة التناقض بين مركبات الهوية وفي حالة دولة “إسرائيل” تشمل هذه المركبات الصهيونية واليهودية والقومية والديمقراطية، منذ بداية ظهور الأزمة اليهودية وانبثاق الحركة الصهيونية وصولًا إلى قيام دولة “إسرائيل”، كما يناقش نظرة اليهود إلى أنفسهم وإلى الآخر.
وقد سعى الباحثان إلى دراسة النزاع بين التيارين الديني والعلماني في “إسرائيل”، وذلك من خلال التطرق بداية إلى أبرز الأحزاب والتيارات اليهودية التي كانت سائدة قبل ظهور الحركة الصهيونية ولغاية اليوم وظروف نشأتها. وتناول الكتاب أيضًا القوميات المختلفة التي تتكون منها “دولة إسرائيل” وظروف كل منها والانقسامات الحادثة بينها.
ومن ثم عالج الباحثان موضوع يهودية الدولة، من خلال التطرق لبدايات ظهور المصطلح لأول مرة، وصولًا للهدف الذي تسعى إليه “إسرائيل” من وصف دولتها باليهودية ومطالبة العالم الاعتراف بيهودية دولتها، وما هي الآثار التي ستترتب على هذا الاعتراف وتحديدًا على الفلسطينيين سواء داخل مناطق “الخط الأخضر” (الأراضي المحتلة عام 1948) أو المناطق المحتلة عام 1967. إلى جانب ذلك يحلل الباحثان في نهاية الكتاب مستقبل دولة “إسرائيل” من خلال تناول أبرز التحديات التي تواجه “إسرائيل” على المستوى الداخلي والخارجي.
ويؤكد هذا الكتاب تقريباً جُل الخلاصات التي خلص لها الكاتب الاسرائيلي المعروف “آري شبيط” في كتابه ذائع الصيت “أرض ميعادي.. إسرائيل من النصر إلى المأساة” الصادر قبل عدة سنوات، وأهم هذه الخلاصات أن هذا “الكيان بلا مستقبل وأنه آيل للسقوط والتفكك من الداخل” و”أنه مثلَ بيت العنكبوت.. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت”؛ فهنيئا للثابتين، والخزي والعار للمهرولين.
هوامش الفصل المنشور أعلاه من الكتاب:
[1] يفتاحئيل، الإثنوقراطيّة: سياسات الأرض والهويّة في إسرائيل/ فلسطين، ص 108.
[2] المسيري، في الخطاب والمصطلح الصهيونيّ: دراسة نظريّة تطبيقيّة، ص 34.
[3] حمّاد، السلام الإسرائيليّ، الجزء الأوّل: استراتيجيّة الهيمنة، ص 213.
[4] شميدت، ولادة الحداثة، ص 21.
[5] حمّاد، المرجع نفسه، ص 244.
[6] هنيدة غانم، «ما بين الاحتلال العسكريّ الاستعماريّ والأبرتهايد»، قضايا إسرائيليّة، العدد 35 (2009)، ص 16.
[7] عوض، دعامة عرش الرب، ص 297.
[8] أبراهام بورغ، لننتصر على هتلر، ترجمة بلال ضاهر وسليم سلامة؛ مراجعة وتقديم أنطوان شلحت (رام الله: المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة «مدار»، 2010)، ص 305 و315.
[9] أنطوان شلحت [وآخرون]، تقرير مدار الاستراتيجيّ 2017: المشهد الإسرائيليّ 2016، تحرير هنيدة غانم (رام الله: المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة «مدار»، 2017)، ص 68 و94.
[10] حماد، السلام الإسرائيليّ، الجزء الأوّل: استراتيجيّة الهيمنة، ص 209.
[11] المرجع نفسه، ص 215.
[12] نبيل الصالح، «المشهد الاجتماعيّ» في: تقرير مدار الاستراتيجيّ 2021: المشهد الإسرائيليّ 2020، تحرير هنيدة غانم (رام الله: المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة «مدار»، 2017)، ص 16.
[13] أسعد غانم، «نظرة عامّة في المشهد السياسيّ الإسرائيليّ الحاليّ»، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 62 (ربيع 2005)، ص 4.
[14] إلياس شوفاني، «نظام الحكم»، في: إسرائيل: دليل عام 2004، ص 60.
المصدر: هدف نيوز بتصرف