خضر الآغا *
عندما تتكرر، على مدى حقبٍ، بشكل ملحوظ، تعبيرات تمييزية وعنصرية ضد مجموعة، أو مجموعات بشرية، إن كانت على مستوى الأداء الكلامي أو السلوكي أو كليهما؛ فإنه يتوجب النظر إليها بوصفها أنماطًا ثقافية وليست مجرد تعبيرات فردية موجودة بالمستوى نفسه وبالقدر نفسه لدى أفراد في المجموعات المتنوعة من البشر كافة.
بالعودة إلى الفلسفة التي رسمت معالم العصر الحديث منذ جون لوك مرورًا بديفيد هيوم وكانط وهيغل وغيرهم، سوف نصل إلى أن التأسيس العنصري لهذا العصر هو تأسيس فلسفي، وما سُمّي بـ”الرجل الأبيض” الموصوف بالتفوّق هو، على نحو ما، صناعة فلسفية. إن سلوك القوة والهيمنة الذي سلكته أوروبا في السيطرة على الشعوب الأخرى عبر استعمارها، أو حملات الإبادة والتهجير التي مورست على السكان الأصليين في الأراضي “المكتَشَفة” (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أستراليا، وفلسطين.. إلخ) كان لا بد لها من خطاب نظريّ معرفيّ يغطّيها، وذلك وفق مفهوم ميشيل فوكو للخطاب وحاجة السلطة له في طور تشكّلها، وقد تمثّل ذلك الخطاب الذي تزيّا بزي فلسفي بـ”تفوق” الأوروبي و”حقّه” بذلك التفوق.
“التفوق” و”الحق” به كانا بمثابة السلطة التي تحتاج للمعرفة، والخطاب الفلسفي العنصري الذي قدمه “التنوير” الأوروبي: هيوم، كانط، هيغل، وغيرهم.. كان بمثابة المعرفة التي احتاجتها تلك السلطة. فإذا اعتبر إدوارد سعيد أن الاستشراق هو خطاب السلطة الاستعمارية في حينه، فإنه، وبالقياس، يمكن أن تكون فلسفة العرق التي ظهر قسم منها بلبوس “التنوير” هي خطاب العنصرية!
تم تقسيم الأمم عرقيًا وتصنيفها في درجات، منها من هي في الدرجة الثانية ومنها من هي في الدرجة الأخيرة، وقد حصل خلاف في وجهات نظر بعض الفلاسفة في مستوى بعض الأمم، فمنهم من وضع السّود في أدنى الدرجات، ومنهم من وضع السكان الأصليين، الذين اتفق أولئك الفلاسفة جميعهم على تسميتهم بـ “الهمج”، في المستوى الأخير. إلا أن المستوى الأول، على طول الخط، محجوز للبيض، بلا أية خلافات.
لقد بدا ديفيد هيوم في مقالته “حول السمات العرقية” متيقنًا للغاية من رأيه، إذ قال: “أنا على استعداد للاشتباه أن جميع الأنواع الأخرى هم بطبيعة الحال أدنى من البيض، ولم تكن هناك أمة متحضرة من أي نوع آخر جديرة بالذكر سوى البيض”. وبعد هذا التأكيد المعرفي القاطع من انعدام وجود أمة “جديرة بالذكر” سوى البيض، ركز أكثر فأكثر على السّود، فأوضح أنه: “ميّال إلى الظن بأن الزنوج متدنّون بشكل طبيعي عن البيض، فنادرًا ما سمعنا عن أمة متحضرة تنتمي لهذه البشرة، ولا حتى فرد بارز في نطاق العقل والتأمل العقلي، وليس ثمة صنّاع مبدعون ولا فنون ولا علوم”.
