معقل زهور عدي
القومية العربية وتحولات الأربعينات
يمكن القول إن حزب البعث في نشأته الأولى كان انبعاثا حقيقيا لجمعية العربية الفتاة ضمن شريحة المثقفين من معلمين ومحامين وأطباء ..الذين ينتمون للطبقة المدينية الوسطى ( صغار التجار وأصحاب الحرف والمهن اليدوية ) , والفرق هو بذلك الزخم العاطفي اللغوي وتصعيد فكرة الارادة السياسية لتحقيق الوحدة مثلما هو بإدخال فكرة الاشتراكية لأول مرة ضمن الفكر القومي في نسيج واحد .
يظهر إدخال فكرة الاشتراكية بداية انتقال الفكر القومي العربي من الطبقة الأرستقراطية نحو الطبقة الوسطى المدينية وذلك منذ الكتابات الأولى لميشيل عفلق 1936.
ميشيل عفلق – في سبيل البعث
تصطبغ رؤية ميشيل عفلق للقومية بصبغة تبشيرية رسولية , فهي لاتقف عند أي تعريف أو مفهوم إلا لنفيه أو تبنيه , هي لاتهتم بالواقع بقدر اهتمامها بالهدف النهائي , تغرق في الروح الحماسية , فهي ليست فكرا سياسيا يحلل أو يساعد على التحليل بقدر ماهي محاولة لإقحام الإرادة في الفكر , وإخضاع الفكر للارادة , لذلك فهي كثيرا ماتخلط الأمور ببعضها , وهي مستعدة دائما لاعادة تشكيل بنيتها الفكرية الهشة وإعادة صياغة المفاهيم الأساسية في تلك البنية . ومن أجل الابقاء على تماسك الفكر يأتي دور الايمان .
كتب ميشيل عفلق تحت عنوان ” القومية العربية والنظرية القومية ” : ” إن اصطلاح “القومية العربية” في استعماله الشائع اليوم هو خليط من أفكار واتجاهات سياسية وعواطف ومن رواسب وانحرافات سلبية وايجابية جعلته بعيدا عن المعنى الصادق الخلاق الذي يوحي به , بحيث نرى القومية تارة مرادفة للتعصب والتوسع , وتارة مقيدة في أغلال من العنصر أو الدين أو التاريخ أو مساوية للوحدة ورفض التجزئة , أو لوحدة النضال الشعبي , مع أن هذه المعاني كلها , السلبية والايجابية , عارضة متبدلة جزئية , والقومية هي وحدها الخالدة الثابتة الشاملة .”
فالقومية العربية خالدة شاملة , أما كل ذلك الكم من الأفكار والاتجاهات السياسية والعواطف ..الخ ..الذي يشبه أكواما من أثاث قديم وضع بعضه فوق بعض فهي كلها عرضية جزئية .
ليس سهلا استخراج مايقصد تماما ميشيل بعبارة ملتبسة كهذه , ومثل تلك العبارة ليست استثناء لدى كتابات ميشيل بل تكاد تكون القاعدة .
كل ما نستطيع استنتاجه بحد معقول من اليقين أن قوميته العربية جوهر أبدي خالد ثابت يتصف بالشمول فهو شيء مطلق , بينما تتساقط حوله كل المصطلحات والمفاهيم والأفكار التي تحاول تعريفه أو الالتصاق به .
ذلك بالضبط عمل الايديولوجيا أي الانتقال من النسبي المتغير نحو المطلق الثابت .
وباعتباره مطلقا وثابتا وشاملا فلايحتاج لدليل , هنا يدخل عنصر الايمان بدلا عن العقل والتفكير النقدي , يتأكد ذلك عندما يستطرد ميشيل : ” إن القومية العربية لدى البعث هي واقع بديهي يفرض نفسه دون حاجة لنقاش أو نضال أما مجال الاختلاف وضرورة النضال فهما في محتوى هذه القومية “
لكن الواقع ليس هو القومية العربية بل التجزئة فماذا يقصد ميشيل بالقول “إن القومية العربية لدى البعث هي واقع بديهي ….” لابد أنه يقصد القول إن القومية العربية لدى البعث هي معطى بديهي وذلك يدعم ماسبق أن قاله باعتبار القومية العربية جوهرا تتساقط حوله المصطلحات المتبدلة أي حقيقة بدهية أولية لابد أن تكون مؤمنا بها لتدخل محراب البعث وهي لاتحتاج للبرهان بل للإيمان .
حسنا , نأتي إلى مايمكن مناقشته في القومية العربية وفق ميشيل أي المحتوى وكأن ماهية الشيء مستقلة عن محتواه ! لكن لابأس لقد تعودنا في كتابات ميشيل على مثل تلك المفارقات المنطقية , فماذا يقصد ميشيل بالمحتوى ؟
المحتوى وفق ماذكره ميشيل لاحقا هو ” الحرية والاشتراكية والوحدة ” ولن نناقش هنا في ذلك المحتوى لكننا سنناقش في كون ذلك المحتوى يزيد من الحمولة الايديولوجية للقومية العربية البعثية , فالقومية العربية لجمعية العربية الفتاة كانت أقرب للفكر السياسي بدونه , لقد كانت تحصر همها في أن تحترم الدولة العثمانية الحقوق القومية للعرب أولا , ثم انتقلت بعد ذلك لفكرة الدولة العربية الكبرى مع الشريف حسين , ثم تراجعت لفكرة الدولة العربية النواة مع الاحتفاظ بالحلم العربي حين تسمح به الظروف السياسية , وحتى في هذه لم تتضمن القومية العربية في ذلك الوقت أية فكرة لفرض الوحدة أو الذهاب لوحدة اندماجية حتى مع لبنان , كما لم تتعرض لمسائل كالاشتراكية , وقد كانت الديمقراطية في العهد الفيصلي الذي شهد أفضل مناخ للحريات العامة ربما في مجمل التاريخ الحديث لسورية ديمقراطية مستمدة من الديمقراطية الغربية دون ادعاءات ايديولوجية .
