الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الحزب الديمقراطي غير ديمقراطي

محمد المنشاوي *

على مدار تاريخه الحديث، لم تهتز وحدة الحزب الديمقراطي بالصورة التي يشهدها حالياً، إلا مرتين. الأولى عندما ظهر المرشح الأسود الشاب باراك أوباما عام 2007 معلناً نيته خوض سباق الترشح الرئاسي ضد “هيلاري رودهام” زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ابنة إحدى أهم العائلات السياسية الأمريكية في العصر الحديث، والابنة الوفية للحزب الديمقراطي على مدار عمرها الطويل. والمرة الثانية تمثلت في ظهور السيناتور التقدمي بيرني ساندرز ساعياً للترشح ضد هيلاري كلينتون في انتخابات الحزب عام 2016.

في حالة أوباما، حارب قادة الحزب الأقوياء ترشحه وتحديه لاختيارهم لهيلاري كلينتون. إلا أن شعبية وكاريزمية أوباما منحته قوة لم تستطع مؤسسات الحزب الوقوف في وجهها، ومن ثم اضطر لدعمه بعدما لم يتمكنوا من هزيمته. جاء أوباما من ولاية “إلينوي” متخطياً عقبات جمة داخل الحزب الديمقراطي. وبعد قضاء أقل من نصف فترته (تبلغ ست سنوات في مجلس الشيوخ)، تطلع أوباما لمنصب الرئيس الأمريكي. ولم تستطع مؤسسة الحزب الديمقراطي أن تفرض ابنتها الأهم هيلاري كلينتون زوجة بيل كلينتون أحد أنجح السياسيين الديمقراطيين المعاصرين كمرشحة للحزب. ولم يكن أوباما ليستطيع الصمود مالياً أمام إمبراطورية كلينتون إلا بمساندة ملايين الشباب وملايين من مواطني الأقليات والتقدميين البيض ممن دعموه بدولار واحد أو خمسة إيماناً منهم بما كان يمثله من ثورة سياسية (بالمعايير الأمريكية). واستطاع أوباما الوصول للبيت الأبيض متمرداً على المؤسسة الديمقراطية، ونجح في إزاحة كلينتون من طريقه الانتخابي الوعر، وتحجيم دور المؤسسة الحزبية.

وبعد انتهاء حكم أوباما عام 2016، سعت هيلاري مجدداً لتحقيق حلمها بالبيت الأبيض، ليس كسيدة أولى كما كانت بين عامي 1992- 2000، بل كأول رئيسة لأقوى دول العالم. إلا أن سعي كلينتون اصطدم برغبة السيناتور ساندرز بالظفر ببطاقة الحزب الرئاسية. وعرف الحزب الديمقراطي انتخابات تمهيدية عاصفة تكتل فيها قوى الحزب التقليدية ومؤسساته ولجانه الرسمية ضد رغبات تيار الشباب واليسار.

واضطر ساندرز للانسحاب وفازت كلينتون بالترشح قبل أن يهزمها المرشح الجمهوري دونالد ترامب.

  • • •

ويعكس المثالان السابقان معضلة الحزب في ظل غياب آلية شفافة وعادلة حال توافر مرشح ترغب قيادات الحزب في دفعه للفوز بترشح الحزب. وحال عدم وجود مرشح مُفضل لنخبة الحزب يكون السابق حراً لحد كبير كما كان في حالة بيل كلينتون أو جيمي كارتر من قبله.

ولهذا السبب تحديداً، لم يظهر أي منافس ذي قيمة ليتحدى رغبة بايدن في السعي للفوز ببطاقة الحزب لفترة حكم ثانية تنتهي وعمره 86 عاماً. ولهذا السبب اضطر روبرت كينيدي إلى الترشح كمستقل، وانعدمت المنافسة. ولم يواجه بايدن ماريان ويليامز، الكاتبة والمؤلفة غير الشهيرة، والنائب الشاب دين فيليبس الذي لا يعرف أحداً خارج دائرته بولاية مينيسوتا. ولم يتعرض بايدن للمواجهة القوية في أي انتخابات تمهيدية في أي من الولايات الأمريكية، إذ لم يتجرأ أي سيناتور قوي أو حاكم ولاية له شعبية في تحدي مؤسسات الحكم والإعلان عن رغبته في الترشح رغم إدراكهم لضعف ووهن بايدن.