ولدى قيام فيلسوف الأخلاق الألماني عمانوئيل كانط بمناقشة هيوم، قال: “زنوج القارة الأفريقية بطبيعتهم لا يملكون إحساسًا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة. السيد هيوم يتحدى أن يأتي أحدٌ بمثال واحد على زنجي أظهر أدنى قدر من الموهبة، كما أنه يؤكد أن من بين مئات الألوف من السود الذين انتقلوا من موطنهم، وبالرغم من أن الكثير منهم قد تحرر من العبودية، فإنه لم يبرز أي منهم، ولو فرد واحد، أو يطرح ما فيه منفعة للمجال العلمي أو الفني أو متضمَّنًا ما يستحق الإشادة به، وبالرغم من أن الكثير من البيض كانوا من طبقات فقيرة، فإنه من خلال مواهبهم الفذة نالوا مكانة محترمة في العالم”. الحقيقة، عدا الموقف الطبقي المتشاوف والمتعالي على “الطبقات الفقيرة” بدلالة عبارته “بالرغم من”، فإن كمية احتقار السود، لأنهم سود، محبطة للغاية من فيلسوف أخلاق مثل كانط!
يتابع كانط في مناقشة هيوم: “الفروقات بين العروق أساسية، ويظهر الفرق الكبير بوضوح في تفاوت القدرات العقلية بقدر ما هو واضح في لون البشرة، وبذلك فإن عبارة مثل “هذا الرجل أسود من رأسه حتى أخمص قدميه” تعطي تفسيرًا منطقيًا لوصْفنا ما قاله الرجل الأسود بالغباء أو الجهل”. وقد أراد كانط بعبارة “هذا الرجل أسود من رأسه حتى أخمص قدميه” الإشارة لما قاله في كتابه “ملاحظات حول الجميل والمهيب”: “هل يستحق ما يقوله نجار زنجي أي اهتمام؟ باختصار، كان هذا الرجل أسود تمامًا من رأسه حتى أخمص قدميه، وذلك دليل كاف على أن ما قاله مجرد حماقة”!
كانط، بالاستناد إلى فلسفته ذاتها، فيلسوف عرقيّ، أي أنه يقسّم البشر على أساس الأعراق ويمنح أفضلية لعرق على آخر، فلقد وضع العرق الأبيض في رأس الهرم وجعله يتصف بجميع المواهب والإمكانيات، ثم يأتي في المرتبة الثاني الهنود الذين يفتقدون للتجريد والتطوير، ثم الزنوج ثالثًا وهم عاجزون عن التعلم، قابلون للتلقين، إلا أن التلقين لا يكون إلا بالعنف، إنما العنف غير المميت، فهو يعطي نصيحة (فلسفية!) لكيفية تأديبهم وضربهم: “استخدام عصا البامبو أفضل من السوط، حتى يعاني الزنجي آلامًا مضاعفة، فجِلد الزنوج سميك ولن تضنيه ضربات السوط الخفيفة، والحرص واجب في حال استخدام البامبو حتى لا يموت”! ورأى أن تعليمهم أمر يمكن تحقيقه “إنما كخدم وعبيد فقط”، ويأتي في المرتبة الأخيرة من سلّم الأعراق الكانطي سكان أمريكا الأصليين، فهم غير قادرين على التعلم وضعفاء حتى في البيان والكلام.
توماس مكارثي يرى أن كانط استند في آرائه على تقارير الرحلات التي كتبها المستكشفون أو المستوطنون أو التجار أو المبشِّرون أو المستعمِرون ممن كان على اتصال مع ذوي نفوذ من خارج البلاد، فقد كانت هي مصدر المعرفة آنذاك عن بلدان وشعوب ما وراء البحار، وكان يقول عنها إنها مستندات ضعيفة، لكنه عندما كتب عن الأمم والأعراق استند إليها بالكامل.
