الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في الانقسام السياسي للسوريين

حمزة رستناوي

في البلدة التي شهدت مسقط رأسي في سورية ينتمي كلّ السكان إلى هوية قومية واحدة، وهوية دينية (طائفية) واحدة. أتساءل ما هي حدود الانقسام السياسي في هذه البلدة، في مرحلة ما قبل الثورة؟ غالب الشعب منتسبين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، بحكم التنسيب الإلزامي للطلاب، وكجزء من عملية الضبط الاجتماعي الذي تمارسه السلطة الشمولية الأسدية ذات الطبيعة المؤدلجة (حزب البعث القائد للدولة والمجتمع)، ولا وجود لأحزاب سياسية أخرى، بسبب سياسات الإقصاء العنيف التي مارستها السلطة الأسدية ضد المختلفين عنها، ومن ثم لا يوجد انقسام سياسي على أساس حزبي، حيث إن الحزب هو الأداة الأساسية لممارسة السياسة في الدولة الحديثة.

حتى منتصف السبعينيات، شهدت البلدة حالة انقسام سياسي على أساس حزبي، بين البعثيين والناصرين، مع حضور ضعيف لحزب التحرير الإسلامي (بضعة أشخاص)، وغياب لافت لحزب الإخوان المسلمين. يرتبط الانقسام السياسي بدرجة حضور المجتمع السياسي، ولذلك لم يكن معلمًا بارزًا في البلدة، بالمقابل كان الانقسام العائلي حاضرًا، لكونه يرتبط بالمجتمع الأهلي وحالة القصور السياسي الشامل للمجتمع والدولة السورية عمومًا.

في سورية ما قبل الثورة، كان الانقسام السياسي أساسًا ما بين مؤيدين للسلطة الأسدية، لأسباب مختلفة تتعلق بالمنشأ الطبقي، وأسباب انتهازية نفعية، أو أسباب تتعلق بالطموح والمكانة الاجتماعية. لقد تحوّل حزب البعث إلى حزب سلطة وانتفاع اختُزل في عائلة الأسد وشخص القائد الأب ثم القائد الابن. أما الطرف المعارض للسلطة الأسدية، فهو أيضًا يضمّ معارضين بخلفيات مختلفة لا يمكن عزوها إلى سبب واحد.

إذًا، في سورية ما قبل الثورة، لم يكن الانقسام السياسي هو المعلم الأبرز، وذلك لغياب الحريّة والمفهوم الحديث للمجتمع السياسي، بل كان الانقسام الطائفي والقومي والمناطقي هو الأبرز، حيث إن الانقسام السياسي نفسه في الحالة السورية كان -إلى حد بعيد- مجرد انعكاس لهذه الانقسامات الثلاثة السابقة ما قبل الوطنية، وهذا الوضع لم يكن عفويًا، إنما جاء في سياق إخضاع المجتمع وقطع التراكم السياسي السابق لثورة/ انقلاب آذار 1963

مع اندلاع الثورة السورية 2011، بدا الانقسام السياسي حاضرًا في البلدة، بين قوى شابة متحمّسة للتغيير السياسي، وهي قوى غير مؤدلجة لكنها غير مُحصّنة ضد الأدلجة الإسلامية، وقوى تدافع عن بقاء النظام الأسدي غالبًا لأسباب مصلحية ضيقة، وقوى غالبة تسعى لتجنيب البلدة النتائج الكارثية المتوقعة لهذا الصراع، ولذلك عمليًّا كان أغلب شباب البلدة يمارسون التظاهر خارج حدود البلدة، في مدينة حماة أو خان شيخون القريبة.

عندما نتكلّم على الانقسام السياسي للسوريين، نتخيل أنّ هذا الانقسام جاء بناءً على وجود وعي ومنظور سياسي معين للأشخاص، ولكن هذا الاصطفاف السياسي -في الغالب الأعم- جاء بناءً على أسباب وسياقات تتعلق بالتجارب الشخصية للأفراد، مثلًا شخص تاجر في البلدة، خطفته جماعات ثورية في بداية الثورة مقابل فدية مالية، سرعان ما تحوّل مع بقية عائلته إلى موقفٍ موال للنظام الأسدي، “جكارة” بالثوة والثوار، بالمقابل شخص من البلدة نفسها أوقفه حاجز لقوات النظام وأنزله من الباص، بناءً على تهمة تشابه الأسماء ومن ثم عُذّب بشكل وحشي في فرع الامن العسكري مدة من الزمن، قبل أن يدفع رشاوى باهظة لإطلاق سراحه، هذا الشخص سرعان ما تحوّل إلى قائد فصيل ثوري يقاتل النظام الأسدي.

