الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عبد الناصر.. وحديث الرصاصة الأولى

عبد الله السناوي *

لمرتين تاريخيتين تداخلت القاهرة بالإسناد والدعم والتخطيط المشترك في إطلاق ثورتين مسلحتين، الجزائرية والفلسطينية.

الأولى، حققت هدفها في الاستقلال.. والثانية، وقعت في خديعة «أوسلو» قبل أن يواصل شعبها دفع فواتير الدم والتضحيات لنيل حقه في تقرير المصير.

حديث الرصاصة الأولى يلامس الحقائق الأساسية عند منابعها في لحظة حاسمة من الحرب على غزة.

إنه حديث المصير العربي الواحد، الذي لا ندركه ولا نعرف مكامن القوة فيه.

لم تكتسب مصر أدوارها وقيادتها للعالم العربي ولا تأكدت مكانتها على مسارح العالم الثالث من فراغ سياسات، أو بأوهام زعامة.

لكل دورٍ أثمانهُ وتكاليفه.

في كانون الثاني/ يناير (1965) بادرت حركة «فتح» بإطلاق الرصاصة الأولى وحاولت أن تطرح القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني لا قضية لاجئين يحتاجون إعانات وإغاثات.

بعد هزيمة (1967) تبدت ضرورات إحداث تحول جوهري في الفكر السياسي الفلسطيني.

لم يكن ذلك ممكناً دون غطاء عربي قوي ومؤثر.

فى تشرين الأول/ أكتوبر (1967) حضر إلى القاهرة ثلاثة من مؤسسي «فتح» «ياسر عرفات» و«صلاح خلف» و«فاروق قدومي» لمد الجسور معها.

حاوروا شخصيات مقربة من الرئيس «جمال عبدالناصر» أبرزهم الوزير «كمال الدين رفعت» والأستاذ «محمد حسنين هيكل».

بصورة مفاجئة أبلغهم «هيكل» إنه سوف يصحبهم بسيارته الخاصة للقاء شخصية مهمة.

كانت المفاجأة أنه «عبدالناصر» نفسه، الذي لخص موقفه في جملة واضحة ومحددة: «أريد أن أسمع طلقة واحدة تدوي كل يوم في الأرض المحتلة».

في تلك الأيام بأجوائها المُلبدة، تبدت حسابات جديدة على الساحة الفلسطينية.

وفرت القاهرة غطاءً عربياً ودولياً كاملاً لمنظمات العمل المسلح، قدمت «عرفات» إلى قيادة الاتحاد السوفييتي السابق، وتابعت نقل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من الخطباء إلى الفدائيين.

بقدرٍ مماثل كان دور «عبدالناصر» جوهرياً في حرب تحرير الجزائر.

في الثانى من تموز/ يوليو عام (1954)، قبل سبعين سنة بالضبط، أطل «أحمد بن بيلا»، أبرز قادة الثورة التي توشك أن تعلن، لأول مرة عبر أثير «صوت العرب».

بصوته المؤثر قدمه «أحمد سعيد» مؤسس «صوت العرب» بالكلمات التالية:

«أخ جزائري في حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان».

لم يكن «بن بيلا» يُتقن العربية في ذلك الوقت بأثر سياسات «الفرنسة» التي عانتها الجزائر.

كتب النص بالفرنسية.

شارك في ترجمته إلى العربية أربعة رجال: «محمد خيضر» و«حسين آية أحمد» و«فتحى الديب» و«أحمد سعيد».

«أعيدت كتابته مرة أخرى بحروف لاتينية كبيرة حتى يمكنه قراءتها للجمهور العربي».

«OHADISACOM-MEN-SAWT-ALARAB-MEN-ALKAHIRA-MADINATO-ALAZHAR-ALSHARIF»

«أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف».

على ذلك المنوال كَتبَ بقية الخطاب «التاريخي» بكل ما يحمله الوصف من معنى وقيمة، كلحظة إطلاق للثورة الجزائرية.