من المعروف أن كانط لم يسافر إلى أي بلد، بل لم يسافر خارج مدينته، وقد اعتبرت حنة آرندت أن ذلك جعله يتعمق أكثر في قراءة تقارير الرحلات والسفر، وتعرّف، من خلالها، على شوارع لندن وإيطاليا. لكن آرندت لم تقل فيما إذا كانت تلك التقارير عرّفته، حقًا، على السّود أو الهنود الحمر أو غيرهم، أو أهّلته لأن يكون متأكدًا من أن “المبادئ الأخلاقية والفضائل لم تلجْ أفهام الصينيين أبدًا”! حيث اعتبر عرّاب التنوير أنه: “حتى رسوماتهم (يقصد الصينيين) بشعة وتصور شخصيات غريبة وغير طبيعية، لن تقابل لها مثيلًا في أي مكان في العالم. كما أن لديهم بشاعاتهم الموقرة لأنها من العادات المغرقة في القدم، ولا تمتلك أية أمة من الأمم مثل هذه الأمور أكثر من هذه الأمة”.
بطبيعة الحال، لم يكن كانط هو الوحيد في إرساء العنصرية، إلا أنه، في زمنه، الأكثر منهجية في ذلك، والأكثر تأثيرًا. انطلاقًا من فلسفته تم إغلاق الباب أمام أي فلسفة أخرى غير أوروبية لمنعها من الدخول في تاريخ الفلسفة، فلقد قام أنصاره أواخر القرن الثامن عشر بكتابة تاريخ الفلسفة مستبعِدين جميع الفلسفات السابقة على الأوروبية، ليقولوا بأن فلسفة كانط هي آخر ما توصلت إليه المثالية، وأن الفلسفة الأوروبية السابقة عليه كانت بمثابة التمهيد المعرفي لها لكي تصل إلى خاتمتها بفلسفة كانط (كذا)! وقد اعتبروا أن الفلسفة بدأت لدى الإغريق، وذلك على الرغم من وجود مؤلفات قبل كانط كانت تعرض فلسفات شرقية وغير أوروبية.
أول كتاب باللغة الإنجليزية عن تاريخ الفلسفة لتوماس ستانلي عام 1687 عرض فيه العديد من الفلسفات القديمة من الشرق، بما فيها فلسفات الكلدان والفرس والصابئة، وقد قال إن الفلسفة الإغريقية نشأت منها. وكذلك باللغة الفرنسية عام 1728 لأندريه- فرنسوا ديزلانديه الذي تضمن شروحات عن الفلسفة غير الأوروبية، بما فيها فلسفات الإثيوبيين، والمصريين، والصينيين، التي سبقت الإغريقية، بما في ذلك فصل طويل عن الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى. كذلك ثمة كتب أخرى في القرن الثامن عشر تضمنت مساحات واسعة للفلسفات القديمة التي سبقت الإغريق.
اعتمد أنصار كانط أولئك على معايير فلسفية منبثقة من فلسفته هو، وبذلك جردوا كل البنى المعرفية السابقة من كونها نظمًا فلسفية، وضمن نظرة كانط العنصرية إلى الشعوب غير الأوروبية كلها، والتي نفى فيها عنهم أية إمكانية إبداعية، مانحًا تلك الإبداعية للأوروبيين فقط، فقد جعل تلامذته كل معرفة فلسفية هي غربية حصرًا ابتداءً من الإغريق.
وقد كتب فيلهلم غوتليب تينيمان “تاريخ الفلسفة” (1798- 1819) في 11 مجلدًا دون اعتبار لأية فلسفة ليست أوروبية. ويرى لويد ستريكلاند أن أولئك الذين استمروا في إدراج الفكر غير الغربي في مؤلفاتهم، إنما فعلوا ذلك، غالبًا، من أجل إثبات أنه غير مؤهّل لأن يكون فلسفة حقيقية.