بالمقابل، في مدينة طيبة الإمام المجاورة، مثلًا، أخذ الانقسام السياسي مع بداية الثورة شكل صراع وتنافس عائلي قديم جديد، أما في مناطق ذات التماس السنّي-العلوي في قرى الغاب، فقد أخذ الصراع السياسي شكلًا طائفيًا منذ البداية. أما في المدن الكبيرة، كحلب مثلًا، فقد أخذ الانقسام السياسي شكل صراع مناطقي بين الريف والمدينة، وكذلك ضمن المدينة نفسها أخذ -إلى حد ما- شكل صراع بملامح طبقية بين الأحياء الشعبية الفقيرة في حلب الشرقية وسكان الأحياء الثرية في حلب الغربية.. الخ.

هل كل المؤيدين للسلطة الأسدية هم من المُعجبين بمواقفها؟! بتحليل الموقف الشعبي المؤيد للسلطة، يمكن اقتراح الأسباب التالية: أسباب انتهازية نفعية، وأسباب طائفية، وأسباب أيديولوجية تتعلق بنظريات المؤامرة الصهيونية، وأسباب تتعلق بالخوف من بطش السلطة أو الخوف من البديل الإسلامي السنّي والتعرض لانتقام مماثل لما حدث في العراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين. أعرف صديقًا شاعرًا، من خلفية علوية وهو سجين سياسي سابق، كان ينتقد النظام الأسدي بجلساته بشكل شبه علني، ولكنه مع بداية الثورة سرعان توقف عن انتقاد النظام، وبارك تجنيد أولاده في ميليشيات الدفاع الوطني دفاعًا عن سورية -وليس السلطة الأسدية- ودفاعًا عن وجوده كشخص ينتمي إلى فئوية علوية مهددة بالإبادة، في حال انتصار الثورة، وفقًا لما صرّح به لاحقًا. إذًا، نحن أمام معادلة يمكن اختزالها على الشكل التالي: أنا سوف أبادر بالقتال، لأني أخاف على نفسي من القتل لاحقًا! هذا المثال يكشف انتشار ضعف الثقة بين السوريين أنفسهم أفرادًا وفئات. من المسؤول؟ كيف؟ ولماذا؟ على كل حال، يمكن عزو ذلك إلى سياسات السلطة بلا شك، ولكن المسؤولية لا تقف عند هذا الحد، فهناك قصور معرفي وأخلاقي مزدوج، وعمومًا يضعف التفكير المنطقي في حالة الخوف، وفي حالة الخوف أيضًا يقوم الإنسان بتبرير سلوكيات لا أخلاقية، حفاظًا على وجوده، وعند استشعار خطر كبير قادم. عمومًا، كلّما ازداد حضور الأسلمة في الثورة السورية؛ زاد الشرخ السياسي بين السوريين، وهذه مسؤولية القوى الثورية الطامحة للتغيير أولًا عبر تقديم خطاب وطني إنساني جامع، وكلما استحضرت السلطة السورية بُعدها الطائفي داخليًا، واستخدمت تحالفاتها مع محور ولاية الفقيه الشيعي؛ زاد الشرخ السياسي أيضًا بين السوريين.

لسان حال بعض السوريين يقول: (إن الثورة قامت لأسباب طائفية سنّية، وليس لأسباب تتعلق بالحرية وطلب الدولة الحديثة، ولذلك سوف أقف ضدّ هذه الثورة). وهنا ينبغي تجنب منظور الثنائيات، والنظر إلى الجانب الوطني والإنساني في الثورة السورية وعدم إهماله، ويجب أيضًا النظر إلى الجانب الطائفي وتحالفات السلطة السورية ذات الميول الطائفية الشيعية بمعيار واحد.

ولسان حال بعض السوريين يقول: (الموالون للسلطة الأسدية هم مجرمون وطائفيون بطبيعتهم، ولذلك وقفوا ضد ثورة الشعب السوري واستسهلوا قتلنا). وهنا ينبغي تجنب التعميم والتدقيق، فالمولاة للسلطة ليست جينات وراثية، وهي درجات وتنويعات مختلفة، ومن الضروري هنا تقديم خطاب متفهّم لمخاوف الحامل الاجتماعي لهذه السلطة، ليس ضعفًا وليس مجاملة، بل لأنها مخاوف حقيقية لا يمكن إهمالها، خصوصًا مع زيادة حضور الإسلام الجهادي في الثورة السورية تصاعديًا.

