الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الثاني).. الحلقة الحادية عشرة

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الحادية عشرة من الجزء الثاني– بعنوان: (المكاسب الاشتراكية وشعارات النضال).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

                              3

                      المكاسب الاشتراكية وشعارات النضال

   إن الطب مؤمم في بريطانيا، والضرائب تُفرض بشكل تصاعدي، وأكثر المرافق العامة ملك للدولة. كما يوجد في فرنسا نظام للتأمين الاجتماعي واسع النطاق، والمصارف فيها مرتبطة بالدولة. إن أسلوب التأميم والاقتصاد المُختلط قد تناول الكثير من مرافق الحياة الاقتصادية في عدد من الدول الغربية، وسياسة تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد تتزايد كل يوم. أما نظام الإقطاع فقد زال من تلك البلاد منذ زمن بعيد ولم يبقَ منه إلا بقايا منزوية، كما هو الحال في جنوب إيطاليا وصقلية وفي إسبانيا. إن الدول الغربية، ليست بالدول الاشتراكية، وهي لا تدعي أن اقتصادها اشتراكي، إذ هي نموذج للدول الرأسمالية في مرحلة من مراحل تطورها؛ فهي تحاول أن تطور مجتمعها بشكل يضمن استمرار المصالح البورجوازية، ويقيها من الانفجارات الثورية.

   إن أوربا الغربية، لم تقم فيها بعد ثورات اشتراكية، وهي مازالت تعيش على مكاسب الثورات البورجوازية التي قامت في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عش، وهي ما زالت تقتات من مكاسب تلك القرارات التي حررتها من الإقطاع ومن عهود السلطة المطلقة، بعد أن استطاعت الرأسمالية أن تمسك الزمام في تلك البلاد، وأن تجعل من مكاسب نضال الشعب ضد تسلط الإقطاع واستبداده مكاسب للبورجوازية التي تمتلك الآلة وتسيطر على القوى المنتجة. وليس هناك من حكم في دول الغرب يستطيع أن يدعي لنفسه النسب الاشتراكي، فاليمين هو الذي يسيطر فيها على أجهزة الحكم ويوجهها لصالح الاستثمار الرأسمالي.

   لقد اضطرت الحكومات الغربية إلى السير في طريق توجيه الاقتصاد، وإن السياسة الليبرالية وسياسة الاقتصاد الحر (التي تقوم على حرية الاستثمار وحرية التبادل وحرية التجارة) قد قُيدت، لتستطيع أن تعيش وتتلاءم مع الظروف الجديدة، وأرغمت السلطات البورجوازية على اللجوء إلى أنواع من تدخل الدولة والى التأميمات والضمانات، بحيث سبقت في كثير من النواحي الإجراءات الاقتصادية التي جرت عندنا أيام وحدة القطرين، وأسميناها بالإجراءات الاشتراكية. ولا نقصد من هذه المقارنة أن ننفي عن الإجراءات التي سار فيها حكم الوحدة، صفة الاشتراكية، والتنهيج الاشتراكي، وإنما نقصد من وراء ذلك وضع الأمور في مواضعها، والنظر إلى الأنظمة والتطبيقات من خلال القوى والمصالح التي ترتبط بها، ومن خلال الصراع الاجتماعي الذي يولدها، لتُعطى مكانها ولُيحدّد طابعها.

   إن مطالب تأميم المرافق العامة والضمان الاجتماعي وزيادة الأجور، كانت منذ سنوات ليست بالبعيدة، مطالب ثورية في الغرب، ينادي بها الاشتراكيون وتناضل من أجلها الطبقة العاملة، ولقد قامت في سبيلها إضرابات وحركات دامية. ولكن البورجوازية استطاعت هناك أن تتمثل بعضاً من هذه المطالب وبشكل تدريجي، بعد أن أُكرِهت عليها من خلال عملية الصراع الطبقي، ومن خلال تنازع المصالح ضمن الظروف الخاصة بتلك الدول الغربية أما الاشتراكيون الثوريون فقد تجاوزوا تلك المطالب المرحلية، إلى مطالب أخرى أبعد وأشمل. والرأسمالية في الغرب، لا تسمي ما تحقق من إصلاحات اقتصادية، بالمنجزات الاشتراكية، وهي لم تعد تفكر يوماً بالتراجع عنها. إنها أشياء تمثلتها البورجوازية ودخلت في طبيعة النظام البورجوازي الغربي، وأصبحت من مقوماته، وبقي الصراع الطبقي مستمراً، وبقيت احتمالات الثورة الاشتراكية قائمة، ولو أن هذا التطور في عقلية البورجوازية الغربية وفي أساليبها، قد اضطر الاشتراكيون الثوريون إلى «مراجعة» أفكارهم، وإلى إعادة النظر في خططهم وتقديراتهم.