إلا أن كانط لم يكن على غير علم بما فعله تلامذته من إعادة كتابة تاريخ الفلسفة، ولم يكن غير موافق عليه، ولم يكن تلامذته قدّموا عملهم ذاك كهدية مفاجئة لأستاذهم في عيد ميلاده، الأمر الذي جعله يخجل من رفضها، بل كان أن فعل الشيء نفسه حين عرض تاريخ الفلسفة كجزء من محاضراته في المنطق خلال العام 1780. في هذه المحاضرات عرّف الإغريق على أنهم مؤسسو الفلسفة، ونبذَ أنظمة الثقافات الأخرى بوصفها غير فلسفية على الإطلاق، أو أنها، كما وصفها، مجرد “لعب أطفال”، كما أوضح بيتر ك. ج. بارك في كتابه “أفريقيا وآسيا وتاريخ الفلسفة: العنصرية في تشكيل الشريعة الفلسفية”، هذا الكتاب الذي لم يُكتب عنه ولا مراجعة في المجلات والمراجع المتخصصة في الفلسفة! وقد نتج عن بحث بارك خلاصته التي تقول إنه: “وفي غضون جيل واحد نجح الفلاسفة الأكاديميون في إقصاء العالم غير الأوروبي وترسيخ قانون للفلسفة يُقنّن تخصصهم المعرفي بكل صرامة”.
مؤرخو الفلسفة اللاحقون، وإن لم يوافقوا على أن الفلسفة الأوروبية قبل كانط كانت تمهيدًا لظهوره، إلا أنهم تبنوا بعض مبادئ كانط وأنصاره في كتابة ذلك التاريخ، لذلك صارت مقبولة وسائدة ومعتمدة تلك المقولة في أن تاريخ الفلسفة غربي بحت بدأ من الإغريق، من تلك “العبقرية الفطرية” التي لا تحوز عليها شعوب أخرى، وإنه استمر في أوروبا فقط.
العنصرية الفلسفية والعنصرية في الفلسفة يبدو كأنها كانت من القضايا الرائجة في التفكير الأوروبي، أو لنقل في بعضه، وبكل الحالات فإنها، كما اتضح تاريخيًا، نسق قوي ومهيمن، حتى إن جان جاك روسو صاحب فكرة “العقد الاجتماعي” التي تم الاستناد عليها لدى كل حديث عن بناء مجتمع-دولة، اعتبر أن: “همج أمريكا (يقصد السكان الأصليين) لم يعرفوا الزراعة ولا علم المعادن، ولهذا السبب بقوا همجًا”. ونحن نعرف، تاريخيًا، أنه ادعاء باطل. وبعض الفلاسفة، مثل تشارلز ويد ميلز، الأميركي الجامايكي، اعتبر أن “العقد الاجتماعي” الذي نظّر له روسو هو عقد بين البيض فحسب، وأن كل ما ليس أبيض لن يكون طرفًا فيه.
المؤسف، أن تلك الأفكار العنصرية يمكن العثور عليها في محاضرات هيغل عن تاريخ الفلسفة التي ألقاها في الفترة ما بين عام 1805 وعام 1831. في محاضراته تلك عامل الفكر الشرقي بفجاجة، واعتبر أنه لا يستحق مكانًا حقيقيًا في تاريخ الفلسفة!
هيغل، أحد أكبر العقول الألمانية والأوروبية في الفلسفة، ومنظّر التاريخ الذي قد يكون تأثيره في بناء العالم الحديث هو الأكبر، شنّع، هو الآخر، على الشعوب غير الأوروبية معتبرًا، كسلفه كانط، أن التاريخ بأسره يبدأ من أوروبا، وأن أوروبا هي نهاية مطاف التاريخ، حيث إن “أفريقيا بلا تاريخ” وإن: “الرجل الأفريقي يمثل الرجل الطبيعي بكل وحشيته ونزقه، إذا أردنا فهمه يجب تناسي كل طرائق رؤيتنا للأشياء نحن الأوروبيين. يجب ألا نفكر لا في إله روحي ولا في قانون أخلاقي، يجب تعليق كل احترام وكل أخلاق لما نسميه مشاعر، كل ذلك ينقص الإنسان الأفريقي، الذي ما زال في مرحلة خام، لا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكرنا بالإنسان”.