كانت نهاية الخطاب مؤثرة وملهمة: «كان الفرنسيون يقولون في أعماقهم دون صوت أيام بطش الاحتلال النازي فرنسا للفرنسيين.. فليردد كل الجزائريين، ولو بصوت أخرس صباح مساء، كلما رأوا فرنسياً جندياً أو مستوطناً الجزائر للجزائريين».

كرر العبارة نفسها باللغة الفرنسية.

كان قاسياً على مشاعر «بن بيلا» “أنه لا يستطيع أن يتحدث بلغة بلاده وقرآن دينه”.

قطع التسجيل أكثر من مرة لاعناً «الفرنسة»، التي فرضتها سلطات الاحتلال على بلده ومواطنيه.

هكذا وصف «أحمد سعيد» مشاعر الرجل، الذي ربطته به صداقة عميقة إلى آخر العمر، في مذكرات خطية لم يتسن لها أن تُنشر حتى الآن.

أثناء سنوات سجن «بن بيلا» في باريس بعد اختطاف طائرة تقله مع أربع قيادات تاريخية أخرى علمَ نفسه العربية وأتقنها.

في تموز/ يوليو (١٩٦٢) ألقى خطاباً آخر عبر «صوت العرب» من الجزائر المستقلة، لكن هذه المرة بلغة عربية متمكنة.

فيما بعد روى «بن بيلا» في حوار صحفي أن أكثر ما أثقل مشاعره أن مترجماً حضر أول اجتماع مع «أخي جمال»، لكن «القلوب تكلمت».

في حوارات القاهرة أبلغ «بن بيلا» السلطات المصرية أن الرصاصة الأولى سوف تُطلق في الساعة الواحدة من صباح (٣٠) تشرين الأول/ أكتوبر (١٩٥٤).

كانت توجيهات «عبدالناصر» إلى «فتحي الديب»، الذي يتولى من موقعه متابعة الملف الجزائري بأدق تفاصيله: «عندما يُثبت تنظيم الكفاح المسلح ومن يومه الأول قدرته على العمل الثوري الشامل فإن مصر سوف تلقي بثقلها كاملاً عارفة بمسؤوليتها ومتقبلة لتضحياتها».

هكذا بالحرف.. لكنه بدا متحفظاً على الحماس الزائد، الذي خطط لنحو ثمانين عملية في اليوم الأول: «يكفيني ١٥ أو ١٦ عملية بامتداد الجزائر وأن تكون ذات دوي في العاصمة حتى تُلفت أسماع العالم».

لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التي خطط لها أن تشمل أنحاء واسعة من الجزائر، إلى الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر.

فى ذلك اليوم من عام (١٩٥٤) بدأت تتوالى الأخبار من وكالة الأنباء الفرنسية عن «محاولات تخريب، تقدر خسائرها بآلاف الفرنكات».

«اندلعت الشرارة الأولى للكفاح الجزائري، الذي اعتقد الجميع أنه أمر مستحيل، ليستمر أكثر من سبع سنوات، ناضل خلالها الجزائريون بقوة وجدية ورجولة أكسبتهم احترام الرأي العام العربي والدولي على السواء».

عندما علم «عبدالناصر» أن دوي الانفجارات أرعبَ قوات الاحتلال الفرنسي تأكد أن الجزائر قد استعادت استقلالها وأكدت هويتها العربية، وأن الباقي تفاصيل.

كان التفكير الاستراتيجي المصري يربط ما بين تطلعات المصريين للاستقلال الوطنى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتطلعات العرب للهدف ذاته.

إنها وحدة المصير العربي.

هذه الفكرة- بالذات- كانت أساس الدور الإقليمي المصري خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

في معركة الجزائر تأكد الدور المصري في عالمه العربي بلا مَنٍ أو ادعاء.

القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر في تموز/ يوليو (١٩٦٢) حاضرة في قلب التخطيط السياسي والإعلامي والعسكري شريكاً كاملاً في المعركة.

لا تكتسب الأدوار بالادعاء.

هذا هو درس «عبدالناصر».

ولا تكتسب الحقوق بالمجان ولا يحدث استقلالاً دون أن يدفع ثمنه غالياً.

هذا هو درس الثورة الجزائرية، الذي تمضي المقاومة الفلسطينية على طريقه اليوم.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.