   ونترك إلى مقال آخر بحث تجارب الدول الاشتراكية والديمقراطيات الشعبية ودول العالم الثالث الاشتراكية، ولكن الصراع الاجتماعي والقومي، الذى أخذ أشكالاً مختلفة بين دولة وأخرى، (من الاتحاد السوفياتي الذي قام على أثر ثورة اجتماعية كبرى، إلى دول أوربا الشرقية التي جاءت ظروف الحرب وما بعدها لتبدل طبيعة الصراع وتوزيع القوى في مجتمعاتها، إلى الصين الشعبية التي قام نظامها الاشتراكي بعد نضال طويل للتحرر القومي، تولدت خلاله ثورة اجتماعية كبرى عميقة الجذور، إلى كوبا التي وصلت إلى نظامها الجديد عن طريق الصراع الداخلي والنضال ضد نظام حكم عميل للاحتكارات الأمريكية)؛ كل ذلك إنما نستعرضه إلى جانب ما قدمنا به لهذا البحث من واقع الغرب، لنصل إلى التأكيد على الطريق الاشتراكي الخاص بكل شعب، وإلى التأكيد أيضاً على أن الشعارات التي يطرحها النضال في سبيل الاشتراكية يجب ان تتجه إلى الواقع وإلى مصالح الجماهير الكادحة ومستقبلها. فلا يجوز للاشتراكي أن يَغفل لحظة عن طبيعة الصراع الطبقي القائم في المجتمع وعن المرحلة التي يمر بها هذا الصراع. فالعمل الثوري هو الذي ينخرط بعمق في الصراع الطبقي لتكون مهمته دائماً إنضاج الثورة وإنضاج الوعي الثوري في صفوف الجماهير.

   وفي أيام وحدة القطرين، قام عبد الناصر يفاخر بأنه يحقق ثورة بيضاء، وأنه يحقق منجزات اشتراكية من غير دم ومن غير ضحايا. إن إغفال عبد الناصر للواقع الاجتماعي العميق، وتجاهله للصراع الحقيقي الثاوي في مختلف أرجاء المجتمع، ومجيئه هو وإجراءاته من فوق الشعب، قد دفع ثمنه الشعب بعد الانفصال. لقد دفعنا الثمن انفصالاً وضرباً لوحدة، وندفعه في هذه الردة الغاشمة للقوى الاستغلالية التي عادت لتجثم على رقبة الشعب، الذي جرده الحكم السابق من كل التدابير التي يستطيع أن يقي بها نفسه من مثل هذه الردة. إن الخطوات التي سار بها الحكم أيام الوحدة لم تُفرض على الرجعية من خلال الصراع، ولم تتمثلُها هي، ولم يتمثلها النظام القائم، كل ما في الأمر، أن الدعاية أخذت تموِّه الواقع، وأن الصراع الذي كان مكشوفاً تحول إلى صراع خفي، وأن الرأسمالية وجميع قوى الرجعية التي حاول الحكم عزلها عن السيطرة على توجيه الحكم سلكت سبيل التآمر على الحكم وعلى الشعب معاً.