ربما لم يصنع هيغل سلّمًا عرقيًا يرتب الشعوب حسب الأدنى فالأدنى كما فعل كانط، لكنه حطّ من شأنها جميعًا، وأعلى من شأن الأوروبيين، أيضًا أولئك الذين “اكتشفوا الأرض الجديدة”، وأخضعوا السكان الأصليين بالقوة والإبادة، فاعتبر: “أنّ الوداعة والنقص في العفويّة، والوضاعة مع الخضوعٍ، هذه هي الخاصيّة الرئيسة للأمريكيين (يقصد السكان الأصليين) ويجب الانتظار طويلًا حتى يستطيع الأوروبيون أن يمنحوهم قليلًا من الكرامة الشخصيّة. إن أمر دونيّة هؤلاء الأفراد في كل الأحوال، حتى بالنسبة لقاماتهم، ظاهرٌ كل الظهور”.
ثم شعر بالسعادة بعد أن تم التخلص من غالبيتهم، فقال وقد تنفس الصعداء: “لم يبق إلا القليل من سلالاتهم”! وبفرح يضاهي فرح المستعمِرين أو يفوقه، ألقى بشارَتَه: “سبعة ملايين منهم أُعدِموا”! ونتيجة إعدامهم، بوصف الإعدام، هنا، فعلًا مساعدًا على بزوغ “الروح المطلق” في الأرض “الجديدة”، استراح من عناء الوجود “الطبيعي” للسكان الأصليين: “وهكذا، ففي الدول الحرة في أمريكا الشمالية فإن جميع المواطنين هم من أصل أوروبي، ولم يستطع السكان القدماء أن يختلطوا بهم”! مع معرفتنا بأن كلمة “طبيعي”، بالنسبة لـ”فيلسوف الروح في انبثاقه”، تعني المتوحش، أو الهمجي، أو ما قبل الإنسان أو ما دونه.
نعرف أن التاريخ عند هيغل خطي، وغائي ينطلق من نقطة ويصل إلى أخرى بشكل مسبق، النقطة التي يصل إليها هي الموجودة، حقيقة، في ذهن هيغل فقط. وبحسب عرضه لمجريات التاريخ التطورية، فإننا نلحظ أن الحضارات لا تتجاور، ولا تتعايش، بل تموت، وعليه فقد ماتت جميع الحضارات السابقة على الأوروبية. فالتاريخ يسير خطيًا نحو أوروبا، وغائيًا أيضًا، أي يسير بقصد الوصول إلى أوروبا.
لذلك فإن كلامه عن موت الحضارات يبدو واثقًا ويقينيًا، ولكن متى تموت؟ عند اقترابها من الحضارة الأوروبية بوصف هذه الأخيرة هي مطرح “الروح المطلق” وهذه غاية التاريخ! الحضارات بالنسبة لهيغل “تموت” ليس لأنها أعطت ما لديها، أو ما ينبغي لها أن تعطيه ضمن منطق التاريخ، بل “ماتت” نتيجة أسباب داخلية، نتيجة انعدام إمكانياتها الذاتية في الاستمرار، فهذه الميزة هي “حق” وحكرٌ على الحضارة الأوروبية!
يقول هيغل: “لدينا بالتأكيد معلومات عن أمريكا وحضارتها، خاصة عن المكسيك والبيرو، لكنها تُنبئنا ببساطة أن هذه الحضارة كانت طبيعية، وأنها انهارت بمجرد اقتراب الروح منها. إن أمريكا أظهرت دائمًا وما زالت تُظهر عجزًا سواء على المستوى الفيزيائي أو على المستوى الأخلاقي”!
وبإعجاب، يكرّر فرحته: “إنه منذ أن جاء الأوروبيون إلى أمريكا، بدأ السكان المحليون في الاضمحلال شيئًا فشيئًا بسبب نشاط الأوروبيين نفسه”! ونحن نعلم أن نشاط الأوروبيين آنذاك هو نشاط استعماري يعتمد القوة والقتل والإبادة.