الإسلام الجهادي السني والشيعي معًا هما عوامل خطر لتفجير المجتمعات السورية، لكونهما يحاولان فرض حالة قسرية من التجانس ضمن الجماعة الفئوية نفسها لتميزها عن (الآخر العدو)، ولكونهما يعرضان لنمط استبداد اجتماعي وسياسي معًا. إن السلطة السورية الأسدية -على كل عيوبها- تحافظ على درجة معقولة من الحريات الاجتماعية والتنوع العقائدي الديني، مقارنة بمناطق سيطرة المعارضة الإسلامية، وهنا يمكن استنتاج فكرة مفيدة لترميم حالة الانقسام السياسي بين السوريين: يتناسب حضور الانقسام السياسي السوري عكسًا، مع تقديم خطاب وطني سوري ذي توجهات ليبرالية-ديمقراطية، يؤكد الحريات الفردية واحترام أنماط التدين المختلفة للسوريين.

لنميز بين مصطلحات التنوع السياسي، وهو قانون اجتماعي عابر للعصور والمجتمعات ويحوي مصالح إيجابية عمومًا، وبين الانقسام السياسي الذي يمكن توصيفه بكونه حالة استقطاب واصطفاف اجتماعي يحوي مصالح سلبية عمومًا، وبين الصراع السياسي المُسلّح الذي هو بمنزلة تصعيد للحالة السابقة ومحاولة إلغاء الآخر المُختلف سياسيًا. وعمليًّا كل صراع سياسي مسلّح يحتاج إلى أيديولوجيا سياسية صلبة، وفي الحالة السورية، تم استخدام العصبيات الطائفية والقومية أساسًا كعنصر أساسي في تكون هذه الأيديولوجيا السياسية المطوبة لاستمرار الصراع المسلح.

إن حدود الانقسام السياسي لا تتطابق مع حدود الانقسام الهوياتي (الطائفي- القومي-العائلي)، وهذه نقطة إيجابية، فالسياسي مُتغير بناءً على سياق الظروف والمصالح، في حين إن الانتماء الهوياتي (الطائفي والقومي والعائلي) من الصعوبة بمكان تغييره. ولتخفيف حدة الانقسام السياسي في المجتمع السوري، نحن أمام حالتين، إما أن يقوم الأفراد بتبني موقف سياسي مُختلف عن قوى الشّخصنة الطائفية والقومية السائدة في مجتمعاتهم، وإما أن تشهد الجماعة الطائفية والقومية نفسها حالة انتقال سياسي، تفسح المجال لتسوية وطنية متعددة الأطراف.

تتعلق حالة الانقسام السياسي في المجتمع عمومًا بمستوى العنف، كلما ازدادت درجة العنف المستخدم في الصراع، بدا الانقسام السياسي أكثر وضوحًا، وزاد حجم الكتلة المسيسة في المجتمع. فمثلًا من غير المجدي الحديث عن تقليص مساحة الانقسام السياسي في سورية، مع استمرار أخبار مجازر الإبادة الجماعية ومشاهد التهجير القسري!

في مقاربة موضوع الانقسام السياسي السوري، ينبغي توفر ظروف موضوعية تساهم في تخفيفه، أوّلًا توقف عجلة العنف والحرب، ومن اللافت هنا أن الحالة السورية دخلت في وضع مزمن، وها قد مضت سنوات على آخر معركة فعلية بين الفرقاء المتصارعين، وهذه نقطة إيجابية، كذلك يمكن تخفيف الانقسام السياسي في حالة وجود إجراءات فعلية للمصالحة تسمح بعودة النازحين واللاجئين إلى مدنهم وبلداتهم. الذي حدث عمليًّا في سورية هو تأسيس جدار فصل بشري بين السوريين، لا يسمح بالتعددية والتفاعل المجتمعي، والذي هو الخطوة الأولى لتبديد حالة الانقسام السياسي. على سبيل المثال، أكثر من نصف سكان البلدة التي أنتمي إليها نازحون ومُهجّرون في الشمال السوري وتركيا، ولا يستطيعون العودة إلى منازلهم، خوفًا من الاعتقال وقد نهب أملاكهم، وعُرضت بساتينهم من الفستق الحلبي للاستثمار من قبل أزلام السلطة والمتعاونين معهم. كيف يمكن الحديث عن ترميم حالة الانقسام السياسي بين أبناء البلد الواحدة في ظل ظروف كهذي؟! على سبيل التمثيل لا التطابق، هل يمكن الحديث عن تخفيف حالة الانقسام السياسي بين الفلسطينين والإسرائيليين؟ الجواب هو نعم، في حال توفر شروط الحد الأدنى للاعتراف والمصالحة.