   إن خطوة واحدة فرضت نفسها، وهي خطوة ضرب الإقطاع وتطبيق الإصلاح الزراعي. وهذه الخطوة لم تنجح، إلا لأن الصراع المكشوف في الماضي قد مهد لها. فطبقة الفلاحين كانت قد أخذت تُجابه بقوة الإقطاع في سورية، منذ عام ١٩٥٤، وكشفت هذه الطبقة قوتها السياسية في قدرتها على التأثير في الانتخابات، عندما تحررت في عدد من المناطق من سلطة الإقطاع واستطاعت أن ترسل إلى المجلس النيابي بمن يمثلون مصالحها كطبقة صاعدة. وجميع الذين عاشوا تجارب الصراع السياسي في السنوات القليلة التي سبقت الوحدة، يعرفون كيف أن الطبقة الإقطاعية، سلكت في ذلك العهد أيضاً طريق التآمر والخيانة، للوقوف في وجه التيار الشعبي الصاعد، الذي أخذ يهدد مصالحها بشكل حاسم، ويتذكرون كيف جاء تصميم الوحدة، ضمن كثير من التعقيدات والالتباسات السياسية، ليعطي حلاً لهذا الصراع. ومنذ الأيام الأولى للوحدة كان شعار الإجهاز على الإقطاع مطروحاً، وكان الحكم في مصر قد سار منذ قيام الثورة عام 1952 في هذا السبيل.

   فحكم الوحدة إذن، عندما جاء يطبق الإصلاح الزراعي ويحدد ملكية الأراضي، كان يطبق خطوة تم إنضاجها من خلال صراع طبقي طويل، وكان بمقدور الشعب أن يفرضها فرضاً. والطبقة الرأسمالية التي حالفت طويلاً نظام الإقطاع والعشائرية، وجدت نفسها مضطرة لأن تساوم على الاقطاع، ولو أنها كانت تتقدم كمدافعة عنه وكمطالبة بإنصاف الملاكين والعطف على من جُردوا من أملاكهم، لتحتفظ ببقايا العشائرية والإقطاع رُدفــاء لها، تتقوى بهم ضد التيار الاشتراكي، الأمر الذي توصلت إليه بعد الإنفصال. فالردة الرجعية بعد فصم الوحدة، حاولت ضرب جميع مكاسب الإصلاح الزراعي، ولكن الرأسمالية الذكية وَجدت في هذه المحاولة التي تعارض معارضة كلية سياق التاريخ، ما يُهدد مصالحها هي أيضاً، عندما تتسع نقمة الجماهير على الشكل الذي تجلت به ضد البرلمان الأخير (برلمان كانون الثاني/ يناير ١٩٦٣)، الذي سادت فيه جمهرة من بقايا الإقطاع؛ فكانت المصالحة على الشكل الذي جاءت به تشريعات الحكومة السورية التي قامت بعد ۲۸ آذار/ مارس 1962.

   إن هذا التصور للصراع ليس حديث العهد بالنسبة إلينا، والسؤال الذي طرحناه على أنفسنا حين بدأ «الحكم الفردي»، يطبق الإصلاح الزراعي، ما مصير هذا التطبيق وهل هو في خط الثورة الاشتراكية ولصالحها؟

   إن الإجهاز على الإقطاع، وإن اتباع سياسة جذرية في الإصلاح الزراعي، هما ولا شك خطوة ديمقراطية صحيحة. ولكن هذه التطبيقات لا بد وأن تضع في حسابها دوماً مشروع المستقبل البعيد. والمشكلة الأساسية التي كنا نعانيها، كانت تتناول عدم الثقة بنظام الحكم وبهويته الاشتراكية، وبصفته الشعبية. وتطبيق الإصلاح الزراعي عندما لا يقوم به حكم اشتراكي ثوري، يضعه في إطار البناء العام المجتمع الاشتراكي، من الممكن أن يؤدي إلى إخراج طبقة مناضلة من ميدان الصراع، وأن يرضي مصالحها المباشرة الضيقة كي يعزلها عن حليفتها الطبيعية، وهي الطبقة العاملة في المدن والمصانع.