بهذا، أرسى هيغل معالم مركزية أوروبية قارّة، وأباح الاستعمار وبرّره، بل دعا إليه لأن الشعوب الأخرى لا يمكن أن تندرج في التاريخ ما لم تخضع للأوروبيين. وعندما انطلق نابليون لغزو العالم (وإدخاله التاريخ) انتشى هيغل أيما انتشاء وقال عن بونابرت: “إنه روح العالم يمتطي صهوة الجواد”. وفي نسخ أخرى من هذه المقولة يسميه: “العقل يمتطي صهوة الجواد”.
وعندما احتل بونابرت أجزاء واسعة من ألمانيا، بما فيها الجامعة التي يعلّم فيها الفيلسوف، لم يفعل هذا سوى أنه حوّل مَدافع الاستعمار إلى مفاهيم فلسفية تخدم مقولاته في الروح المطلق وتسفيه الأخر! وبهذا يمكن، وعلى سبيل الطرافة، أن نعتبر هيغل جذراّ قويًا للداعين لاستعمار بلدانهم ومساعدي الاستعمار أيضًا!
في المصادر أن هيغل، مثل كانط، استند في معلوماته عن البلدان ما وراء البحاء على تقارير المستكشِفين والرحالة والتجار والمستعمِرين، وأنه مثله أيضًا شكّك في قوتها التوثيقية، ومثله أيضًا استند عليها في هجاء الشعوب الأخرى، وشكّك بها عندما لم توافق ميوله الفلسفية والعنصرية!
هيغل فيلسوف ماهوي، يطلق صفات فردية على شعوب، ويختزل ثقافة كاملة بماهية ثابتة. فتعبيرات مثل لا أخلاقي، ساذج، فاقد الكرامة، وغيرها.. إلخ، تُطلق على أفراد، إلا أن هيغل أطلقها على شعوب، وثقافات، وأمم، وأعراق.
بهذا الشعور الحاد بمركزية أوروبا، وبهذه الماهوية الفلسفية اتجه إلى الصين واعتبر أنها: “لا تعرف الشعور بالكرامة، وحيث لا تكون ثمة كرامة فإنه يطغى الشعور بالضعف، وهذا يؤدي ببطء إلى النذالة، وترتبط بهذه الدونية لا أخلاقية عالية لدى الصينيين، إنهم معروفون بأنهم سيخدعون كلما أتيح لهم ذلك، الصديق يخدع صديقه، ولا أحد يأبه به عندما يعلم بذلك الخداع”.
وينتقل إلى الهند بجرة قلم واحدة: “المراوغة من الطباع الرئيسة للهندي الذي هو منهزم، ووضيع، وسافل في تقديم ذاته للمنتصر والسيد، وقاس تجاه المقهورين والمرؤوسين”.
وبهذا اليقين يرى، كما يرى دائمًا، أنه لا مخرج لكل تلك الصفات البنيوية التي تعيق ظهور “الروح المطلق” إلا عبر المطرح الواسع والباذخ لها؛ أوروبا: “إن القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبية، وسوف تضطر الصين في يوم من الأيام أن تستسلم لهذا المصير”!
وعلى الرغم من أن هذه السطور غير معنية بدراسة الفلسفة الأوروبية، أو فلسفة كانط وهيغل على وجه الخصوص، وأنها معنية بإظهار التأسيس الفلسفي للعنصرية في العصر الحديث فحسب، إلا أنه لا يمكن تجاوز أسّ الفلسفة الهيغلية، وهو الجدل! ذلك أن مرتكزات النسق الهيغلي في عدم قبول الآخر والاعتراف به، وعدم الشعور بفضل الحضارات المجاورة والمشاركة والسابقة لحضارة أوروبا والغرب، يكمن في البؤرة التي انطلقت منها فلسفته وهي ما يسمّى “الجدل (الديالكتيك) الهيغلي”.