يخفي الطابع الايديولوجي لعقيدة البعث القومية غموض ماقال عنه ميشيل المحتوى , ذلك الغموض الذي سيكون لاحقا مرتعا خصبا للانشقاقات وإعادة تفسير أو تركيب ” المحتوى ” .
على أية حال مايهمنا هنا هو الفارق الكبير بين الفكر القومي العربي في نشأته الأصلية , وخلال العهد الفيصلي وبقائه كما هو في عهد الانتداب الفرنسي ثم التحول الكبير الذي طرأ على ذلك الفكر حين تم وضعه بإطار ايديولوجي ايماني على يد الآباء المؤسسين لحزب البعث مع مطلع الأربعينات من القرن الماضي .
في الايديولوجيا كما في العشق لامكان للعقلانية والنقد , وحين تسيطر في حقل السياسة فهناك خطر الانجراف نحو الأخطاء الكبرى , ليس تشبيه الايديولوجيا بالعشق من عندنا بل جاء بصورة صريحة في كتابات ميشيل عفلق : ” فرق الحزب منذ تأسيسه بين ” الفكرة العربية ” وعنينا بها القومية العربية وبين ” النظرية القومية ” , فقال إن الفكرة العربية بديهية خالدة , وإنها قدر محبب وإنها حب قبل كل شيء “
لكن ماذا يعني ميشيل عفلق بذلك ؟ وميشيل يحتاج دائما لمن يفسر جمله الرومانسية الغامضة في كثير من الأحيان .
يبدو أنه يعني التفريق بين الانتماء العربي أو الهوية العربية باعتبارها معطى موضوعي تاريخي ثقافي لغوي وبين مصطلح القومية العربية ذي المضمون الارادي والذي يحمل المحتوى السياسي ” الوحدة والحرية والاشتراكية ” وهذا التمييز مهم ومنطقي إلى حد ما لولا أنه لايصنع حدودا نهائية في الفكر القومي العربي البعثي , لكن المفارقة هنا أنه بدلا من أن يكون الانتماء القومي العربي الذي جاء بتعبير ” الفكرة العربية ” مسألة موضوعية لاعلاقة لها بالارادة الانسانية فهو لدى ميشيل عفلق ” حبا ” خالصا , ولا شك أن هذا الحب سيطغى على ” النظرية القومية ” بل سيسوقها أمامه وهذا ما حصل في وحدة 1958 .
ربما ينصرف فكر القارىء إلى أنني أعتبر الايديولوجيا شرا مطلقا كما يتم تصويرها اليوم ضمن فريق من النخب السورية , لكن الأمر ليس كذلك تماما , فالايديولوجيا ليست شرا مطلقا , لقد كانت ضرورة لحشد الناس وراء هدف محدد في مرحلة محددة ومنحهم الحماس اللازم للتضحية في سبيل ذلك الهدف , وهي بذلك تلعب دورا هاما للغاية وايجابيا عندما يكون الهدف واقعيا وضروريا , لكن المشكلة عندما تطغى الايديولوجيا على التفكير العقلاني النقدي وتقوم هي بتحديد هدف غير واقعي فهنا تقود بلاشك نحو أخطاء كبرى .
ففي لحظة طرح الاتحاد مع مصر كان ينبغي الإصرار على شكل اتحاد فدرالي أو كونفدرالي , يبقي لسورية كيانها السياسي ونظامها البرلماني وعمل ونشاط الأحزاب وحرية الصحافة ..الخ .. والاتحاد التدريجي في مسائل محددة ” الدفاع والسياسة الخارجية ” , وعدم التفريط في تلك الشروط هذا التفريط الذي تم بالفعل كتضحية من أجل الهدف الأسمى ” الوحدة ” . لكن ثمن الانسياق وراء ” العشق ” على حساب العقلانية يتم دفعه دائما في وقت لاحق , وعادة ما يكون الثمن كبيرا كما كان عليه بالفعل في الانفصال عام 1961 . والذي كان ضربة كبرى لا للكيان الوحدوي الجديد فقط ولكن لواقعية فكرة الوحدة العربية .
نخلص مما سبق إلى أن الفكر القومي العربي قد تحول في الأربعينات والخمسينات إلى ايديولوجيا القومية العربية ذات الطابع الشمولي الاطلاقي الايماني الذي ينظر للقومية العربية كجوهر مستقل أبدي ” ذات رسالة خالدة ” فمن يحمل الرسالة الخالدة لابد أن يكون خالدا أيضا , وهناك ذلك التمييز ذو الطابع الكهنوتي بين الجوهر الخالد وتجلياته في الزمان والمكان ونعني به المحتوى الذي أشار إليه ميشيل سابقا .