   وكان السؤال دائماً: ما هي ضمانات هذا الحكم، ما هو المستند الشعبي الذي يرتكز اليه، وما هي بنيته الطبقية؟ إذ أن الحكم دائماً، أي حكم، مهما تكن هويته، يعبر- من حيث المبدأ- عن مصالح طبقية. ولكي يكون الحكم اشتراكياً، ولكي يحمل ضمانات المستقبل، لا بد وأن يبرهن على اشتراكيته في بنيته. وأجهزة ذلك الحكم لم تكن اشتراكية، لا في تكوينها الطبقي، ولا في تفكير الكثير من القائمين عليها. وكثيراً ما كانت تنُم كتابات وتصريحات الكثير من الوزراء والمدراء والموجهين، عن منطق بورجوازي يعارض الاشتراكية كل المعارضة. وإذا لم يكن الحكم اشتراكياً من حيث بنيته ومستقبله، فإن تحقيقات الإصلاح الزراعي، بدلاً من أن تكون منجزات لحكم اشتراكي أو الحكم يسير في طريق الاشتراكية، يتمثله نظام من طبيعة غير اشتراكية ويسخره لمصلحته فيُسقط بالتالي طبيعته الاشتراكية. فالبورجوازية في أوربا بدلت نظام الملكية العقارية، وتمثلت نظاماً في الإصلاح الزراعي ألغى الإقطاع من غير أن يصعد بها في طريق الاشتراكية، والثورة في الاتحاد السوفياتي، اضطرت الى تصفية «الكولاك» بعد معارك دامية، عندما انعزلوا بمصالحهم وأصبحوا في الخط المعارض للثورة الاشتراكية.

   كان ذلك مطروحاً على الاشتراكيين الثوريين، ولو أن الظروف لم تُمكنهم من طرحه وإعلانه على الصعيد الشعبي. ولكن عبد الناصر لم يتوقف، إنه كان يعيش تناقضاً مع نظامه ومع أجهزته بل ومع نفسه. وأراد أن يدفع العجلة إلى الأمام.

    كان يتفاعل بتفكيره مع تجارب ماثلة أمامه في عدد من بلاد العالم، وكانت صلاته الوثيقة بيوغوسلافيا تزيد من هذا التفاعل. وكان يجد نفسه أمام زعماء في افريقيا، إذا لم يتح لهم، أو لم يجرؤوا بعد على خطوات اشتراكية كبيرة، فإنهم كانوا متأثرين إلى حد بعيد بالتفكير الماركسي، وبالتخطيط الاشتراكي القائم على عقيدة ونظرية. ودخل عبد الناصر وحكمه في صراع، إنه يريد أن يكون اشتراكياً، ولكن شروط التكوين الطبقي لذلك الحكم (أعني أجهزته)، ما كانت لتسمح له بأكثر من أن يقيم «اشتراكية فلاحية» إذا جاز التعبير. وكان رأس الحكم يحاول دوماً أن يتخطى أطر أجهزته وبيروقراطيته، لينادي إليه الشعب مباشرة. ولكن الشعب لا ينادي إلى الاشتراكية كجمهرة ضائعة الحدود، بل يسير إليها في قوى منظمة، من الكادحين الذين ترتبط الاشتراكية بمصالحهم وانعتاقهم، ومن المثقفين الثوريين الذين يربطون مصيرهم بمصير الكادحين، ويفتحون وعيهم على حقيقة الصراع وطريق الخلاص.

   ولكن عبد الناصر الذي جاء بحركة عسكرية من فوق الشعب، وكفرد أعطى لنفسه السلطة والعصمة، وأحاط به جهاز بيروقراطي ودعائي راح يؤلهه ويحيطه بطوق يعزله عن الشعب، ما كان بمقدوره أن يعطي للخط الاشتراكي محتواه الشعبي وضماناته الثورية، إلا إذا بدل شيئاً جذرياً في نفسه وفي تكوين حكمه وأجهزته، وهذا أمرٌ لم يحصل بعد، ولو أن الوعد به كان وما زال قائماً. لقد أراد الحكم أن يتخطى تكوينه وظروفه، وأن يتجاوب مع مستوى من التفكير والتخطيط الاشتراكيين في العالم، ولكن سبيله إلى ذلك كانت مسدودة، فوقع في تناقضات قاتلة عندما بدأ بخطواته الجريئة في التأميم…