يعتمد هذا الجدل، منذ السطر الأول فيه، على فكرة النفي! وهو ببساطة: ثمة أطروحة، وثمة نقيض لها، ومن ثم توليفة أو صيرورة. المثال الأكثر شهرة هي في نمو الوردة: الوردة تنفي البرعم، ثم تنفي الثمرةُ الوردةَ، وهكذا. فالوردة وجود مزيف، والثمرة هي حقيقة الوردة. هذا المثال البسيط يكشف عن نسق فلسفي يحدد نظرة هيغل إلى الشعوب والحضارات بوصف العلاقة بينها علاقة نفي: وجود مزيف ومن ثم حقيقة، فعلى سبيل المثال، وضع الأوروبي، عندما (اصطدم) بالسكان الأصليين لدى “اكتشافة” “الأراضي الجديدة”، على سكّة قانونه هذا، فالأوروبي (النقيض) ينفي الأصلي (الأطروحة) لينتج (توليفة، صيرورة) عن تلك العلاقة هي “العالم الجديد”؛ عالم الروح المطلق أو العقل!
السكان الأصليون هم الوجود المزيف، أما الأوروبي فهو الحقيقة. وضمن هذا الديالكتيك اعتبر أن الحضارات السابقة للأوروبية ماتت، غربَتْ، دون أن يعترف بأية تشاركية، وبأن الحضارات عبارة عن صفحات في سفر التاريخ تتبادل التأثر والتأثير، وأن الحضارة التي “تغرب” قد “تشرق” مرة أخرى من جديد، ذلك أن مبدأ “النفي” هو الذي يحكم التاريخ الهيغلي حقًا! الكلمة المفتاحية الألمانية التي اعتمدها هيغل في “الديالكتيك” هي AUFHEBEN، وهذه تعني النفي، والإزالة.
هيغل يعتبر أن: “الشاهنامة التي كتبها الفردوسي في القرن الحادي عشر ليس لها قيمة كمصدر تاريخي ما دامت محتوياتها شعرية ومؤلفها مسلمًا”. بصرف النظر عن محتوياتها، وعن وجهة نظرنا في ذلك، ولكن ماذا نقول عن كونها كذلك، فقط، لأن مؤلفها مسلم؟
لقد وضع هيغل سمات ماهوية للشرق: “اللاعقلانيّة، الطفوليّة، الاستبداد، والأنثويّة، والتخلّق، والقوّة، والبربريّة”، وبناء على ذلك اعتبره نقيضًا للغرب.
لقد استفادت البشرية من بحث كلود ليفي شتراوس الأنثروبولوجي عندما وجد أن مفردات مثل “الهمج” و”البربر” التي استخدمها الأوروبيون في وصف الشعوب الأخرى، خاصة السكان الأصليين، لا هدف لها سوى الحطّ من شأنهم، وأنه لا وجود لهذه المرحلة التي سمّوها “همجية” أو “بربرية” في تاريخ البشر، وقال: “إن البربري (أو الهمجي)، قبل كل شيء، هو الإنسان الذي يعتقد بوجود البربرية” (أو الهمجية).
أعتقد أنه حتى يصح نقدنا للعنصرية الفلسفية، أو العنصرية في الفلسفة يجب علينا أن نبحث عن الأنساق، لا أن نكتفي، بطيب نية، أو بتبريرات تتماشى مع انحيازاتنا وميولنا المعرفية والإيديولوجية، بتصورها مجرد تعبيرات فردية لدى الفلاسفة إن: “التركيز على التعبيرات العنصرية الفردية يمكن أن يحجب الطرق التي تستمر بها العنصرية في النُّظُم (…) إنه بالتركيز على إدانة العنصرية الفردية للفلاسفة قد سمحنا للعنصرية الفلسفية النسقية أن تبقى على حالها”.
* شاعر وناقد وباحث سوري
المصدر: موقع صوت ultr