ثمة مساحة ما، يستطيع السوريون غير المتورطين في الجرائم العملَ عليها. السؤال الذي ينبغي أن يطرحه السوريون على أنفسهم: ما الجدوى وما الفائدة المتوقعة من استمرار هذا الانقسام المشحون بالصور النمطية عن بعضنا البعض وخطابات الكراهية؟! لقد وصلت حالة الانقسام السياسي وخطابات الكراهية بين السوريين إلى أقصاها، في فترة قصف المدن بالبراميل وظهور داعش ومجازر الإبادة التي ارتكبت السلطة الأسدية معظمها! لم ينتصر أحدٌ من السوريين العاديين! فقط انتصر زعماء الحرب من كل الأطراف! والمجتمعات التي تحمّلت العبء الأكبر في الحرب لم تنل سوى مزيد من الفقر والذل المُمارس عليها من قبل السلطة الأسدية والميليشيات المُعارضة كذلك. وهنا أتساءل: هل ثمة منطق معيّن يبرر تقارب الضحايا على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والقومية والمناطقية؟! الإجابة هي نعم، ولكن ذلك مشروط بإمكانية وعي المصالح المشتركة بينهم.

من التقاليد السورية السابقة للثورة، تجنّب الحديث العام عن السياسة والدين بين الزملاء في الدراسة والعمل وجيران السكن، لأسباب تتعلق بانغلاق المجتمعات السورية نفسها من جهة البعد العقائدي الديني، وبسبب سياسات السلطة السورية نفسها التي تحرّم الحديث العلني في السياسة والطائفية أيضًا، إضافة إلى السبب الأهم وهو البحث عن مساحة مشتركة مفيدة وآمنة للتواصل بين السوريين تغطي الجوانب الاجتماعية والاقتصادية العملية. وهذه نقطة يمكن الاستفادة منها بشكل جزئي لترميم حالة الانقسام السياسي الحاد بين السوريين أنفسهم.

لكل عداوة سبب، وفي حال عدم وجود سبب شخصي للعداوة، من المُفترض أن تكون العلاقات الاجتماعية بين السوريين المختلفين سياسيًا طبيعية على المستوى الشخصي، كما هو الحال في أي مجتمع آخر. بعد هذه السنوات الطويلة من الحرب، غالب السوريين هم من غير المستفيدين من استمرار الانقسام والصراع، بغض النظر عن مواقفهم السياسية السابقة، ولذلك في حال وجود مبادرات للمُصالحة الوطنية والسلم الأهلي على مستوى المجتمعات المحلية، من المتوقع أن يتحقق اختراق ما، ولكن ذلك مرهونٌ أيضًا بدرجة معينة من الاستقرار والنمو الاقتصادي تتيح لهم تبادل السلع والخبرات، فإذا كانت السياسة تفرّق، فإن الاقتصاد يحوي بطبعه مصالح مشتركة بين الناس قد تتجاوز انقساماتهم السياسية.

ثمة عوامل لا نستطيع التأثير فيها، كقرارات الدول الكبرى والإقليمية، ومن الواضح أننا أمام حالة استعصاء سياسي ولا يوجد بوادر لتغيير ديمقراطي ومصالحة وطنية شاملة في سورية، فهل ننتظر فقط؟! ما الذي يمكن فعله الآن وفي المدى المنظور لمعالجة حال الانقسام السياسي المُستحكم بين السوريين؟ إنّ أي حوار مباشر بين السوريين المنقسمين سياسيًا، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو بشكل شخصي، يشكّل فرصة ثمينة لتحقيق ذلك. ولتجنّب تصعيد حالة الانقسام وفشل الحوار، ينبغي أن يكون ذلك وفقًا لمبادرات منظّمة يُعدّ لها جيدًا، ومن خلال استضافة شخصيات غير مُرتبطة بشراكات أو مصالح مباشرة مع السلطة أو أطراف المعارضة أيضًا. الحوار بحدّ ذاته مفيد، ويفسح المجال مع استمراره لخلق تفاهم أكبر بين السوريين المختلفين. وكذلك يمكن الاستفادة من حيوية العلاقات الاجتماعية، والتأكيد على المشتركات والتاريخ العائلي المشترك، أو الإرث الثقافي المشترك، في التعايش بين السوريين، فمثلًا قد تكون مناسبات الأعياد والاحتفالات الدينية للطوائف السورية المختلفة مناسبة لترميم حالة الانقسام السياسي، عبر المشاركة وتعزيز البعد الإنساني، والتذكير بحبل المودة القديم بين الناس.

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الانقسام المجتمعي على خلفية الانقسام السياسي”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.