   إن موقفنا هو الذي نجاهر به اليوم، ليس من مخلفات تجربة الانفصال بل هو موقف عبرنا عنه أيام الوحدة علناً. وكان محور الخلاف بيننا وبين ذلك الحكم، وطرحناه بشكل حاد عند عبد الناصر للاتحاد القومي وعندما قامت الانتخابات المُصطنعة لتكوين ذلك الاتحاد المُصطنع. وقلنا ذلك الحين: لا بد للدولة أن تقر أولاً بواقع الصراع الطبقي، وأن تفسح المجال أمام تكوين أداة شعبية ثورية، تقوم بدور الحامي للاتجاه التقدمي وللخطوات الاشتراكية، وأن يُفسح لهذا الاتجاه أن يقوم بمهمته في تصفية الرجعية السياسية والاقتصادية، ويمكن أن تتم هذه التصفية بالوسائل السلمية، إذا ما سار الحكم في طريق حماية التقدم وأقام تكوينه وأجهزته بشكل ينسجم وهذه الحماية، وإذا اطمأن للطبقة العاملة… ووثق بالشعب، ورفع عن كاهله وصاية الأجهزة البيروقراطية المشبوهة. وكثيراً ما كان الحاكم الفرد، يتجاوب في تصريحاته وخُطبه مع مثل هذا المنطق الثوري، ويبشر بحكم الشعب وديمقراطية الأجهزة، ولكن ذلك ظل وعداً، فالحاكم الفرد ظل عبداً لتكوين نظامه الخاص، المعزول عن الشعب.

   إن السلطة عندما تكون في يد حكم يقول إنه اشتراكي وثوري، ويتدخل في كل توجيه وتخطيط، فهو مُطالب بأن يكشف للشعب خطته وأن يخلق عند الجماهير وعياً لها، وأن يُعطيها وزنها وضماناتها، ولكن شيئاً من ذلك لم يتم. وجاءت كل خطوة وكأنها مفاجأة جديدة، بل كثيراً ما كان الحكم يصرح بالتوقف عند مرحلة وخطوة، ويهادن قوى الرجعية ويحالفها، ثم يأتيها بالضربة التالية.

   جاء الحكم بخطوة تعريب المصارف، وكانت خطوة جذرية جريئة (لو اكتملت ضماناتها) في تحرير الاقتصاد الوطني، من تابعيته المطلقة لاستثمارات الرأسمالية العالمية وتلاعبها، ولقد ذعِرت الرأسمالية التي يسمونها بالوطنية لهذا الإجراء، ولكنها وهي التي كانت تأمل دوماً بالالتفاف من حول حكم الفرد وتطويقه راحت ترسل له برقيات التأييد، إلى أن وافتها ضربة التأميمات…

   لقد جاءت البورجوازية إلى الوحدة وهي لا تعرف من خط هذا الحكم إلا مظاهره الأولى. وقبلت أن تتنازل بعض التنازلات، علها تجد فيه إنقاذاً لها من تهديد الاشتراكية الثورية وضغط الجماهير في سورية. ولقد سعت جهدها للالتفاف من حول الحكم، وراحت تضغط بكل وسائلها لتجعل من نظام الإصلاح الزراعي أولاً، ومن ثم قرارات التأميم، مجرد مظاهر ووعود. ولكنها كانت خائفة، فأمام ذلك الحكم أخذت تشعر تدريجياً بتقلص نفوذها الذي كان شاملاً وراسخاً، فراحت تلعب على مختلف المستويات: راحت تُهرب أموالها، وتتاجر بأموال الدولة، راحت تُمالئ الحكم وتتآمر عليه مع أجهزته نفسها، وراحت تمد يدها إلى الأجنبي وإلى جميع القوى الرجعية العربية تستنجد بها.. ودار الصراع خفياً، كان سلاح البورجوازية فيه التآمر، وتركت عقلية الحكم وأساليبه الطبقة العاملة مكبوتة وبغير سلاح.