ورغم تعهد بايدن خلال حملته السابقة بالحكم لفترة واحدة، وإتاحة المجال لجيل شاب بعد ذلك، تقف قيادات الحزب حتى الآن بقوة خلف رغبة بايدن في الترشح رغم إدراكهم استحالة فوزه بعد الأداء الكارثي في مناظرة 27 حزيران/ يونيو، والأداء غير المُقنع منه لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه منذ ذلك التاريخ في سعي لإعادة ثقة الناخبين في قدراته العقلية والذهنية والصحية.

بعد أسبوعين من إجراء الانتخابات الرئاسية في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، يحتفل الرئيس جو بايدن بعيد ميلاده الـ82. ولا يُعد عمر بايدن استثناءً بين قيادات الحزب الديمقراطي من المسنين سواء بين أعضاء مجلس النواب أو مجلس الشيوخ. وتبلغ نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب السابقة، والعضو حالياً بالمجلس 84 عاماً، ويكبرها النائب ستيني هوير البالغ 85 من العمر، في حين يبلغ عمر صديق بايدن، والنائب الأسود جيمس كليبورن 83 عاماً. ولا يقتصر الأمر على مجلس النواب، إذ تخطى السيناتور بيرني ساندرز 81 من العمر، ويبلغ عمر السيناتور ديك دوربين 80 عاماً.

  • • •

وحتى الآن لم تخرج قيادات الحزب عن نص الالتزام الحزبي، وتعهد كبار وقيادات مجلس النواب ومجلس الشيوخ الديمقراطيين بالوقوف إلى جانب رغبة بايدن في الترشح. كذلك لم يُقدم أي من حكام الولايات الذين لهم طموحات رئاسية إلى الإعلان عن اهتمامهم بالترشح ناهيك عن تحدي بايدن أو التشكيك في قدراته. كما استفاد بايدن من تصريحات الدعم العلنية من قادة الحزب الكبار مثل الرئيس السابق باراك أوباما والرئيس السابق بيل كلينتون. ويتعلل قادة الحزب بأن فوز بايدن بالانتخابات التمهيدية، وحصوله على تعهد 3900 مندوب من أصل 4 آلاف، أي ما يقرب من نسبة 99% من المندوبين بالتصويت له في اجتماعات مؤتمر الحزب في آب/ أغسطس المُقبل، يعرقل أي محاولة للتغير.

ويعتمد هذا السيناريو المُضلل على أن أي بديل آخر الآن سيضر بالحزب وتماسكه في ظل حالة التماسك الهش بين تيارات الحزب التقدمية والتقليدية التي كشفت عنها مواقفهما المتنافرة تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ويتناسى هؤلاء حقيقة رغبة أكثر من 70% من الديمقراطيين في تغيير بايدن بعد أدائه الكارثي في المناظرة مع انعدام فرص فوزه، بل وزيادة فرص خسارة مجلسي الكونجرس كذلك بسبب بقاء بايدن.

ويمكن للحزب تجنب الفوضى في مؤتمره العام، حيث يتضمن ميثاق الحزب أحكاماً لاستبدال المرشح في حالة الطوارئ. والغرض من هذا الإجراء هو استخدامه في حالة الوفاة، أو الاستقالة، أو العجز، أو حالة الانسحاب الطارئ.

وهناك بعض الدعوات لحاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم أو حاكم ميشيجان جريتشن ويتمير أو حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو، ليُعبر أحدهم عن رغبته في تحدي بايدن، لكن أياً من هؤلاء المرشحين لم يعلن أي رغبة في استبدال الرئيس حتى الآن.

  • • •

هل يفعلها بايدن ويقدم مصلحة الحزب على مصلحته ومصلحة عائلته الضيقة في التشبث بالترشح مع انعدام فرص فوزه، أو أنه سيضع مصالح البلاد أولاً ويتراجع عن الترشح؟

* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.