   لم يُترك للشعب فرصة تصفية نظام الإقطاع تصفية كاملة، ولو أنه حقق خطوة في هذا السبيل، ولم يُترك له فرصة فرض نفسه على الرأسمالية وتسلطها.. وكأن الحكم كان يعتقد أن الرأسمالية يمكن أن تتخلى عن السلطة والتدخل ويمكن أن تتنازل، بمجرد أن يأمرها رئيس شرطة أو حاكم فرد.. وراح الصراع يدور في السر وفي العلن..

   إن قبضة الحكم كانت في مصر أشد منها في سورية، وكان قد أعَدَّ الأجهزة لتطبيق خطواته في مصر خلال عدة سنوات، أما هنا فقد أفلتَ الأمر من يده، وكانت ضربة الانفصال .

    وبعد الانفصال، سارت الجمهورية العربية المتحدة (المنحسرة الى مصر)، تتابع الطريق الذي سلكته في الاقتصاد المُوجه، وفي تعجيل خطوات التأميم، ونشأت فى سورية أوضاع جديدة.

   إن الحكم الرجعي الذي جاء عقب الانفصال، الذي تمثلت فيه مصالح البورجوازية الرأسمالية ورجال المصالح والبنوك، ومن ثم وريثه في البورجوازية والرجعية، الذي عقبه، أي الحكم الذي انبثق عن برلمان الانفصال، دخلا في صراع مع الطبقات الشعبية، حول مكتسبات الفلاحين والعمال أيام الوحدة. إن تلك المكاسب، لم تتمثلها البورجوازية ولم ترضخ لها، فراحت تحتال لنقضها والخلاص منها، فراحت جماهير الشعب ترفع شعارات هذه المكاسب، وأمام تهديد الرجعية عاد الفلاحون إلى ميدان الصراع السياسي، وصعدت الطبقة العاملة، وأخذت المعركة طابعاً جديداً. إن جو التوتر والنقمة الذي ساد جماهير الشعب منذ الانفصال، مازال يقوى ويزداد. فنكسة الانفصال، والظروف السياسية المختلفة التي أعقبتها، قد أسقطت جميع الأقنعة عن دافع الانفصال، وبرزت الرجعية السياسية والاقتصادية والأجهزة السياسية الانتهازية وجميع القوى التي تتغذى مصالحها من الردة الانفصالية، على وجهها الحقيقي رغم جميع محاولاتها في التستر والمخادعة والتزييف: إنها ضد جماهير الشعب، إنها عدوة مصالحها، إنها معارضة لأهدافها…

   فمعركة الوحدة والانفصال، قد أخذت مداها، لتبدأ جماهير شعبية واسعة تَحرُكها الواعي في خضم هذه المعركة. إنها تبشر بثورة، لا على الانفصال كمجرد فصم لوحدة دولة وضع فيها الشعب العربي أمله في التحرر الكامل والوحدة الكاملة، بل وعلى واقع الانفصال وأسبابه، وعلى جميع القوى والأفكار التي راحت تحاول ترسيخ قواعدها على أساس هذا الانفصال. إن جميع المعارك الجزئية التي تخوضها في المعامل والمدارس، في المدن والريف، وإن جميع الشعارات المرحلية التي تطرحها، سواء في حماية المكاسب الإقتصادية لعهد الوحدة، أو في المطالبة بتوحيد قطري الجمهورية العربية المتحدة من جديد، إن جميع الشعارات، تتجاوز في كل معركة جزئية، أهدافها ومطالبها المباشرة، لتُعبر عن التحرك الجماهيري الثوري نحو الوحدة. إن شعار الوحدة، هو الشعار الأول الذي يرتكز عليه نضال الجماهير، بعد أن امتزج النضال في سبيل الوحدة، بالنضال في سبيل الاشتراكية، وبعد أن اتخذ هدف الوحدة كل محتواه، وتبلور في إصرار شعب كبير على استرداد حريته الكلية وتحقيق وجوده الكامل.

……………………………..

يتبع.. الحلقة الثانية عشرة بعنوان: (طريق الاشتراكية وضماناتها وأداتها).. بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.